Skip to main content

لزوم كفارة المسيح

الفداء أو الطريق الإِلهي للغفران

الصفحة 1 من 7

1 - ضرورة الفداء أو التعويض

لا سبيل للحصول على الغفران أو التمتع باللّه إلا إذا تم أولاً إيفاء مطالب عدالته وقداسته بوسيلة ما كما سلف ذكره. لكن الذين لا يدركون هذه الحقيقة، أو يدركونها لكن يتغاضون عنها لعدم معرفتهم بكيفية إتمامها، يريحون ضمائرهم من جهة الغفرن والتمتع باللّه، بترك الأمر إلى رحمته. 

ونحن وإن كنا نعتز برحمة اللّه كل الاعتزاز، ونؤمن أنه لا حد لها على الإطلاق، وأنها وحدها هي الكفيلة بالإتيان إلينا بالصفح والغفران، لكن لكي لا يكون الاعتماد عليها مؤسساً على مجرد الأمل أو العشم، بل على الحق والواقع نقول:

لنفرض أنَّ قضية رُفعت إلى قاض مشهور بالرحمة والرأفة، لكنه إلى ذلك يقدّس العدل ولا يفرّط في حق، فهل يجوز للمذنب أن يُطمْئِن نفسَه بأن هذا القاضي سوف يبرئ ساحته لأن قلبه الرحيم الرؤوف لا يرضى بتوقيع العقوبة القانونية عليه؟ (الجواب) طبعاً لا. وعلى هذا النسق تماماً نقول: بما أنَّ اللّه كما أنه رحيم رؤوف هو عادل وقدوس أيضاً، إذاً لا يجوز أن نُطَمْئِن نفوسنا بما هو عليه من رحمة ورأفة، قبل أن نعرف الوسيلة التي تؤهلنا للتمتع بها دون الإجحاف بمطالب عدالته وقداسته، فما هي الوسيلة يا ترى؟

الجواب: بما أننا لا نستطيع بالصلاة والصوم والتوبة والأعمال الصالحة أن نفي مطالب عدالة اللّه وقداسته التي لا حد لها. ومن ناحية أخرى بما أن عدالة اللّه وقداسته لا تقلان في شيء عن رحمته ومحبته، وذلك لكماله المطلق وتوافق كل صفاته معا كما ذكرنا. إذاً إن كان هناك مجال للتمتع بالغفران والقبول أمام اللّه (ومن المؤكد أن يكون هناك مجال للتمتع بهما، لأن صفتي الرحمة والمحبة في اللّه لا يمكن أن تكونا بلا عمل)، لا بد من الفداء أو التعويض، أو بالحري لا بد من إيفاء مطالب عدالةاللّه وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا - وإيفاء هذه المطالب يستلزم طبعاً من هذا الكائن أن يقبل على نفسه القصاص الذي نستحقه بسبب خطايانا تنفيذاً لمطالب عدالة اللّه، وأن يهبنا أيضاً طبيعة روحية تجعلنا أهلاً للتوافق مع اللّه في صفاته الأدبية لسامية تنفيذاً لمطالب قداسته.

أما الفداء في اللغة العبرية فهو الترضية وإزالة الأحقاد بعد دفع التعويض. وفي اللغة العربية هو الإنقاذ وليس بدون مقابل، بل بعد تقديم التضحية اللازمة، وقد تكون هذه التضحية مالاً أو غير مال، فقد جاء في القاموس المحيط «فداه»أي دفع شيئً فأنقذه، ومن ثمّ يكون قد اشتراه ثانية. أما في اللغات الأوروبية فيُراد بالفداء أربعة أمور: (1) استرداد الشرف المُعتدَى عليه (2) إطلاق سراح الأسير (3) استعادة الشيء المرهون (4) إنقاذ شخص من أزمة أو موت. وكل ذلك بواسطة تضحية أو مجهود ما.

أما الاعتراضات التي توجَّه ضد هذه الحقيقة، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - القاضي الوارد ذكره في المثل السابق، مقيَّد بقوانين يجب عليه تطبيقها، فضلاً عن ذلك له رؤساء يراقبون كل أحكامه. لكن اللّه لا يتقيد بقوانين ولا يراقب عمله رؤساء، لذلك له أن يصفح عنا ويقربنا إليه بدافع من رحمته وحدها.

الرد:وإن كان الله لا يتقيّد بقوانين ولا يراقب أحدٌ عمله، لكن له كماله الذاتي الذي ينزّهه عن القيام بأي عمل لا يتفق مع عدالته وقداسته.. حقاً إن اللّه يستطيع أن يعمل كل شيء، لكن استطاعته هذه لا تتعدّى خواصه الذاتية، لأنه لكماله لا يستطيع (مع قدرته التي لا حدّ لها) أن يعمل عملاً يتعارض مع هذه الخواص. فهو (مثلاً) لا يستطيع أن يكون كاذباً أو ماكراً، لأن الصدق والاستقامة صفتان ثابتتان فيه. وكذلك لا يستطيع أن يكون متساهلاً أو متهاوناً مع الشر، لأن العدالة والأمانة صفتن ثابتتان أيضاً فيه. فلا بد من إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا يكون قادراً على القيام بهذه المهمة، يُعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يكون معها كأنه لم يُعْتَدَ عليه، وأن يعطينا حياة روحية تسمو بنا إلى حالة التوافق مع اللّه في صفاته الأربع السامية، طالما نحن غير قادرين على القيام بهذين العملين، وإلا فلا غفران لنا.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الإنسان (مثلاً) يستطيع ألا يكذب، أما اللّه فلا يستطيع أن يكذب. فالعبارة الأولى تدل على القدرة على عدم الكذب، أما الثانية فتدل على استحالة الالتجاء إلى الكذب، وبالحري تدل على التنزُّه المطلق على الكذب، وهذ ما يليق باللّه دون سواه.

