المبحث الأول حتى الثالث - الجميع أخطأوا حتى الأنبياء
المبحث الثالث
خلق الله الإنسان طاهراً ،وأسكنه سعيداً في جنة عدن ،لا شيء يلهيه عن العبادة. ولكنه عصى أمر ربه وأكل من الممنوع عنه ،فخسر كل شيء. وكان آدم نائباً عن ذريته فأخذ الله عليه العهد والميثاق فنكثه بمعصيته ،فنقضته ذريته لنيابته عنهم. تجاوب آدم مع التجربة فسقط في الخطيئة. ولما كنا نحن البشر ذريته ،ورثنا عنه هذا الضعف وذلك الميل حسب نواميس الوراثة ،ولكنا لا نعاقب على خطيئته ،وسقطنا في المعاصي مع علمنا أن الله نهى عنها ،وارتكبنا المنكرات فعلياً كما فعل هو. وما يدل على صحة هذا الحديث الآتي : ·فجحد آدم فجحدت ذريته ،ونسي آدم فأكل من الشجرة ،فنسيت ذريته ،وخطىء آدم فخطئت ذريته أخرجه الترمذي وغيره ،وقال حديث حسن صحيح. والخلاصة أن نيابة آدم عن ذريته حقيقة لا ريب فيها عند علماء المسلمين. وقد كتب الشيخ محيي الدين ابن العربي مقالة على هذا الحديث في الباب 305 من كتابه.
وإذا كان آدم الذي خلقه الله طاهراً قد خالف أوامر مولاه ،فكم بالحري ذريته الضعيفة ،فالجميع إذاً أخطأوا وأعوزهم مجد الله ورحمته.
إن التاريخ والاختبار يعلماننا أن قلب الإنسان شرير ،وقلوبنا توحي لنا ·إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ - سورة يوسف 12 :53 - فإذا وجدت لسد شهواتها سبيلاً ولجته ،ما لم يكن لها رادع من صانعها يردعها. فإننا مع علمنا أن الخطيئة أو المنكر محرم نخالف ضمائرنا ونطيع أميالنا الفاسدة ونفعله. ألا ترى أن السكير مع علمه ضرر السكر صحياً ومادياً ودينياً يقدم عليه ،وهو منجذب بعوامل داخلية ،وهكذا الزاني والسارق والنّمام.
الاختبار الشخصي يعلمنا أن فينا أميالاً وشهوات منكرة ناتجة عن فساد طبيعي في الجنس البشري ،تحارب ضمائرنا وأميالنا الصالحة ،وتسبينا فنعمل ما يخالف إرادة الله بارئنا.
ولا نعرف شخصاً إلا ونحن قادرون أن نذكر له كثيراً أو قليلاً من السيئات الكبيرة. ولم يدَّع أحد الطهارة التامة من الناس أجمعين إلا يسوع ،هذا كما سيأتي في محله.
وما يدل على فساد الناس أجمعين الآية الآتية المذكورة سابقاً إن النفس لأمارة بالسوء - سورة يوسف 12 :53 - . قال الرازي :·إن النفس لأمارة بالسوء ،أي ميالة إلى القبائح ،راغبة في المعصية ،والطبيعة تواقة إلى الملذات. ولما كان الغالب انجذاب النفس إلى العالم الجسدي ،وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً ،حكم عليها بكونها أمارة بالسوء . انتهى كلام الرازي. ولا يخفى أن ال في كلمة النفس هي للجنس ،لذلك يجوز لناأن نقول إن كل نفس أمارة بالسوء. والكلمة - لأمارة - من صيغ المبالغة واللام فيها للتحقيق. إذاً الأمر مؤكد أن النفس في كل إنسان ميالة إلى القبائح وشديدة الرغبة في المعاصي.
ومما يدل على أن الجميع أخطأوا الآية الآتية أيضاً : ·وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ ا تَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً - سورة مريم 19 :71 و72 - قال الرازي ولا يجوز أن يقال - ثم ننجي الخ - إلا والكل واردون - النار - والأخبار المروية دالة على هذا القول. وعن جابر سُئل عن هذه الآية فقال :· سمعت رسول الله - ص - يقول الورود الدخول ،لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها . وجلال الدين يفسر كلمة ·واردها بالدخول والاحتراق ،ويثبت هذا قول الرازي في تفسير آية ·فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ - سورة الأعراف 7 :8 - وأما العاصي المؤمن فإنه يُعفى عنه.
