Skip to main content

لزوم كفارة المسيح

الفداء أو الطريق الإِلهي للغفران

1 - ضرورة الفداء أو التعويض

لا سبيل للحصول على الغفران أو التمتع باللّه إلا إذا تم أولاً إيفاء مطالب عدالته وقداسته بوسيلة ما كما سلف ذكره. لكن الذين لا يدركون هذه الحقيقة، أو يدركونها لكن يتغاضون عنها لعدم معرفتهم بكيفية إتمامها، يريحون ضمائرهم من جهة الغفرن والتمتع باللّه، بترك الأمر إلى رحمته. 

ونحن وإن كنا نعتز برحمة اللّه كل الاعتزاز، ونؤمن أنه لا حد لها على الإطلاق، وأنها وحدها هي الكفيلة بالإتيان إلينا بالصفح والغفران، لكن لكي لا يكون الاعتماد عليها مؤسساً على مجرد الأمل أو العشم، بل على الحق والواقع نقول:

لنفرض أنَّ قضية رُفعت إلى قاض مشهور بالرحمة والرأفة، لكنه إلى ذلك يقدّس العدل ولا يفرّط في حق، فهل يجوز للمذنب أن يُطمْئِن نفسَه بأن هذا القاضي سوف يبرئ ساحته لأن قلبه الرحيم الرؤوف لا يرضى بتوقيع العقوبة القانونية عليه؟ (الجواب) طبعاً لا. وعلى هذا النسق تماماً نقول: بما أنَّ اللّه كما أنه رحيم رؤوف هو عادل وقدوس أيضاً، إذاً لا يجوز أن نُطَمْئِن نفوسنا بما هو عليه من رحمة ورأفة، قبل أن نعرف الوسيلة التي تؤهلنا للتمتع بها دون الإجحاف بمطالب عدالته وقداسته، فما هي الوسيلة يا ترى؟

الجواب: بما أننا لا نستطيع بالصلاة والصوم والتوبة والأعمال الصالحة أن نفي مطالب عدالة اللّه وقداسته التي لا حد لها. ومن ناحية أخرى بما أن عدالة اللّه وقداسته لا تقلان في شيء عن رحمته ومحبته، وذلك لكماله المطلق وتوافق كل صفاته معا كما ذكرنا. إذاً إن كان هناك مجال للتمتع بالغفران والقبول أمام اللّه (ومن المؤكد أن يكون هناك مجال للتمتع بهما، لأن صفتي الرحمة والمحبة في اللّه لا يمكن أن تكونا بلا عمل)، لا بد من الفداء أو التعويض، أو بالحري لا بد من إيفاء مطالب عدالةاللّه وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا - وإيفاء هذه المطالب يستلزم طبعاً من هذا الكائن أن يقبل على نفسه القصاص الذي نستحقه بسبب خطايانا تنفيذاً لمطالب عدالة اللّه، وأن يهبنا أيضاً طبيعة روحية تجعلنا أهلاً للتوافق مع اللّه في صفاته الأدبية لسامية تنفيذاً لمطالب قداسته.

أما الفداء في اللغة العبرية فهو الترضية وإزالة الأحقاد بعد دفع التعويض. وفي اللغة العربية هو الإنقاذ وليس بدون مقابل، بل بعد تقديم التضحية اللازمة، وقد تكون هذه التضحية مالاً أو غير مال، فقد جاء في القاموس المحيط «فداه»أي دفع شيئً فأنقذه، ومن ثمّ يكون قد اشتراه ثانية. أما في اللغات الأوروبية فيُراد بالفداء أربعة أمور: (1) استرداد الشرف المُعتدَى عليه (2) إطلاق سراح الأسير (3) استعادة الشيء المرهون (4) إنقاذ شخص من أزمة أو موت. وكل ذلك بواسطة تضحية أو مجهود ما.

أما الاعتراضات التي توجَّه ضد هذه الحقيقة، ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - القاضي الوارد ذكره في المثل السابق، مقيَّد بقوانين يجب عليه تطبيقها، فضلاً عن ذلك له رؤساء يراقبون كل أحكامه. لكن اللّه لا يتقيد بقوانين ولا يراقب عمله رؤساء، لذلك له أن يصفح عنا ويقربنا إليه بدافع من رحمته وحدها.

الرد:وإن كان الله لا يتقيّد بقوانين ولا يراقب أحدٌ عمله، لكن له كماله الذاتي الذي ينزّهه عن القيام بأي عمل لا يتفق مع عدالته وقداسته.. حقاً إن اللّه يستطيع أن يعمل كل شيء، لكن استطاعته هذه لا تتعدّى خواصه الذاتية، لأنه لكماله لا يستطيع (مع قدرته التي لا حدّ لها) أن يعمل عملاً يتعارض مع هذه الخواص. فهو (مثلاً) لا يستطيع أن يكون كاذباً أو ماكراً، لأن الصدق والاستقامة صفتان ثابتتان فيه. وكذلك لا يستطيع أن يكون متساهلاً أو متهاوناً مع الشر، لأن العدالة والأمانة صفتن ثابتتان أيضاً فيه. فلا بد من إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته بواسطة كائن عوضاً عنا يكون قادراً على القيام بهذه المهمة، يُعيد إلى حق اللّه قدسيته بالدرجة التي يكون معها كأنه لم يُعْتَدَ عليه، وأن يعطينا حياة روحية تسمو بنا إلى حالة التوافق مع اللّه في صفاته الأربع السامية، طالما نحن غير قادرين على القيام بهذين العملين، وإلا فلا غفران لنا.

ومما تجدر الإشارة إليه أن الإنسان (مثلاً) يستطيع ألا يكذب، أما اللّه فلا يستطيع أن يكذب. فالعبارة الأولى تدل على القدرة على عدم الكذب، أما الثانية فتدل على استحالة الالتجاء إلى الكذب، وبالحري تدل على التنزُّه المطلق على الكذب، وهذ ما يليق باللّه دون سواه.

2 - هل من العدالة أن يقوم كائن بريء بالتعويض عن خطايا أحد المذنبين؟

الرد:فضلاً عن أن البريء هو الذي يحقّ له قانوناً التعويض عن المذنبين، لأن هؤلاء لا يستطيعون التعويض عن مذنبين نظيرهم، لأنهم في ذواتهم يحتاجون إلى من يقوم بالتعويض عن ذنوبهم، نقول:

إن مبدأ النيابة مبدأ سليم تشهد العدالة بقانونيته، طالما كان النائب قادراً وموافقاً على القيام بمطالب النيابة. فالشخص الذي لا يستطيع الدفاع عن نفسه في قضية ما، ينتخب نائباً قانونياً للدفاع عنه، ولا تمانع المحكمة في هذا التصرف بل تلزم به.

والمدين الذي يعجز عن سداد دَيْنه يقوم النائب أو الضامن بسداده نيابة عنه، وبذلك يخلص المدين من دينه وما يترتب عليه من مسئولية أمام العدالة. والأب الفاضل يتحمل في نفسه نتائج أخطاء أبنائه عوضاً عنهم. والجندي الباسل يبذل نفسه فدية عن أهله ووطنه - وليس من يعترض على واحد من هؤلاء، بل أننا جميعاً نبجّلهم ونشيد بأعمالهم.

3 - أليس عجزنا جميعاً عن إيفاء مطالب عدالة اللّه وقداسته مبرراً كافياً يدعوه للعفو عنا وتقريبنا إليه، دون أن يلزمنا بالبحث عن كائن يفي هذه المطالب عوضاً عنا، لا سيما إذا كان من المتعذر علينا العثور عليه؟

الرد:إذا عفا اللّه عنا وقرّبنا إليه لمجرد عجزنا عن إيفاء مطالب عدالته وقداسته، يكون قد تنازل عن المطالب المذكورة مضطراً. وبما أنه حاشا للّه أن يُرغَم على القيام بعمل يتعارض مع عدالته أو قداسته، لذلك لا مفرّ من إيفاء مطالب عدالة للّه وقداسته بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا، وإلا فلا خلاص لنا على الإِطلاق، كما ذكرنا فيما سلف.