2 - هل من العدالة أن يقوم كائن بريء بالتعويض عن خطايا أحد المذنبين؟

الرد:فضلاً عن أن البريء هو الذي يحقّ له قانوناً التعويض عن المذنبين، لأن هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن مذنبين نظيرهم، لأنهم في ذواتهم يحتاجون إلى من يقوم بالتعويض عن ذنوبهم، نقول:

إن مبدأ النيابة مبدأ سليم تشهد العدالة بقانونيته، طالما كان النائب قادراً وموافقاً على القيام بمطالب النيابة. فالشخص الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه في قضية ما، ينتخب نائباً قانونياً للدفاع عنه، ولا تمانع المحكمة في هذا التصرف بل تلزم به.

والمدين الذي يعجز عن سداد دَيْنه يقوم النائب أو الضامن بسداده نيابة عنه، وبذلك يخلص المدين من دينه وما يترتب عليه من مسئولية أمام العدالة. والأب الفاضل يتحمل في نفسه نتائج أخطاء أبنائه عوضاً عنهم. والجندي الباسل يبذل نفسه فدية عن أهله ووطنه - وليس من يعترض على واحد من هؤلاء، بل أننا جميعاً نبجّلهم ونشيد بأعمالهم.

3 - أليس عجزنا جميعاً عن إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته مبرراً كافياً يدعوه للعفو عنا وتقريبنا إليه، دون أن يلزمنا بالبحث عن كائن يفي هذه المطالب عوضاً عنا، لا سيما إذا كان من المتعذر علينا العثور عليه؟

الرد:إذا عفا اللّه عنا وقرّبنا إليه لمجرد عجزنا عن إيفاء مطالب عدالته وقداسته، يكون قد تنازل عن المطالب المذكورة مضطراً. وبما أنه حاشا للّه أن يُرغَم على القيام بعمل يتعارض مع عدالته أو قداسته، لذلك لا مفرّ من إيفاء مطالب عدالة للّه وقداسته بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا، وإلا فلا خلاص لنا على الإِطلاق، كما ذكرنا فيما سلف.

4 - كثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا دون أن نُلزمهم بتعويض ما، فهل يكون اللّه أقل عطفاً أو شفقة منا؟

الرد:(ا) لا تجوز المقارنة بين معاملة اللّه معنا وبين معاملة بعضنا للبعض الآخر، لأننا تارة نصفح تحت تأثرنا بعواطفنا البشرية دون أن يكون هناك مبرر كاف للصفح، وتارة نعاقب تحت تأثرنا بمصالحنا الشخصية دون أن يكون هناك مبرر كاف للعقوة. وكثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا بسبب نسياننا لإِساءتهم أو لهبوط درجة تأثرنا بها، أو بسبب شعورنا بنقائصنا ورغبتنا الباطنية في أن يصفح الناس عنا عندما نخطئ نحن إليهم. أما اللّه ففضلاً عن أنه لا ينسى شيئاً، ولا يتغير، فإنه بسبب كماله لمطلق من جهة، وتوافق كل صفاته معاً من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون متساهلاً بمراعاة الرحمة دون العدالة في حالة الصفح. أو قاسياً بالتمسك بالعدالة دون الرحمة في حالة العقوبة، بل يصفح إذا كان الصفح لا يتعارض مع مطالب عدالته، ويعاقب إذا كان القاب لا يتجاوز مطالب رحمته، لأنه ليس رحيماً في وقت وعادلاً في وقت آخر، بل إنه رحيم وعادل معاً في كل وقت من الأوقات. وإذا كان الأمر كذلك، فلا سبيل إلى الغفران إلا إذا وُفيّت مطالب عدالته، ولا سبيل إلى التمتع بالوجود معه إلا إذا تحققت مطاب قداسته، إما بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا.

(ب) كما أننا إذا وضعنا أمامنا أنَّ الناموس الأدبي الذي وضعه اللّه لنا، يتوافق مع صفاته كل التوافق، وأنَّ هذا الناموس نفسه هو الذي يربط الخطية بعقوبتها، أدركنا (1) أنه لا يمكن الفصل بين هذه وتلك، إذ أنَّ هذا الفصل يكون بمثابة قطع اعلاقة بين اللّه وبين ناموسه الأدبي الذي يتوافق مع صفاته - وهذا ما لا يمكن حدوثه، إذ يترتب عليه أن يكون اللّه قد نهى عن السرقة والزنا (مثلاً) وفي الوقت نفسه سمح للصوص والزناة بالتمتع به في سمائه، مناقضاً نفسه بنفسه. (2) إنَّ تجاوز اللّهعن خطايانا يكون موافقة منه عليها، أو تنحياً منه عن المحافظة على الناموس الأدبي الذي وضعه، وهذا الأمر وذاك باطلان. وإذا كان الأمر كذلك، فطبعاً لا سبيل إلى الغفران، إلا بعد الفداء أو التعويض كما ذكرنا.