ألا يدل هذا دلالة واضحة على أن جميع الناس يرتكبون المعاصي ،فمنهم من يُعذَّب قليلاً ثم يُعفى عنه ،ومنهم من يخلد في النار؟
وما يدل على أن الجميع أخطأوا الآية الآتية : ·وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نَقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - سورة الزخرف 43 :36 - ولما كان ذكر الله دائماً ليس في طاقة البشر ،فلا جرم أن الشيطان في جهاد دائم مع كل إنسان. ولما سئل محمد أي الجهاد أفضل؟ قال :·جهادك هواك . وسُمي هذا الجهاد الأكبر. وورد أيضاً ·أعدى أعدائك إليك نفسك التي بين جنبيك . من هذا نرى فساد الطبيعة والشر الكامن في القلب والميل إلى فعل الكبائر والصغائر.
ويستدل أن الجميع أخطأوا من الآية التالية أيضاً : ·وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ - سورة النور 24 :21 - .
المعنى بيّن أن الإنسان فاسد خاطئ ،ولولا فضل الله ورحمته لما تزكى أحد مطلقاً. وقد عدّ المسلمون اعتبار الإنسان نفسه سالماً من غضب الله من الكبائر ،فها قد ثبت معنا بأدلة لا تُردّ أن الجميع أخطأوا ،لذلك هم يحتاجون إلى ذبيحة المسيح للتكفير عن خطاياهم ،وإلا زُجوا في جهنم لإتمام عدل الله. وبما أنهم ورثوا الميل إلى الخطيئة والضعف عن أبيهم آدم ،فهم محتاجون أيضاً إلى الروح القدس ،روح الله ،لتقديس هذه القلوب ،ونزع هذا الميل الباطل شيئاً فشيئاً ،وتغيير الأفكار الباطلة والعواطف الفاسدة ،وهذا ما يُعبّر عنه الكتاب المقدس بالولادة الجديدة أو الثانية.
يعتقد النصارى استناداً إلى كتابهم أن جميع الناس أخطأوا وعم الفساد الجنس البشري كله. وبما أن الأنبياء بشر ،فهم إذاً خاطئون. ويقولون إن الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله ،وأمرهم أن ينذروا الناس ويبلغوا الرسالة ،عصمهم من الخطأ في تأدية الرسالة شفهاً وكتابة ،وحفظهم من النسيان والزلل ،إذ كان يهديهم بروحه القدوس إلى ما يجب أن يقولوه ويلقنهم ما يجب أن يبلغوه. ولكنهم - الأنبياء والرسل - غير معصومين في أعمالهم وتصرفاتهم الاعتيادية ،دلالة على ضعف الطبيعة البشرية ،وإثباتاً أن العصمة والكمال لله وحده ذي القدرة والجلال.
والخطيئة ،صغيرة كانت أم كبيرة ،تستحق غضب الله ونار الجحيم. فالقتل نوع والسرقة نوع آخر والشتم نوع آخر ،ولكن العقاب واحد عند الله ،لأن كلاً منها مخالفة وعصيان. وهذا مؤيد بآيات كثيرة من التوراة والإنجيل ،·الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ - رومية 3 :12 - ·إِذِ الجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللّهِ - رومية 3 :23 - . وقد ورد ما يثبت هذا في الحديث وهاك نصه :·من اقتطع حق امرء بيمينه أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل يا رسول الله : وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال وإن كان قضيباً من أراك .
ولنأت الآن إلى خطايا الأنبياء.
اختلف المسلمون في عصمة الأنبياء ،فمنهم من قال بعصمتهم من الخطايا مطلقاً ،ومنهم من قال بعصمتهم بعد سن البلوغ ونسب إليهم الخطأ في الصغر ،ومنهم من قال بعصمتهم في تبليغ الرسائل فقط وإمكان ارتكاب الخطأ في ما سوى ذلك. والرأي الأخير هو ما كان يعتقده المرحوم الشيخ محمد عبده ،مع أن القرآن يدل دلالة واضحة على أن أكثر الأنبياء قد ارتكبوا المعاصي ،ليس الصغائر بل الكبائر ،حسب تعليمهم كما سترى.