4 - كثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا دون أن نُلزمهم بتعويض ما، فهل يكون اللّه أقل عطفاً أو شفقة منا؟

الرد:(ا) لا تجوز المقارنة بين معاملة اللّه معنا وبين معاملة بعضنا للبعض الآخر، لأننا تارة نصفح تحت تأثرنا بعواطفنا البشرية دون أن يكون هناك مبرر كاف للصفح، وتارة نعاقب تحت تأثرنا بمصالحنا الشخصية دون أن يكون هناك مبرر كاف للعقوة. وكثيراً ما نصفح عن المسيئين إلينا بسبب نسياننا لإِساءتهم أو لهبوط درجة تأثرنا بها، أو بسبب شعورنا بنقائصنا ورغبتنا الباطنية في أن يصفح الناس عنا عندما نخطئ نحن إليهم. أما اللّه ففضلاً عن أنه لا ينسى شيئاً، ولا يتغير، فإنه بسبب كماله لمطلق من جهة، وتوافق كل صفاته معاً من جهة أخرى، لا يمكن أن يكون متساهلاً بمراعاة الرحمة دون العدالة في حالة الصفح. أو قاسياً بالتمسك بالعدالة دون الرحمة في حالة العقوبة، بل يصفح إذا كان الصفح لا يتعارض مع مطالب عدالته، ويعاقب إذا كان القاب لا يتجاوز مطالب رحمته، لأنه ليس رحيماً في وقت وعادلاً في وقت آخر، بل إنه رحيم وعادل معاً في كل وقت من الأوقات. وإذا كان الأمر كذلك، فلا سبيل إلى الغفران إلا إذا وُفيّت مطالب عدالته، ولا سبيل إلى التمتع بالوجود معه إلا إذا تحققت مطاب قداسته، إما بواسطتنا أو بواسطة كائن آخر عوضاً عنا.

(ب) كما أننا إذا وضعنا أمامنا أنَّ الناموس الأدبي الذي وضعه اللّه لنا، يتوافق مع صفاته كل التوافق، وأنَّ هذا الناموس نفسه هو الذي يربط الخطية بعقوبتها، أدركنا (1) أنه لا يمكن الفصل بين هذه وتلك، إذ أنَّ هذا الفصل يكون بمثابة قطع اعلاقة بين اللّه وبين ناموسه الأدبي الذي يتوافق مع صفاته - وهذا ما لا يمكن حدوثه، إذ يترتب عليه أن يكون اللّه قد نهى عن السرقة والزنا (مثلاً) وفي الوقت نفسه سمح للصوص والزناة بالتمتع به في سمائه، مناقضاً نفسه بنفسه. (2) إنَّ تجاوز اللّهعن خطايانا يكون موافقة منه عليها، أو تنحياً منه عن المحافظة على الناموس الأدبي الذي وضعه، وهذا الأمر وذاك باطلان. وإذا كان الأمر كذلك، فطبعاً لا سبيل إلى الغفران، إلا بعد الفداء أو التعويض كما ذكرنا.

5 - يصفح الملوك عن بعض المذنبين المحكوم عليهم بالإعدام بأمر ملكي يصدرونه، فكيف لا يستطيع اللّه الصفح عن الخطاة على هذا النحو؟

الرد:إنَّ الملوك الذين يقومون بهذا العمل، لا يكونون متأثرين شخصياً بجرائم هؤلاء الأشخاص، أو بالعدالة المطلقة في بلادهم، أو بقوانين الأخلاق العامة فيها، أو يكونون مضطرين للقيام به لوجود علاقة تربطهم بالأشخاص المذكورين، أو لاجتذابفريق من الناس إلى جانبهم، أو لتجنيب بلادهم انقلاباً أو ثورة داخلية. لكن اللّه يتأثر مع روحانيته المطلقة بالخطايا التي نرتكبها (كما ذكرنا فيما سلف)، كما أنَّ العدالة لديه ليست مجرد قانون مكتوب أو غير مكتوب، بل إنها صفة ثابتة فيه يجب إيفاء مطالبها مهما كانت الظروف والأحوال. فضلاً عن ذلك ليس هناك من يرغمه على القيام بعمل، مجاملة لبعض الناس أو خوفاً منهم، ومن ثم لا يمكن أن يصفح إلا إذا كان الصفح قانونياً، متوافقاً مع عدالته المطلقة كل التوافق.

أخيراً نقول إنَّ الذين يريدون أن يصفح اللّه عنهم بكلمة، ينظرون إلى الخطية نظرة سطحية. لكن الحقيقة غير ذلك، لأن الخطية ليست مثل القذارة التي يمكن إزالتها بالماء أو بغيره، بل إنها بالإضافة إلى كونها أكبر إهانة لجلال اللّه (كما ذكرنا فيما سلف)، هي شر ينبع من طبيعة فاسدة كل الفساد. لذلك لا مفر من التسليم بأنه لا يمكن الصفح عن الخطاة أو تقريبهم إلى اللّه، إلا إذا وُفِّيت أولاً مطالب عدالته وقداسته معاً بوسيلة ما.

6 - إن الكمال المطلق الذي يتّصف اللّه به، يجعله لا يتقيَّد بأي قيد، فتكون له الحرية المطلقة في الصفح عن الخطاة دون أن يُلزمهم بتعويض له.

الرد:إنَّ الحرية المطلقة في نظر اللّه ليست هي الحرية المطلقة في نظر الناس. فالناس ينظرون إلى الحرية المطلقة كأنها المجال الذي يفعلون فيه ما يريدون، بغض النظر عن الكمال وقوانينه الثابتة. فالحرية المطلقة في نظرهم هي الإِباحية بأوس معانيها. أما الحرية المطلقة في نظر اللّه، فهي المجال الذي يفعل فيه كل ما يريد في حدود كماله الذاتي. لذلك فكما أنه لا يمكن أن يرفض شخصاً متوافقاً معه في صفاته الأدبية، لا يمكن أيضاً أن يقبل في حضرته شخصاً غير متوافق معه فيها - فقد قال اوحي إن إدانة البريء وتبرئة المذنب كلاهما مكرهة عند الرب (أمثال 17: 15).

ونحن بذلك لا نقسو على أنفسنا أو نقيم العراقيل أمامها من جهة الحصول على الغفران، بل نبحث السبيل إليه من الناحية التي تتناسب مع موقف عدالة اللّه وقداسته إزاء الخطية وشناعتها، حتى لا تكون نظرتنا إلى الغفران مؤسسة على تصوراتنا الشخصيةبل على الحقائق الإِلهية. لأننا لا نحصل عليه بمجهودنا الذاتي، بل اللّه هو الذي يمنحه لنا، وذلك بناء على نواميسه الخاصة. وهذه النواميس ثابتة راسخة، لا تتغير ولا تتبدل على الإِطلاق.


 

2 - نشأة الفداء

ذكرنا في الباب الأول أن آدم عندما أكل من الشجرة المنهي عنها ومات موتاً أدبياً، لم ينفذ اللّه فيه وقتئذ حكم الموت الجسدي، الذي أنذره به في حالة العصيان، بل أنقذه من هذا الموت، وأنقذه أيضاً من الموت الأبدي الذي هو العقاب الذي كان سيعرض له في العالم الآخر، وذلك بتوقيع الموت على حيوان عوضاً عنه. وإن كانت هذه الذبيحة الحيوانية في حدّ ذاتها غير كافية للفداء، لكن لأنها كانت رمزاً إلى ذبيحة عظمى في نظر اللّه، لذلك اكتسبت وقتئذ شرعاً قوة الفداء - ولبيان هذا نقول:

 

سجَّل الوحي أنَّ اللّه بعدما اقتاد آدم وحواء للاعتراف بعصيانهما والندم عليه، صنع لهما أقمصة من جلد وألبسهما (تكوين 3: 21). وبما أنَّ الوحي لا يستعمل كلمة إلا في معناها الصحيح، لذلك لا بدّ من التسليم بأنَّ اللّه لم يخلق هذه الأقمصة من العدم بل صنعها. ولما كانت صناعتها تستلزم وجود جلد وقتئذ تُصنع منه، واللّه لم يخلق جلداً بمفرده، بل خلق حيوانات يكسوها الجلد، إذاً فمن المؤكد أنه بوسيلة ما تمَّ ذبح حيوانين، ومن جلدهما صُنعت هذه الأقمصة.

لكن إذا تأملنا الظروف المحيطة بهذا الموضوع، يتضح لنا أن الغرض من ذبح الحيوانين المذكورين لم يكن مجرد الحصول على الجلد، بل التكفير بهما (أو بالحري التعويض بهما) عن آدم وزوجته، وذلك للأسباب الآتية:

إن اللّه الذي خلق العالمين بكلمة، لم يكن من العسير عليه أن يخلق أقمصة من الجلد بكلمة أيضاً، بدلاً من ذبح حيوانين لاستخدام جلدهما في صنع الأقمصة المذكورة.

