الطرق البشرية للحصول على الغفران
يحاول معظم الذين يدركون شناعة خطاياهم أن يسترضوا اللّه بوسائل شتى، حتى (حسب اعتقادهم) يغفرها لهم. وأهم هذه الوسائل هي الصلاة والصوم، والتوبة والصدَقة، والاستشفاع بالقديسين
والالحين، كما ذكرنا في المقدمة. ولكي تتضح لنا قيمة هذه الوسائل بصفة عامة من جهة جواز الحصول على الغفران بها نقول: لنفرض أنه عندما حُكم على إنسان بالإعدام لقتله آخر عمداً، أخذ يستعطف القاضي ويتذلل أمامه، أو أنه امتنع عن الطعام والشراب أمدا طويلاً، أو أنه تعهد بكل إخلاص أن لا يرتكب جريمة أخرى، أو أنه وهب كل أمواله للفقراء والمساكين، أو أنه التجأ إلى ذوي الشأن ليقوموا له بدور الوساطة والشفاعة أو... أو... فهل تعتبر هذه التصرفات أمام نزاهة العدالة المطلقة، أسباباً كافية لتبرة الإنسان المذكور، أو حيثيات قانونية لإِلغاء أو تخفيف حكم الإِعدام الصادر ضده؟ طبعاً لا، لأن التصرفات المذكورة لا تستطيع أن تعيد إلى قوانين الدولة كرامتها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليها، ولا أن تعيد الحياة إلى القتيل حتى نهض من موته ويحيا. ولذلك لا يمكن تبرئة هذا القاتل أو تخفيف الحكم الصادر ضده، بل يجب تطبيقه عليه كما هو، تنفيذاً لمطالب العدالة، وانتقاماً لروح القتيل أيضاً.
وعلى هذا النسق تماماً نقول: بما أن الخاطئ لم يُفسِد فقط نفسه التي ائتمنه اللّه عليها، بل تعدّى أيضاً على شريعته تعالى، إن لم يكن قد أساء كذلك إلى بعض الناس. وبما أن صلواته مهما طالت، وأصوامه مهما كثرت، وصدقاته مهما عظمت، وتوبته مما صدقت، وشفاعة القديسين والصالحين (إن كانت لهم شفاعة)، لا تستطيع أن تفي مطالب قداسة اللّه وعدالته. لأن هذه الأعمال (1) لا تستطيع أن تعيد إلى الخاطئ حياة الاستقامة التي كانت لآدم قبل السقوط في الخطية، حتى يتيسَّر له التوافق مع اللّه في داسته وغيرها من الصفات الأدبية السامية. (2) لا تستطيع أن تُعيد إلى عدالة اللّه كرامتها بالدرجة التي تصبح معها كأنه لم يُعتَدَ عليها، حتى تعتبر الأعمال المذكورة تعويضاً مناسباً لحقوقها ءلأن عدالة اللّه لا حدّ لقدرها، بينما الأعمال المذكوة محدودة في قدرها. والأمور المحدودة في قدرها لا تفي مطالب أمر لا حدَّ لقدره. إذاً فكل الأعمال الصالحة التي يعملها الخاطئ، وإن كانت لها قيمتها وقدرها من نواح خاصة (كما سيتضح فيما يلي)، غير أنها ليست كافية لتأهيله للوجود مع اللّه أو التمت بصفحه. ولا مجال للاعتراض على ذلك، إذ أن اللّه بقدر ما هو رحيم رؤوف هو عادل وقدوس، لأنه تعالى كامل كل الكمال من جهة كل صفة من صفاته. فلا يمكن أن يغفر إلا إذا وُفِّيت مطالب عدالته، ولا يقرِّب أحداً إليه إلا إذا قدر أن يتوافق مع قداسته، ويرها من الصفات الأدبية السامية.
ولكي لا ندع مجالاً للشك أمام أحد من جهة هذا الحق الإِلهي، ندرس كلاً من وسائل الغفران البشرية بشيء من التفصيل، في الفصول التالية.
- عدد الزيارات: 18167