قال علماء المسلمين إن الخطيئة نوعان : كبيرة وصغيرة ،وقالوا إن الله يغفر الصغائر دون الكبائر. والكبائر في عرفهم 17 - 1 - الكفر ،- 2 - المداومة على ارتكاب الصغائر ،- 3 - اليأس من رحمة الله ،- 4 - اعتبار الإنسان نفسه سالماً من غضب الله ،- 5 - شهادة الزور ،- 6 - القذف بحق المسلم ،- 7 - الحلف الكاذب ،- 8 - السحر ،- 9 - شرب المسكرات ،- 10 - اغتصاب مال الأيتام ،- 11 - الربا ،- 12 - الزنا ،- 13 - اللواط وما شابهه ،- 14 - السرقة ،- 15 - القتل ،- 16 - الهرب من وجه الكافر في الحرب ،- 17 - العصيان على الوالدين.
فكل مؤمن ارتكب إحدى هذه الكبائر حسب اعتقادهم ولم يتب ،فلا بدّ من أنه يكفر في نار الجحيم. وما سوى هذه الكبائر فهو من الصغائر.
آدم أخطأ كما يستدل من سورة طه 20 :121 ·وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى قال المفسرون عصى ربه بأكل الشجرة ·وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ - سورة البقرة 2 :35 - وقال البيضاوي :·فضلَّ عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة ،أو عن المأمورية أو عن الرشد ،إذ اغترّ بقول العدو . وقد سلم الرازي بخطيئة آدم ،لكنه قال إنها حصلت قبل النبوءة ،وقال إنه عصى وغوى ولكن في أكل الشجرة ،وبما أنه تاب عنها فلا تحسب عليه. ولكن الرازي لم يثبت لنا حصول الخطيئة قبل النبوءة ،ومن أين علم هذا. وقال إن آدم إذ تاب لم تحسب عليه الخطيئة ،ونحن نوافقه على هذا الأخير ،ولكن هذا لا ينفي أنه عصى وغوى.
والعصيان من الكبائر بدليل قوله ·وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ - سورة الجن 72 :23 - . وقوله ·فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى - سورة طه 20 :122 - يدل على أن آدم عصى وتاب. والتوبة هي الندم على الخطيئة والاعتراف بها والعزم على عدم العود إليها. والتوبة لا تكون إلا عن المعصية ،وآدم نفسه قد اعترف بمعصيته بقوله ·قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ - سورة الأعراف 7 :23 - .
فهذا آدم من الأنبياء أولي العزم قد أطاع الشيطان وصدّقه وكذّب المولى تعالى وطمع في الخلود ،فأخطأ ،وخطيئته هذه تعدّ من الكبائر.
أخطأ نوح كما يستدل من سورة نوح 71 :24 29 إذ قال نوح : ·وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً وقال بعدها ·رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ثم قال إذ تحقق أنه أخطأ ·رب اغفر لي فطلب الاستغفار لا يكون إلا عن شعور بارتكاب منكر. ومهما حاول المفسرون أن يلطفوا العبارة فلا تخرج عما ذكرناه.
أخطأ إبراهيم كما ورد في سورة الأنعام 6 :76 و77 ·فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَ كُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ وهذا حصل له إذ رأى الشمس. فإذا كان إبراهيم قال هذا وهو يعتقده فقد أشرك وإلا فقد كذب ،وكلاهما من الكبائر.
وكما ورد في سورة إبراهيم 14 :41 ·رَبَّنَا ا غْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ . هنا طلب إبراهيم المغفرة صريحاً له ولوالديه وللمؤمنين.
وكما ورد في سورة البقرة 2 :260 ·وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .
هنا شك إبراهيم في قدرة الله ،والشك في قدرة الله من الكبائر. وقد ورد في الحديث ·نحن أولى بالشك من إبراهيم .
وفي سورة الأنبياء 21 :63 ·قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا كسَّر ابراهيم الأصنام ،ولما سُئل كذب ،وقال : إن كبير الأصنام كسَّر صغارها. وعن أبي هريرة أن رسول الله قال :·لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ،اثنتين منهم في ذات الله. قوله ·إني سقيم وقوله ·فعله كبيرهم وقوله إن سارة أخته حين أراد الجبار القرب منها . رواه البخاري ومسلم.