لم ينتفع آدم وحواء بلحم هذين الحيوانين في شيء ما، ومن ثم فلم يكن هناك مبرر لذبحهما لولا أن اللّه قصد به أول فدية عن آدم وامرأته. أما أول من أكل اللحم فهو نوح وأولاده (تكوين 9: 3)، أما من سبقوهم من البشر فكانوا يأكلون النباتات فسب. وعلماء التاريخ الطبيعي يؤكدون هذه الحقيقة، فهم يقولون إن الإِنسان لم يعرف أكل اللحوم إلا بعد فترة طويلة من وجوده على الأرض.

قدم هابيل بن آدم عن نفسه (كما سنرى فيما بعد) ذبيحة حيوانية للّه، وطبعاً ما كان من الممكن أن يعرف كيفية تقديمها أو ضرورة تقديمها من تلقاء ذاته (لأنه لم يكن يأكل لحماً حتى يعرف كيفية ذبح الحيوان، أو يدرك استحقاقه للموت بسبب أي خية يرتكبها، حتى يقدم هذا الحيوان كفارة عن نفسه)، بل لا بد أنه عرف هذين الأمرين من أبيه. وطبعاً ما كان أبوه ليعرفهما، لولا أنه أدرك أنَّ اللّه قصد بذبح الحيوانين (اللذين لم ينتفع هو بشيء منهما سوى الجلد)، أن يكونا كفارة عنه وعن امرأته.

مما تقدم يتضح لنا: (أ) أنَّ الموت الذي كان يجب أن يحل بآدم وحواء بسبب عصيانهما، رتب اللّه أن يحل بحيوانين بريئين عوضاً عنهما، رحمةً بآدم وحواء من جهة، وإيفاءً لمطالب عدالة اللّه على النحو الذي ارتضاه من جهة أخرى. (ب) إنَّ اللّه سر عري آدم وحواء الذي ترتب على عصيانهما، أو بالحري غطى نتائج خطيتهما، بجلد هذين الحيوانين، فيكون اللّه قد جعل الفداء أساس الخلاص من قصاص الخطية ونتائجها السيئة، التي كان يشار إليها بالعري وقتئذ.


 

3 - الفداء في عصر الآباء

عصر الآباء هو العصر الذي عاش فيه المؤمنون باللّه قبل نزول أي شريعة من لدنه، فكانوا يتقربون إليه ويتعبدون له على أساس الذبيحة التي سلم مبدأها لآدم، عندما سمح بذبحها نيابة عن نفسه، كما يتضح مما يلي:

قدّم هابيل ذبيحة لله، من أبكار غنمه ومن سِمانها (تكوين 4: 4)، وقدمها بإيمان أنَّ اللّه يرضى عنه على أساسها، وأنه لإيمانه هذا شهد اللّه عنه أنه بار (عبرانيين 11: 4). وهذه أول مرة يُوصف فيها إنسان بأنه «بار»في الكتاب المقدس. ومن واضع كثيرة منه يتضح لنا أن البار لدى اللّه، ليس هو الإِنسان الخالي من الخطية (لأنه ليس هناك مثل هذا الإنسان)، بل هو الإِنسان الذي يدرك استحقاقه للقصاص الأبدي بسبب خطاياه. وبالإضافة إلى توبته عنها، يعتمد في أمر القبول أمام اللّه على كفار يرتضيها بناء على وصاياه في العصر الذي تقدم فيه، وذلك لإِيفاء مطالب عدالته على النحو الذي يقبله.

ونوح بعد خروجه من الفلك بنى مذبحاً للرب، وأخذ من كل البهائم الطاهرة والطيور الطاهرة، وأصعد محرقات على المذبح، فتنسَّم اللّه رائحة الرضا (تكوين 8: 21). ومن هذه الآية يتضح لنا أنَّ نوحاً وإن كان أفضل من معاصريه الذين أهلكهم الطوفن، غير أنه أدرك ببصيرته الروحية أنه على أي حال خاطئ ومستحق للهلاك مثلهم، لأن الخطية لا تكون بالفعل فقط، بل وبالقول والفكر أيضاً كما ذكرنا، وأدرك أنَّ إنقاذ اللّه إياه من هذا الهلاك، إنما يرجع إلى رحمته، فقدَّم الذبائح من البهائم الطاهرةوالطيور الطاهرة عالماً بالإِيمان أنها وحدها هي التي يليق تقديمها كفارة للّه.

وإبراهيم أبو المؤمنين، عندما ظهر له اللّه بالقرب من شكيم، بنى مذبحاً له هناك. ولما حلّ بعد ذلك شرق بيت إيل، بنى مذبحاً آخر له (تكوين 12: 6 - 8)، وعندما نقل خيمته إلى بلوطات ممرا، بنى هناك مذبحاً ثالثاً (تكوين 13: 18). وبناء هذه لمذابح دليل على أنَّ إبراهيم كان يقدم عن نفسه ذبائح للّه، ودليل أيضاً على أنه كان يعبد اللّه، ويكرّس حياته له. فضلاً عن ذلك فإنَّ اللّه عندما طلب منه أن يقدم ابنه ذبيحة، لم يتردد لحظة واحدة. لكن نظراً لأن هذا الطلب كان مجرد امتحان، أراهاللّه كبشاً. فقدمه إبراهيم ذبيحة عوضاً عن ابنه، أو فدية عنه (تكوين 22: 13).

وإسحاق، عندما ظهر له الرب ووعده بمباركة نسله، بنى مذبحاً ودعا باسم الرب (تكوين 26: 25)، معلناً بذلك أنه للرب، وأنه يذبح له دون سواه، كما كان يفعل إبراهيم أبوه.

ويعقوب، لما أتى سالماً إلى مدينة شكيم، أقام مذبحاً ودعاه «إيل، إله إسرائيل»(تكوين 33: 20) «إيل»كلمة عبرية معناها «اللّه»، وفي اللغة العربية أيضاً يسمى اللّه «الإِل»(مختار الصحاح ص 22)، ويرجع السبب في هذا التشابه إلى أن أصل اللغتين العربية والعبرية (والسريانية والأرامية أيضاً) واحد. أما الاسم «إسرائيل»فهو الاسم الذي أطلقه اللّه على يعقوب، عندما أظهر استماتته في التمسُّك باللّه، ومعناه «المجاهد مع اللّه». وبناءً على عهد سابق من يعقوب لله، أمره اللّه بعد مدة،أن يصعد إلى «بيت إيل»ويبني هناك مذبحاً، فصعد وبنى المذبح كما أمره اللّه. ودعا المكان «إيل بيت إيل»، لأن هناك ظهر له اللّه (تكوين 35: 1 - 8). وقبل نزوله إلى مصر لكي يرى ابنه يوسف، ذبح ذبائح للّه (تكوين 46: 1). فظهر له اللّه ووعده بأنه سيرفقه في طريقه إليها.

وأيوب، كان من عادته أن يُصعد ذبائح بعدد أبنائه للّه، ليفديهم بها من قصاص ما يمكن أن يكون قد صدر منهم من خطأ في تصرفاتهم (أيوب 1: 5)، حتى لا يقع هذا القصاص عليهم.

مما تقدم يتضح لنا أن المبدأ الذي على أساسه كان اللّه يُظهِر الرحمة للبشر (حتى الذين اصطفاهم من بينهم) هو اعترافهم بأنهم خطاة وأنهم يستحقون القصاص الأبدي بسبب خطاياهم، ثم تقديمهم بعد ذلك الذبائح عوضاً عن نفوسهم.


 

4 - الفداء في اليهودية

يشمل هذا الفداء الذبائح التي كان يقدمها بنو إسرائيل، وفق الشرائع التي أعلنها اللّه لموسى النبي، وكانت هذه الذبائح تنقسم إلى قسمين رئيسيين:

(القسم الأول) الذبائح العامة: وهي الذبائح القومية التي كانت تُقدم للّه في كل يوم، وفي كل موسم من المواسم الدينية، وأهمها:

الذبيحة اليومية: وكانت تتكون من خروفين حوليين (عمر الواحد سنة) صحيحين: الخروف الأول يعمل صباحاً والخروف الثاني بين العشاءين (العدد 28: 3 ، 4).