5 - يصفح الملوك عن بعض المذنبين المحكوم عليهم بالإعدام بأمر ملكي يصدرونه، فكيف لا يستطيع اللّه الصفح عن الخطاة على هذا النحو؟

الرد:إنَّ الملوك الذين يقومون بهذا العمل، لا يكونون متأثرين شخصياً بجرائم هؤلاء الأشخاص، أو بالعدالة المطلقة في بلادهم، أو بقوانين الأخلاق العامة فيها، أو يكونون مضطرين للقيام به لوجود علاقة تربطهم بالأشخاص المذكورين، أو لاجتذابفريق من الناس إلى جانبهم، أو لتجنيب بلادهم انقلاباً أو ثورة داخلية. لكن اللّه يتأثر مع روحانيته المطلقة بالخطايا التي نرتكبها (كما ذكرنا فيما سلف)، كما أنَّ العدالة لديه ليست مجرد قانون مكتوب أو غير مكتوب، بل إنها صفة ثابتة فيه يجب إيفاء مطالبها مهما كانت الظروف والأحوال. فضلاً عن ذلك ليس هناك من يرغمه على القيام بعمل، مجاملة لبعض الناس أو خوفاً منهم، ومن ثم لا يمكن أن يصفح إلا إذا كان الصفح قانونياً، متوافقاً مع عدالته المطلقة كل التوافق.

أخيراً نقول إنَّ الذين يريدون أن يصفح اللّه عنهم بكلمة، ينظرون إلى الخطية نظرة سطحية. لكن الحقيقة غير ذلك، لأن الخطية ليست مثل القذارة التي يمكن إزالتها بالماء أو بغيره، بل إنها بالإضافة إلى كونها أكبر إهانة لجلال اللّه (كما ذكرنا فيما سلف)، هي شر ينبع من طبيعة فاسدة كل الفساد. لذلك لا مفر من التسليم بأنه لا يمكن الصفح عن الخطاة أو تقريبهم إلى اللّه، إلا إذا وُفِّيت أولاً مطالب عدالته وقداسته معاً بوسيلة ما.

6 - إن الكمال المطلق الذي يتّصف اللّه به، يجعله لا يتقيَّد بأي قيد، فتكون له الحرية المطلقة في الصفح عن الخطاة دون أن يُلزمهم بتعويض له.

الرد:إنَّ الحرية المطلقة في نظر اللّه ليست هي الحرية المطلقة في نظر الناس. فالناس ينظرون إلى الحرية المطلقة كأنها المجال الذي يفعلون فيه ما يريدون، بغض النظر عن الكمال وقوانينه الثابتة. فالحرية المطلقة في نظرهم هي الإِباحية بأوس معانيها. أما الحرية المطلقة في نظر اللّه، فهي المجال الذي يفعل فيه كل ما يريد في حدود كماله الذاتي. لذلك فكما أنه لا يمكن أن يرفض شخصاً متوافقاً معه في صفاته الأدبية، لا يمكن أيضاً أن يقبل في حضرته شخصاً غير متوافق معه فيها - فقد قال اوحي إن إدانة البريء وتبرئة المذنب كلاهما مكرهة عند الرب (أمثال 17: 15).

ونحن بذلك لا نقسو على أنفسنا أو نقيم العراقيل أمامها من جهة الحصول على الغفران، بل نبحث السبيل إليه من الناحية التي تتناسب مع موقف عدالة اللّه وقداسته إزاء الخطية وشناعتها، حتى لا تكون نظرتنا إلى الغفران مؤسسة على تصوراتنا الشخصيةبل على الحقائق الإِلهية. لأننا لا نحصل عليه بمجهودنا الذاتي، بل اللّه هو الذي يمنحه لنا، وذلك بناء على نواميسه الخاصة. وهذه النواميس ثابتة راسخة، لا تتغير ولا تتبدل على الإِطلاق.

نشأة الفداء
الصفحة
  • عدد الزيارات: 26407
إحصل على نسختك المجانية من الإنجيل المقدس يصل إلى عنوانك البريدي أو بواسطة صديق.
شاهد فيلم المسيح بلهجتك الخاصة متوفر بعدة لهجات من مختلف الدول العربية مثل اللهجة الجزائرية والتونسية والمصرية وغيرها.
إلى زوارنا في البلاد العربية بامكانكم الإتصال بأحد مرشدينا مباشرة من الساعة التاسعة صباحا حتى الثالثة مساء بتوقيت مصر.
سلسلة قصص درامية باللغة العربية عن أنبياء الله في العهد القديم تبدأ من قصة آدم وحواء حتى قصة الملك داود.