أخطأ موسى كما ورد في سورة القصص 28 :15 17 ·وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُّوِهِ فَا سْتَغَاثَهُ الذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الذِي مِنْ عَدُّوِهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُّوٌ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَا غْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .
وفي سورة الشعراء 26 :20 ·قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ وفي سورة الأعراف 7 :150 و151 ·وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ا بْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ ا سْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ ا غْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
يظهر من هذه الآيات أن موسى ارتكب القتل وشعر أن خطيئته من الكبائر ،فاعترف بها طالباً المغفرة. وكذلك أخطأ إذ غضب وطرح الألواح وأهان أخاه. ولما شعر بخطيئته استغفر لنفسه ولأخيه. وأما خطيئة هرون فهي عمل العجل الذهبي لبني إسرائيل كي يعبدوه.
أخطأ يوسف كما ورد في سورة يوسف 12 :24 عن يوسف وامرأة فوطيفار رئيس جيش فرعون ·وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ قال الجلالين همَّ بها قصد منها الجماع. والفخر الرازي قال : قال الواحدي في كتاب البسيط إن المفسرين الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم قالوا : إن يوسف همَّ بهذه المرأة هماً صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ،فلما رأى البرهان رجع. وما يثبت هذا قوله :·لنصرف عنه السوء والفحشاء .
أخطأ داود كما ورد في سورة ص 38 :24 و25 ·وَظَنَّ - تيقن - دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ أخطأ داود إذ ارتكب خطيئة القتل والزنا كما هو مذكور بالتفصيل في التوراة في سفر صموئيل الثاني ص 11 و12 ولكنه عندما شعر بالجرم استغفر ربه فغفر له. وكل هذا صريح في التوراة يغنيك عن أقوال المفسرين الطويلة المتضاربة.
والأحاديث المتعددة تثبت وقوع داود في الخطأ ،وتبين توبته ونوحه الطويل والغفران الذي ناله ،كما ذكر أنس بن مالك وابن عباس ووهب بن منبه وغيرهم.
أخطأ سليمان كما ورد في سورة ص 38 :31 33 ·إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ قَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأَعْنَاقِ .
قد ذهب المفسرون مذاهب شتى في تفسير هذه الآيات ،وسردوا روايات عديدة لإثبات آرائهم كما ترى في الكشاف والرازي وغيرهما. ولكن الخلاصة أن الخيل ألهته عن ذكر الله والصلاة ،حتى قالوا إنه ذبحها.
والآية 34 و35 من سورة ص 38 : ·وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ ا غْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي تبين أن سليمان أخطأ فعلاً ،لأنه كيف يطلب المغفرة إن لم يكن قد شعر بذنب؟
أخطأ يونس - يونان - كما ورد في سورة الصافات 37 :139 144 ·وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الفُلْكِ المَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ فَا لْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الفعل أبق يدل على أن يونس عصى ربه ،والغرابة أنه عصاه حالة كونه ·من المرسلين ومما يثبت عصيانه قوله ·وهو مليم ومما يؤكد هذا قوله إنه استحق لأجل عصيانه أن يبقى في بطن الحوت ·إلى يوم يبعثون لولا أنه كان من المسبحين أي طالبي المغفرة. وإلا فما هو معنى التسبيح في هذا المقام؟
أخطأ محمد كما يستدل من سورة الفتح 48 :2 ·لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيما ومن سورة محمد 47 :19 ·وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ .
ومن سورة غافر 40 :55 ·وَا سْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
ومن سورة النساء 4 :105 و106 ·إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ لِتَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً .
فالآية الأولى تدل على أن محمداً أذنب من قبل هذه الآية ،وأنه سيذنب من بعدها. وإذا قيل كما قال الرازي والكشاف وغيرهما إنه يستغفر لأمته ،فالآية الثانية تُدحض هذا ،وتبين أن المطلوب منه أن يستغفر لذنبه أولاً ولذنوب المؤمنين ذكوراً وإناثاً ثانياً.