ذبيحة يوم السبت: وكانت تتكون من خروفين حوليين صحيحين، بالإضافة إلى خروفي الذبيحة اليومية (العدد 28: 9 ، 10). «الحولي»هو الذي مرّ عليه حول، أو سنة. أما كلمة «السبت»فمعناها «الراحة»، وكانت تُطلق على يوم الراحة الأسبوعية لدى بن إسرائيل.

(3) ذبيحة أول الشهر: وكانت تتكون من ثورين وكبش وسبعة خراف حولية صحيحة (العدد 28: 11 - 15).

ذبيحة الفصح: وتتكون من ثورين وكبش وسبعة خراف صحيحة وتيس واحد، في كل يوم من أيام الفصح السبعة (العدد 28: 16 - 25) - هذا عدا ذبيحة الفصح العائلية التي كانت تعملها كل أسرة بنفسها (تثنية 16: 2).

ذبيحة باكورة الحصاد: وتتكون من ثور وكبش واحد وسبعة خراف حولية صحيحة وتيس (العدد 29: 1 - 5).

ذبيحة عيد الكفارة: وتتكون من ثور وكبش وسبعة خراف حولية صحيحة وتيس (العدد 29: 7 - 10).

ذبيحة عيد المظال: وتتكون من 71 ثوراً و15 كبشاً و105 خروفاً حولياً و8 تيوس، تقدم في ثمانية أيام متتالية (العدد 29: 12 - 40).

ذبيحة البقرة الحمراء: وكان رمادها يوضع في ماء، ويستعمل للتطهير الرمزي لكل من مسّ ميتاً أو قتيلاً (العدد 19: 1 - 10).

(القسم الثاني) الذبائح الشخصية: وهي الذبائح التي كان يقدمها الأفراد، كل حسب الظرف الذي يجتاز فيه، وأهمها:

ذبيحة المحرقة: وكان يأتي بها كل من أراد التقرب إلى اللّه والتمتع برضائه (لاويين 1: 1 - 9)، فمثلاً عندما تبوّأ سليمان المُلْك بعد أبيه، قدم للّه في يوم واحد ألف ذبيحة محرقة (1 ملوك 3: 4).

ذبيحة السلامة: وكان يأتي بها كل من أراد أن يشكر اللّه لأجل إحسان أسداه إليه، أو أراد أن يقدم له نافلة (أي ذبيحة تطوّعية)، للدلالة على الإخلاص له والرغبة في التفاني في إكرامه (لاويين 3: 1 - 5 ، 7: 11 - 21) وعند تكريس الهيكل أرادسليمان الملك أن يعبر عن شكره للّه، فقدم ذبائح سلامة عددها اثنان وعشرون ألفاً من البقر ومائة وعشرون ألفاً من الغنم (1 ملوك 8: 63).

ذبيحتا الخطية والإثم: وكان يأتي بإحداهما من عمل سهواً شيئاً من الأمور التي نهى اللّه عنها (لاويين 4: 1 - 35 ، لاويين 5: 1 - 19)، غير أن الذبيحة الأولى كانت تُقدم للّه باعتبار الخطية نجاسة. أما الثانية فكانت تُقدم له باعتبار الخية ذنباً - لأننا بارتكاب الخطية لا ننجس أنفسنا فقط، بل نسيء إلى اللّه أيضاً.

ذبيحة الملء أو التكريس الكامل: وكانت تقدم عند التكفير عن الكهنة يوم إقامتهم بأعمالهم، للدلالة على أنهم أصبحوا مقدسين للّه ولخدمته (لاويين 8: 22 - 36) من الناحية الرمزية.

ذبائح التطهير الخاصة بالأم عندما تلد (لاويين 12: 1 - 8)، والأبرص عندما يبرأ (لاويين 14: 1 - 20)، والمصاب بسيل عندما ينقطع سيله (لاويين 15: 1 - 15). وعدا هذه الذبائح، كانت تقدم ذبيحة عن كل بكر يولد من البشر أو البهائم النجسة. أما ل بكر بهيمة من الحيوانات الطاهرة، فكان يقدم بنفسه ذبيحة (العدد 18: 17)، لأنه، دون البكر من الحيوانات النجسة، كان يليق تقديمه للّه. وتقديم التطهير عند الولادة سببه وصف أوجاع الولادة جزءاً من العقاب الذي وقّعه اللّه على المرأة بسبب خطيتها تكوين 3: 16). أما مرض البرص والسيل فصورتان للخطية: الأول من الناحية الظاهرية، والثاني من الناحية الباطنية. أما تقديم بكر كل بهيمة فيرجع سببه إلى أن اللّه كان قد أنقذ أبكار بني إسرائيل وحيواناتهم من القتل عندما كانوا في أرض الفراعنة (خروج12: 29)، وبذلك أصبح كل بكر من هؤلاء وأولئك ملكاً له، فكان من الواجب أن يفتدى بذبيحة أو يقع عليه قضاؤه تعالى بالموت (خروج 13: 2 و 15).

ومما تجدر ملاحظته في هذه الذبائح ما يأتي:

إنها كانت تُقدم عن خطايا السهو التي لا يعلم المرء بها إلا بعد صدورها منه، الأمر الذي يدل على أنها (على العكس مما يظن بعض الناس) ذنوب أمام اللّه، كما ذكرنا في الباب الأول.

أما الخطايا التي كانت تُرتكب عمداً فلم تكن لها كفارة ما، بل كان من الواجب أن يُقتل أو يُرجم فاعلها (إقرأ مثلاً: لاويين 20: 10 ، وعدد 15: 35) وذلك بناء على قول اللّه: «وَأَمَّا ?لنَّفْسُ ?لَّتِي تَعْمَلُ بِيدٍ رَفِيعَةٍ (أي عمداً) مِنَ ?لْوَطَنِيِّينَ أَوْ مِنَ ?لْغُرَبَاءِ فَهِيَ تَزْدَرِي بِ?لرَّبِّ. فَتُقْطَعُ تِلْكَ ?لنَّفْسُ مِنْ بَيْنِ شَعْبِهَا لأَنَّهَا ?حْتَقَرَتْ كَلامَ ?لرَّبِّ وَنَقَضَت وَصِيَّتَهُ»(عدد 15: 30 و31). وقد قصد اللّه بذلك أن يعلمنا وجوب الابتعاد عن الخطية كل البعد.

إنَّ الذبائح لم يكن يُعفى من تقديمها أحدٌ حتى إذا كان فقيراً، لكن رأفة بالفقراء سمح اللّه لهم بتقديم ذبائح رخيصة الثمن، مثل الحمام أو اليمام (لاويين 14: 21 - 22).

كانت هذه الذبائح تقدم على مذبح النحاس القائم في هيكل اللّه، فكان المفهوم لدى الجميع أنها مقدَّمة لأجل الحصول على الغفران، كما كان الذين يقدمونها يضعون أيديهم على رؤوسها ويقرّون عليها بخطاياهم، رمزاً لانتقال خطاياهم إلى الذبائح المذكورة، فكانت تعتبر كفارة أو فدية عنهم (لاويين 4: 4).

إنَّ ذبيحة السلامة كان يأكل جزءاً منها الشخص الذي أتى بها والكاهن الذي قدمها، رمزاً لاشتراكهما في التمتع بإحسان اللّه (لاويين 7: 11 - 38). وذبيحة الإِثم التي لا يدخل الكاهن بدمها إلى قدس الأقداس، كان يأكل جزءاً منها وحده، رمزاًلأنه مسئول عن إِثم الناس الذين يوجدون في دائرة خدمته. أما ذبيحة المحرقة وذبيحة الخطية اللتان كان يدخل بدمهما إلى قدس الأقداس، فلم يكن يأكل منهما أحد - غير أن الأولى تُحرق على المذبح لأنها كانت تعتبر قرباناً طاهراً للّه للحصول على رضاه (لاويين 6: 8 - 13)، أما الثانية فكانت تحرق خارج المحلة لأنها كانت تعتبر نجسة بسبب نيابتها عن خطاة يستحقون العذاب الأبدي بعيداً عن اللّه كل البعد (لاويين 6: 24 - 30).

إن الذبائح بصفة عامة كان من الواجب أن تكون بلا عيب، فالحيوان الأعمى أو المكسور أو المجروح أو البثير أو الأجرب أو الأكلف أو مرضوض الخصية أو مسحوقها أو... أو...، لم يكن يُسمح بتقديمه ذبيحة للّه (لاويين 22: 21 - 25)، وكان ذلك رمزا إلى أن الفادي الذي يصلح كفارة عن الناس يجب أن لا يكون طاهراً فحسب، بل وأن يكون كاملاً من كل الوجوه أيضاً.


 

5 - الفداء في الوثنية

نبذ معظم الناس الوثنية من عهد بعيد، لكن نظراً لأنها كانت ولا تزال منتشرة في بلاد متحضرة، ويعتنقها إلى الآن أشخاص نالوا قسطاً وافراً من الثقافة، لذلك لا شك أنها قامت على آراء جديرة بالبحث. وبدراسة هذه الآراء يتضح لنا:

كان الوثنيون في أول الأمر يعبدون اللّه الواحد، لكن لعجزهم عن إدراكه، عبدوا الكائنات التي تصوّر لهم الصفات التي تخيلوها فيه، فرفعوا هذه الكائنات إلى مرتبة الألوهية لديهم، وتقدموا إليها بكل خشوع واحترام بعد غسل أجسادهم بماء كانو يدعونه «الماء المقدس»، كما قربوا لها الذبائح الحيوانية لينالوا (حسب اعتقادهم) غفرانها ورضاها - وكان معظم الوثنيين يعتزون بهذه الذبائح اعتزازاً عظيماً، فكانوا يزينونها بأزهار جميلة ويرقصون حولها كثيراً، وبعد ذلك كانوا يسلمونها إلى الكاهن ليتولى تقريبها إلى آلهتهم.

وكان قدماء المصريين يواظبون على تقريب الذبائح الحيوانية لآلهتهم، وكانوا يعدّون لهذا الغرض مذبحاً خاصاً في كل هيكل من هياكلهم. وكان من الواجب على الكهنة الذين يقرّبونها أن يكون شعرهم محلوقاً وملابسهم نظيفة، حتى لا يكون بهم شيء من الهوام. وكانوا في أثناء تقريب الذبائح المذكورة ينشدون ترانيم معينة، ويقومون بشعائر دينية خاصة. أما عند استعطافهم للإِله «تيفون»فكانوا يحرقون الضحايا وهي حية. وبعد حرقها كانوا يذرّون رمادها في الهواء، ليُنتزع منه (كما يعتقدون) كل شر يكن أن يكون فيه.

وبلغ شعور الفرس والبابليين بشر الخطية شأواً عظيماً، حتى أنهم كانوا يشعلون ناراً أمام آلهتهم ويطرحون فيها أبناءهم كفارةً عنهم، أو روّاداً يفسحون لهم الطريق إلى العالم الآخر، أو رسلاً يحملون المعونة لأقاربهم الذين رحلوا إلى هذا لعالم من قبل. ومما يثير الدهشة أنهم كانوا يحرقون أبناءهم وسط قرع الطبول وهتاف المغنين!!

وكان الهنود يعذبون أنفسهم بطرق كثيرة مثل المشي على المسامير، وعدم تحريك أيديهم أو أرجلهم، أو قطع بعض أجزاء من أجسامهم. ظناً منهم أنهم بهذه الوسائل يكفرون عن خطاياهم ويتخلصون منها ومن عقابها. كما كانوا يقدمون أبناءهم طعاماً للحوانات المؤلَّهة كالتماسيح، ليحصلوا (حسب اعتقادهم) على عفوها ورضاها. فقد جاء في كتاب الفيدا، وهو الكتاب المقدس عندهم، أنَّ الإنسان كفّر عن نفسه أولاً بنبات الأرض، ثم بالحيوان، ثم بأولاده. ويقول المؤرخون إنّغ بعض الهنود، تحت تأثرهم بشناعةخطاياهم، وفداحة التضحيات التي كانوا يبذلونها في سبيل التكفير عنها، «كانوا يقولون متى يا ترى نخلص نهائياً من خطايانا!!».

ومن المأثور عن الكاهن الذي كان يقدم الذبائح في الهند، أنه كان يطهر أولاً نفسه بما كان يُدعى «الماء المقدس»ثم يطهر الجو المحيط به بواسطة رسم دائرة واسعة في الفضاء بذراعه. وبعد فحصه للذبائح وتأكده من سلامتها، كان يدور حولها ثلا مرات، وهو يحمل مشعلاً في يمينه. أما أصحاب الذبائح فكانوا يظلون بالقرب منها حتى يذبحها الكاهن ويأخذوا أنصبتهم منها، ويشاهدوا بعد ذلك بقاياها وهي تحترق بالنار. وكانوا يعتقدون أنَّ من يأكل من الذبائح تنتقل إليه صفات الإِله المقدَّمة هذه اذبائح إليه. فقد جاء في الترانيم الفيدية أنَّ من يقدم محرقة إلى براهما، يتحد به، ولكن في دائرته.

أما اليونان والرومان، فكانوا يؤمنون بآلهة متعددة للزراعة والإخصاب والجمال والحرب وغير ذلك. وخشية أن يكونوا قد نسوا واحداً منها بنوا مذبحاً وكتبوا عليه: «لإله مجهول»، وكانوا يقدمون لهذا الإله وغيره من الآلهة الكثير من الذبائح لحيوانية. ولم تكن هذه العادة عند عامتهم فحسب، بل وعند خاصتهم أيضاً. فسقراط عندما تذكر قبل موته أنه مدين بديك لإِله الطب «اسكولابيوس»، أوصى تلميذه أن ينوب عنه في تقديم هذا الديك. وأفلاطون الذي ارتقى روحياً عن معاصريه، فأدرك الشيء الكثير ن وحدانية اللّه والفضيلة التي يجب مراعاتها، ذهب إلى حقيقة سامية من جهة الذبائح لم يدركها كثيرون منهم. فقال «إنَّ الذبائح ضرورية، لكنها لا تنفع البشر إلا إذا توافرت فيهم النية الصالحة». ولعله قصد بهذه النية، التوبة عن الخطية والعزم الوطي على السلوك حسب قوانين الفضيلة.

ونظراً لانتشار الذبائح في الوثنية واليهودية معاً، ظن بعض الناس إنَّ اليهود نقلوا عادة تقديمها من الوثنيين الذين كانوا يختلطون بهم. لكن هذا الظن لا نصيب له من الصواب، للأسباب الآتية:

اقترن تقديم الذبائح لدى الوثنيين بالفسق في كثير من الأحيان. أما تقديم الذبائح لدى اليهود فكان مقترناً بالقداسة والخشوع التام أمام اللّه، لأنه كان قد أعلن لهم أنه قدوس ويبغض الشر حتى في أبسط مظاهره. (اقرأ مثلاً: لاويين 11: 44 ، يشوع 24: 19 ، 1 صموئيل 2: 2). وعندما حاول اليهود مرة أن يقتدوا بالوثنيين المذكورين، أمر اللّه موسى أن يقتلهم بالسيف، فقتل منهم وقتئذ ثلاثة آلاف رجل (خروج 32: 4 - 29)، فضلاً عن ذلك فقد هددهم بالموت إذا تشبَّهوا بالوثنيين في نجاستهم ورجسهم وألهم للدم وتفاؤلهم وتشاؤمهم ونقش الوشم على أجسادهم، والاتصال بالجان في تدبير شؤونهم (لاويين 18 و 19 و 20).

كان الوثنيون يقدمون الذبائح ليس للتكفير عن خطاياهم فحسب، بل وأيضاً ليرضوا الأرواح الشريرة التي كانوا يعتقدون أنها تزعجهم، أو ليبعدوها عن أجساد الذين لبستهم وترحل إلى عالمها، فاقترن تقديم الذبائح لديهم بالشعوذة. فكانوا يقربون لآلهتهم وحوش البرية والطيور الجارحة (التي كان من المحرّم على اليهود تقديمها للّه)، كما كانوا يشربون الدم ولا يحرقون أي ذبيحة بأكملها، على النقيض مما كان يفعله اليهود أيضاً.

كان عند الوثنيين في كل بلد الكثير من المذابح، كما كانوا ينظرون إليها كالهدف الذي يتجهون إليه، فكانوا يبالغون في تزيينها ونقش صور آلهتهم عليها، كما كانوا يشيدونها على المرتفعات ليفخروا بها. أما اليهود فقد كان عندهم مذبح واحد فيهيكل أورشليم. وقبل بناء هذا الهيكل، كان اللّه يطلب منهم أن يصنعوا المذبح من التراب أو من حجارة لم يمسسها إزميل، لتكون منخفضة، وفي الوقت نفسه لا تكون ذا شكل يجذب الأنظار إليها في ذاتها (خروج 20: 24 - 25).