يقول بعض العلماء المسلمين إن حسنات الأبرار تمحو سيئات المقربين ،وإن الرجل التقي إذا خالف الله مخالفة طفيفة يحسبها من الكبائر. وكثيراً ما يعد ما ليس بذنب ذنباً إذا فعله فيطلب المغفرة من أجله. ويقولون هذا ما حصل لمحمد. ولكن فاتهم أن الله حسب اعتقادهم هو المتكلم القائل واستغفر - يا محمد - لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. فهل يتوهم الله ما ليس بإثم إثماً ،ويطلب من محمد أن يلتمس المغفرة؟
ومن سورة الأحزاب 33 :37 ·وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَّوَجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً .
والخبر أن محمداً أعتق زيداً عبده وتبناه بعد أن آمن ،وزوَّجه بشريفة اسمها زينب ،ولكن محمداً أظهر لها يوماً ما بعدئذ ميله إليها بقوله :·سبحان مُقلّب القلوب . فذكرت زينب هذا لزوجها ففهم هو مراد محمد ،فأتاه كأنما من تلقاء نفسه وقال :·أريد أن أفارق صاحبتي . فتجاهل محمد وقال : مالك؟ أرابك منها شيء؟ قال لا. ولكن لشرفها تتعظم عليّ ،فقال له ·أمسك عليك زوجك . - راجع ما قاله الكشاف في تفسير هذه الآية الصفحة 213 المجلد الثاني - وما قاله البيضاوي.
وكان في ذلك يخفي في نفسه ما الله مبديه ،ويحاول أن يظهر للناس أنه لم يتزوج امرأة زيد إلا إطاعة لأمر الله. فترى من الآيات أن محمداً أخطأ بإخفاء ميله إلى زينب ،وتظاهره بما ليس في قلبه ،لذلك وُبّخ بقوله ·وتخفي في نفسك ما الله مبديه .
قال الرازي تفسيراً لهذه الآية ·من أنك تريد التزوج بزينب لكن الرازي اعتذر بقوله إنه كان يخشى الله ويخشى الناس ،فوبخه الله إذ قال ·والله أحق أن تخشاه وحده فمحمد إذاً أخطأ على هذا الوجه أيضاً وخشي الذي يجب أن لا يخشاه.
ومن سورة الإسراء 17 :74 ·وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً قال الرازي ،قال الزجَّاج : ·ولولا أن ثبتناك أي على الحق بعصمتنا إياك لقد كدت تركن إليهم ،أي تميل إليهم ،شيئاً قليلاً ،أي ركوناً قليلاً . قال قتادة :·لما نزلت هذه الآية قال النبي : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين .
وورد في أحاديث مسلم والبخاري قال محمد :·ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته . وعن أبي هريرة قال : سمعت الرسول يقول ·لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة وفي رواية أكثر من سبعين. وروي عن ابنة خالد وأبي هريرة كان رسول الله يقول :·اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار البخاري جزء أول.
قد اتضح من هذا الفصل وضوح الصبح لذي عينين أن أبانا آدم قد سقط في المعصية ،وفسدت أفكار قلبه ،وصار يميل إلى الشر ،وأننا نحن ذريته قد ورثنا عنه طبيعياً هذا الفساد وذاك الميل إلى الخطيئة. وقد ثبت لنا هذا أيضاً من الاختبار الشخصي.
رأينا أن الأنبياء العظام ارتكبوا المعاصي ،حتى محمد نبي المسلمين. لذلك احتاج الناس قاطبة إلى مخلص من العذاب المعد لمخالفي وصايا الله ومقترفي الآثام ،وإلى كفارة لا عيب فيها لفداء تلك الأنفس وإظهار عدل الله ورحمته ،الأمر الذي لا يتم إلا بصلب يسوع المسيح وموته ذبيحة عن العالمين ،حتى أن كل من آمن به يغفر الله ذنوبه ويقدسه بروحه القدوس ،ويُنيله الحياة الأبدية والسعادة الدائمة.
ولست أدري لماذا يحاول إخواننا المسلمون أن يبرئوا الأنبياء من وصمة الخطيئة ،خلافاً لما صرحت به كل الكتب المعتبرة إنها منزلة ،وخصوصاً أنه لم يدَّعِ أحد الأنبياء قط هذه العصمة ،بل أن الجميع أقروا بالعجز والخطأ. لقد أنزل الله الكتب ودوَّن العقائد حسب حكمته الفائقة ،وهو الحكيم بأعماله العليم باحتياجات الناس.
- عدد الزيارات: 36063