كان ملوك الوثنيين يقومون أحياناً بتقديم الذبائح. لكن هذا العمل كان مقصوراً لدى اليهود على الكهنة الذين أقامهم اللّه. وقد حاول مرة أحد ملوك بني إسرائيل أن يرفع بخوراً في الهيكل للّه، فضربه اللّه بالبرص (2 أخبار 26: 18 و 19).

كان كهنة الوثنيين يحلقون رؤوسهم بالموسى، أو يربون خصلاً، كما كانوا يشربون الدم ويقتنون الأملاك. أما كهنة اليهود فكانوا يجزّون شعر رؤوسهم، ولا يربّون خُصلاً، ولا يشربون الدم. كما كانوا لا يقتنون أملاكاً، لتكون كل آمالهم وجهودهممركزة في خدمة الرب.

بالرجوع إلى التاريخ نرى أن الذبائح ليست دخيلة على اليهودية بل أصلية فيها. فقد كان يقدمها آباء اليهود الأوائل مثل إبراهيم وإسحق ويعقوب. كما كان يقدمها قبلهم رجال اللّه الأتقياء مثل هابيل ونوح، قبل ظهور الوثنية على الأرض بأجيال تعددة. أما الذي نقله اليهود عن الوثنيين في فترة من الزمن، فهو عادة تقديم أبنائهم ذبيحة للوثن مولك، وقد نهاهم اللّه كثيراً عن هذه العادة، كما أنزل عليهم بسببها قصاصاً شديداً (إرميا 7: 31 - 34).

وإذا كان الأمر كذلك، فكيف تسرب إلى الوثنيين الاعتقاد بوجوب تقديم الذبائح الحيوانية لآلهتهم؟ طبعاً تسرب إليهم من أجدادهم الأوائل، وهم حام وسام ويافث، لأن هؤلاء الذين تكونت منهم الأجناس البشرية في آسيا وإفريقية وأوروبا على التوالي،كما يتضح من الكتاب المقدس وكتب الجغرافية - وكان سام وحام ويافث بحكم علاقتهم مع نوح أبيهم يعرفون وجوب تقديم الذبائح للّه (تكوين 6: 10). لكن على مرّ الأيام نسي أبناؤهم (الذين عُرفوا فيما بعد بالوثنيين) الرب، وبقي اسمه فقط عالقاً بأذهانهم، ذلك كانوا يطلقونه على الكائنات التي تخيلوا أنها تتصف بصفاته، فكانوا يقدمون الذبائح والقرابين إليها وفقاً للمراسيم التي اخترعوها كما ذكرنا. هذا ومن المحتمل أن يكون المفكرون منهم مثل سقراط وأفلاطون رأوا وجوب تقديم هذه الذبائح نتيجة لشعوره الشخصي بشناعة الخطية، ورغبتهم في تجنب القصاص الذي يستحقونه من العدالة الإلهية بسببها، وبذلك سَرَت عادة تقديم الذبائح بين بعض الوثنيين.


 

6 - أهمية سفك دم الذبائح في الحصول على الغفران

تعتري بعض الناس دهشة عظيمة عندما يرون الأضاحي الكثيرة التي كانت ولا تزال تُقدَّم في معظم بقاع الأرض. لكن لا داعي للدهشة على الإطلاق، لأنه لما كان الصفح عن الخطية أثمن شيء لدى المؤمنين باللّه، ولما كانت الوسيلة الوحيدة للحصول على ها الصفح هي الفدية، لذلك كان أمراً بديهياً أن يضحي هؤلاء المؤمنون بهذه الكمية الهائلة من الذبائح. ولزيادة الإِيضاح نتحدث عن النقاط الآتية:

1 - أهمية سفك دم الذبائح للتكفير، في اليهودية والمسيحية: قال اللّه لموسى النبي: «لأَنَّ نَفْسَ ?لْجَسَدِ هِيَ فِي ?لدَّمِ، فَأَنَا أَعْطَيْتُكُمْ إِيَّاهُ عَلَى ?لْمَذْبَحِ لِلتَّكْفِيرِ عَنْ نُفُوسِكُم، لأَنَّ ?لدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ ?لنَّفْسِ»(لاويين 17: 11) وقال الرسول بولس للمسيحيين: «بِدُونِ سَفْكِ دَمٍ لا تَحْصُلُ مَغْفِرَةٌ»(عبرانيين 9: 22) وبما أنَّ دم الحيوان يجري في جميع أجزاء جسمه ويبعث الحياة إليها، وبما أنَّ الذي يقوم بهذه المهمة هو النفس، لذلك تكون نفس الحيوان في دمه، كما أعلن الكتاب المقدس.

أما السبب في كون الدم هو الوسيلة الوحيدة للمغفرة أو الفداء، فيرجع إلى أنَّ حياة الحيوان هي في دمه. وبما أنه بسفك دمه تفارقه حياته، كان من البديهي أن يعتبر سفك الدم تعويضاً عن نفس الخاطئ، فينجو من القصاص الذي يستحقه، ويحصل على المغفرة التي يحتاج إليها.

2 - عدم صلاحية القرابين غير الدموية للتكفير عن النفس: إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس نرى أن اللّه رفض قربان قايين (أخي هابيل) لأنه لم يكن ذبيحة دموية، بل كان ثمراً من ثمار الأرض. فقد قال الوحي عن اللّه «إِلَى قَايِينَ وَقُرْبَانِهِ لَمْ يَنْظُرْ»(تكوين 4: 5).

وهنا يسأل بعض الناس: «إذا كان الغفران يتوقّف على سفك الدم، فلماذا لم يرشد اللّه قايين، كما أرشد هابيل أخاه، إلى ضرورة تقديم ذبيحة دموية؟»وللرد على ذلك نقول: إنَّ اللّه أرشده كما أرشد أخاه تماماً، لكن قايين هو الذي شاء أن يقدم قباناً حسب استحسانه، فاستحقَّ أن يلومه اللّه بالقول «إِنْ أَحْسَنْتَ (اختيار الذبيحة) أَفَلا رَفْعٌ؟»أو بالحري أَمَا كان يرتفع وجهك، وتنال القبول أمامي مثل أخيك (تكوين4: 7) - واللوم لا يُوَّجه إلا للشخص الذي يخالف وصية سبق تبليغها إليه.

ويرجع السبب في قبول اللّه لهابيل إلى أن قربانه ينمّ عن الاعتماد على الفداء بالدم. وأنَّ السبب في رفضه لقايين، يرجع إلى أنَّ قربانه ينم عن الاعتماد على الاجتهاد الشخصي في القبول أمامه، لأن هذا الاجتهاد مهما كان شأنه، لا يستطيع أن يكفر عن الخطية. إذ أنَّ «أجرة الخطية هي موت»: موت فاعلها أو موت من ينوب عنه، وليس القيام بعمل من الأعمال التي ندعوها الصالحة أو النافعة.

أما عن الدعوى بأن اللّه رضي عن هابيل لأنه كان تقياً، ورفض قايين لأنه كان شريراً، فنقول: إنَّ هابيل كان مولوداً بطبيعة تميل إلى الخطية مثل أخيه تماماً. ولا شك أنه كان يعملها مثله إن لم يكن بالفعل فبالفكر أو القول، فيرجع السبب في قول اللّه لهابيل ورفضه لقايين إلى نوع القربان الذي قدمه كل منهما. وهذا هو الدليل على صدق قول الوحي عن هابيل إن اللّه شهد لقرابينه (وليس شهد له أو لأعماله) (عبرانيين 11: 4).

3 - تحريم شرب الدم: لما كان الدم هو الوسيلة التي عينها اللّه للغفران، حرم على البشر شربه. فقال لبني إسرائيل: «كُلُّ إِنْسَانٍ مِنْ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ وَمِنَ ?لْغُرَبَاءِ ?لنَّازِلِينَ فِي وَسَطِكُمْ يَأْكلُ دَماً، أَجْعَلُ وَجْهِي ضِدَّ ?لنَّفْسِ ?لآكِلَةِ ?لدَّمَ وَأَقْطَعُهَا مِنْ شَعْبِهَا»(اللاويين 17: 10). كما قال لنوح وأولاده من قبل، عندما سمح لهم لأول مرة في التاريخ بأكل اللحم: «كُلُّ دَابَةٍ حَيَّةٍ تَكُونُ لَكُمْ طَعَاماً. كَ?لْعُشْبِ ?لأَخْضَرِ دَفَعْتُ إِلَيْكُمُ ?لْجَمِيعَ. غَيْرَ أَنَّ لَحْماً بِحَيَاتِهِ، دَمِهِ (أي بدمه الذي فيه الحياة)، لا تَأْكُلُوهُ»(تكوين 9: 3 و 4). وبذلك نهى ليس عن شرب الدم فحسب، بل وأيضاً عن الحيوانات التي لم يُسفك دمها. لأنه قال في موضع آخر «وَلَحْمَ فَرِيسَةٍ فِي ?لصَّحْرَاءِ لا تَأْكُلُوا»(خروج 22: 31). كما قال عن الكاهن في العهد القديم «مِيِّتَةً أَوْ فَرِيسَةً لا يَأْكُلْ»(اللاويين 22: 8). ولما جاءت المسيحية نهت أيضاً عن شرب الدم وأكل لحم الحيوان الذي لم يسفك دمه، فقد قال الرسُل للمؤمنين «أَنْ تَمْتَنِعُوا عَنِ ?لدَّمِ،وَ?لْمَخْنُوقِ»(أعمال 15: 29).

أما الذين ينكرون أنَّ السبب في تحريم شرب الدم، هو جعل اللّه إياه كفارة عن النفس، ففيما يلي آراؤهم مصحوبة بالرد عليها:

1 - نَهى اللّه عن شرب الدم لأنه شر في ذاته، وليس لنا أن نسأل عن ماهية هذا الشر، إذ يكفي أن نطيع اللّه في كل ما يأمرنا به.

الرد:ليست المادة في ذاتها شراً، بل الشر هو في سوء استعمالها، فالمواد المخدرة مثلاً، من حيث هي مواد نباتية أو كيمائية، ليست شراً، لأنها تُستعمل بأمر الأطباء في علاج بعض الأمراض. إنما الشر هو في استعمالها لخدمة الأهواء الجسدية. وبا أن الدم فضلاً عن أنه ليس شراً في ذاته، يحتوي على عناصر مغذية للجسم. ومنه يصنع الهيموجلوبين لعلاج حالات فقر الدم، إذاً ليس من المعقول أن يكون اللّه قد نهانا عن شرب الدم لذاته.

2 - نَهى اللّه عن شرب الدم، لأن حاسة الذوق فينا لا تقبله.

الرد:إنَّ الإِنسان، بل والحيوان أيضاً يعرف بالطبيعة طعم الأشياء، فيأكل منها ما يتفق مع ذوقه ويرفض ما لا يتفق معه، دون أن يكون في حاجة إلى أمر أو نهي من اللّه عن هذا أو ذاك. فضلاً عن ذلك فهناك أشياء كثيرة (كسلوفات الصودا مثلاً) ل تقبلها حاسة الذوق فينا، ومع ذلك ليس هناك من يقول إنه محرَّم علينا استعمالها.

3 - إنَّ اللّه نهى عن شرب الدم لأنه يثير الشهوة في الإِنسان، كما يحوّله إلى وحش مفترس.

الرد:إن كانت بعض الأطعمة تبعث النشاط إلى جسم الإِنسان، لكن الذي يثير الشهوة فيه ليس تناول هذه الأطعمة، بل التفكُّر في الشهوة المذكورة. فضلاً عن ذلك فإن كثيرين من المرضى يأكلون (بناء على نصيحة الأطباء) الكبد دون طهي أو شيّ، (والكبد كما نعلم كلها دم)، ومع ذلك لم يفترسوا أحداً على الإطلاق.

مما تقدم يتضح لنا أنه ليس هناك سبب معقول لتحريم شرب الدم سوى ذاك الذي ذكره الوحي الإِلهي، وهو «لأَنَّ ?لدَّمَ يُكَفِّرُ عَنِ ?لنَّفْسِ»(لاويين 17: 11)، الأمر الذي يدل على أن الوسيلة الوحيدة الت عيّنها اللّه للقبول أمامه، هي الفداء بالدم.


 

7 - تطّور الآراء من جهة الفداء بدم الذبائح

لا تزال الذبائح الحيوانية تشغل إلى الآن مركزاً عظيماً بين كثير من الناس في بلاد متعددة، غير أن فكرة تقديمها لأجل الحصول على الغفران أخذت في التطّور بين رجال اللّه من عهد بعيد. ولكي نقف على الأسباب التي أدّت إلى هذا التطور نقول:

1 - عدم كفاية الذبائح الحيوانية للفداء: بما أن الفدية التي تصلح للتكفير عن الإِنسان يجب أن تكون معادلة له في القيمة، حتى تكون كافية للتعويض عنه. وبما أنَّ نفس الإِنسان روحية خالدة وذات خواص أدبية وعقلية سامية، بينما نفس الحيوان فضاً عن كونها دموية لا خلود لها، هي خالية من هذه الخواص، إذاً لا يمكن أن تكون في ذاتها كافية لفداء الإِنسان والتكفير عنه أمام عدالة اللّه.

2 - أسباب استعمال الذبائح الحيوانية للفداء: يتساءل بعض الناس: إذا كانت الذبائح الحيوانية غير كافية في ذاتها للتكفير عن الإنسان، فلماذا أمر اللّه بتقديمها؟.

وللرد على ذلك نقول: لم يكن الإنسان في العصر الأول يقدّر القيم الأخلاقية تقديراً صحيحاً، كما يشهد بذلك الكتاب المقدس وكتب التاريخ، فكان يتعذر عليه إدراك نتائج الخطية في نفسه، أو مقدار الإساءة التي يوجهها إلى اللّه بفعلها. لذلك كانمن البديهي أن يبدأ اللّه وهو الحكيم العارف بطباع البشر وطرق تعليمهم وتهذيبهم، بإظهار خطورة الخطية ووخامة عواقبها بوسائل ملموسة تستطيع عقولهم البدائية فهمها وإدراكها. وذلك بتصوير الموت الذي هو النتيجة الحتمية للخطية بعمل يمكنهم رؤيته بعينهم وفهم مرماه بعقولهم، كما هي الحال في تعليمنا للأطفال، فإننا نقدم لهم الصور قبل الكلمات المعبِّرة عنها، لأنهم يستطيعون إدراك مدلول الصور قبل إدراك معاني الكلمات المذكورة. ولما كان الحيوان هو أقرب الكائنات إلى الإِنسان شعوراً بالراحة ولألم، كما تظهر عليه بوضوح علامات الحياة والموت، كان من البديهي أن يعلن اللّه للخطاة ما يستحقونه من عذاب مصوّراً في ذبح حيوان وحرقه، ليدركوا أنه بسبب خطاياهم كان يجب أن يكونوا مكان هذا الحيوان، لكن اللّه من باب العطف عليهم سمح به كفارة عهم. ولذلك كانوا يشعرون بشناعة الخطية، ويشكرون اللّه لأنه جعل لهم طريقاً للخلاص من قصاصها.

3 - أسباب تطوّر الآراء من جهة الذبائح الحيوانية: لكن بارتقاء البشر أدبياً وروحياً، أخذوا يدركون نجاسة الخطية وتأثيرها الشنيع على نفوسهم، كما أخذوا يدركون فداحة الإساءة التي يوجّهونها إلى اللّه بارتكابها، فأدركوا أن الذبائح الحيواية لا يمكن أن تكون في ذاتها هي الفدية التي قصدها اللّه للخلاص من عقوبة الخطية. وقد صادق اللّه على إدراكهم هذا فقال «اِسْمَعْ يَا شَعْبِي فَأَتَكَلَّمَ. يَا إِسْرَائِيلُ فَأَشْهَدَ عَلَيْكَ. اَللّ?هُ إِل?هُكَ أَنَا لا عَلَى ذَبَائِحِكَ أُوَبِّخُكَ، فَإِنَّ مُحْرَقَاتِكَ هِيَ دَائِماً قُدَّامِي. لا آخُذُ مِنْ بَيْتِكَ ثَوْراً، وَلا مِنْ حَظَائِرِكَ أَعْتِدَةً. لأَنَّ لِي حَيَوَانَ ?لْوَعْرِ (أي الغابة) وَ?لْبهَائِمَ عَلَى ?لْجِبَالِ ?لْأُلُوفِ... هَلْ آكُلُ لَحْمَ ?لثِّيرَانِ أَوْ أَشْرَبُ دَمَ ?لتُّيُوسِ؟ اِذْبَحْ لِلّ?هِ حَمْداً، وَأَوْفِ ?لْعَلِيَّ نُذُورَكَ، وَ ?دْعُنِي فِي يَوْمِ ?لضِّيقِ أُنْقِذْكَ فَتُمَجِّدَنِي»(ممور 50: 7 - 15). ولذلك قال داود النبي: «لأَنَّكَ لا تُسَرُّ بِذَبِيحَةٍ وَإِلاَّ فَكُنْتُ أُقَدِّمُهَا. بِمُحْرَقَةٍ لا تَرْضَى»(مزمور 51: 16). وميخا النبي تساءل: «بِمَ أَتَقَّدَمُ إِلَى ?لرَّبِّ وَأَنْحَنِي لِلإِلَهِ ?لْعَلِيِّ؟ هَلْ أَتَقَدَّمُ بِمُحْرَقَاتٍ، بِعُجُولٍ أَبْنَاءِ سَنَةٍ؟ هَلْ يُسَرُّ ?لرَّبُّ بِأُلُوفِ ?لْكِبَاشِ، بِرَبَوَاتِ أَنْهَارِ زَيْتٍ؟ هَلْ أُعْطِي بِكْرِي عَنْ مَعْصِيَتِي، ثَمَرةَ جَسَدِي عَنْ خَطِيَّةِ نَفْسِي؟!»(ميخا 6: 6 ، 7).

هذا هو ما انتهى إليه الأنبياء الذين كانوا يؤمنون باللّه ويعملون كل ما في وسعهم لينجوا من عقابه ويحصلوا على ثوابه، كما كانوا يكثرون من الصلوات والأصوام وأعمال الرحمة والإحسان وتقديم الذبائح والقرابين، ومع ذلك كانت خطاياهم على الرغممن قلتها أكثر وأشنع من أن يجدوا لها بهذه الوسائل غفراناً. لذلك قطعوا الأمل من جهة القبول أمام اللّه، فقال أيوب «لَيْسَ بَيْنَنَا (أي بينه وبين اللّه) مُصَالِحٌ يَضَعُ يَدَهُ عَلَى كِلَيْنَا ِيَرْفَعْ (اللّه) عَنِّي عَصَاهُ وَلا يَبْغَتْنِي رُعْبُهُ». وقال أيضاً: «فَكَيْفَ يَتَبَرَّرُ ?لإِنْسَانُ (إذاً) عِنْدَ ?للّ?هِ ؟»(أيوب 9: 33 و34 و1). كما قطعوا الأمل من وجود أي فدية عن نفوسهم. فقال داود النبي « ?لأَخُ لَنْ يَفْدِيَ ?لإِنْسَانَ فِدَاءً، وَلا يُعْطِيَ ?للّ?هَ كَفَّارَةً عَنْهُ. وَكَرِيمَةٌ هِيَ فِدْيَةُ نُفُوسِهِم، فَغَلِقَتْ إِلَى ?لدَّهْرِ»(مزمور 49: 7 ، 8). أي أنَّ الإِنسان لا يستطيع أن يفدي أخاه الإِنسان مهما كانت علاقة المحبة التي بينهما، لأن الفدية الحقيقية ليست في متناول البشر على الإطلاق (كما سيتضح في الباب الرابع). وقد صادق المسيح على اعتقادهم فقال «مَاذَا يَنْتَفِعُ ?لإِنْسَانُ لَوْ رَبِحَ ?لْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ أَوْ مَاذَا يُعْطِي ?لإِنْسَانُ فِدَاءً عَنْ نَفْسِهِ؟»(متى 16: 26).

والحق أنه لا غرابة في استيلاء الحيرة على هؤلاء الأفاضل، وشعورهم بالعجز عن معرفة الفدية الحقيقية التي تصلح للتكفير عنهم، لأنهم لتأثرهم بقداسة اللّه تأثراً حقيقياً كانوا يرون الخطية كما هي بكل شناعتها وخطورتها. أما البعيدون عن اللّ فلا يستطيعون رؤية الخطية في هذه الصورة، فيظنون أنه من السهل الحصول على الغفران بواسطة أي عمل من الأعمال التي يطلقون عليها الأعمال الصالحة. لكن لو تطلعوا إلى ذواتهم في نور عدالة اللّه وقداسته اللتين لا حدّ لهما كما فعل هؤلاء الأفاضل، لاتطاعوا أن يدركوا عجزهم الكلي عن محو خطاياهم بكل أعمالهم الخيرية وممارساتهم الدينية، ولصرخ كل واحد منهم كما صرخ إشعياء النبي قديماً «وَيْلٌ لِي! إِنِّي هَلَكْتُ، لأَنِّي إِنْسَانٌ نَجِسُ ?لشَّفَتَيْنِ، وَأَنَا سَكِنٌ بَيْنَ شَعْبٍ نَجِسِ ?لشَّفَتَيْنِ!!»(إشعياء 6: 5)، ولتهيأوا تبعاً لذلك لمعرفة الطريق الذي أعلنه اللّه للخلاص من عقوبة الخطية ونتائجها الشنيعة، والذي سنتولى إيضاحه بشيء من التفصيل فيما يلي.

أما الاعتراضات الموجهة ضد هذه الحقائق ففيما يلي بيانها والرد عليها:

1 - يدل عدم طلب اللّه ذبيحة من بني إسرائيل الوارد في مزمور 50: 7 - 15 على عدم ضرورة تقديم الذبائح لأجل الحصول على الغفران. كما أنَّ قول اللّه على لسان إرميا النبي لليهود «ضُمُّوا مُحْرَقَاتِكُمْ إِلَى ذَبَائِحكُمْ وَكُلُوا لَحْماً. لأَنِّي لَمْ أُكَلِّمْ آبَاءَكُمْ وَلا أَوْصَيْتُهُمْ يَوْمَ أَخْرَجْتُهُمْ مِنْ أَرْضِ مِصْرَ مِنْ جِهَةِ مُحْرَقَةٍ وَذَبِيحَةٍ»(إرميا 7: 21 - 22) يدل على وجوب عدم تقديم الذبائح المذكورة.

الرد:بالرجوع إلى مزمور 50: 7 - 15 نرى أن المراد ليس النهي عن تقديم الذبائح للحصول على الغفران، بل التنبيه إلى عدم استطاعة البشر أن يقدموا الذبيحة الكافية عن خطاياهم، فإن اللّه تولَّى تدبيرها بنفسه (عبرانيين 10: 5 - 9) والدليل على لك أنَّ اللّه حرّضهم بعد هذه الآيات ب 600 سنة تقريباً بواسطة ملاخي النبي على تقديم الذبائح التي لا عيب فيها، فقال لهم: «وَإِنْ قَرَّبْتُمُ ?لأَعْمَى ذَبِيحَةً، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ شَرّاً؟ وَإِنْ قَرَّبْتُمُ ?لْأعْرَجَ وَ ?لسَّقِيمَ، أَفَلَيْسَ ذَلِكَ شَرّاً؟»(ملاخي 1: 8).

كما أنه بالرجوع إلى الآيات الواردة في سفر إرميا 7: 21 - 22 ، نرى أن المراد بها ليس وجوب امتناع اليهود عن تقديم الذبائح، بل وجوب توبتهم للّه وإصلاح طرقهم أمامه، لأنهم كانوا يظلمون الغريب واليتيم والأرملة، كما كانوا يسفكون دماء الأبراء ويركضون وراء العبادة الوثنية، وبعد ذلك كانوا يتقدمون بذبائحهم إلى اللّه!! (إرميا 7: 1 - 15).

  • عدد الزيارات: 25311

الإنجيل المقدس مجانا

إحصل على نسختك المجانية من الإنجيل المقدس يصل إلى عنوانك البريدي أو بواسطة صديق.

شاهد فيلم المسيح

شاهد فيلم المسيح بلهجتك الخاصة متوفر بعدة لهجات من مختلف الدول العربية مثل اللهجة الجزائرية والتونسية والمصرية وغيرها.

إتصل بنا عبر سكايب

إلى زوارنا في البلاد العربية بامكانكم الإتصال بأحد مرشدينا مباشرة من الساعة التاسعة صباحا حتى الثالثة مساء بتوقيت مصر.

شاهد قصص الأنبياء

سلسلة قصص درامية باللغة العربية عن أنبياء الله في العهد القديم تبدأ من قصة آدم وحواء حتى قصة الملك داود.