المبحث الأول حتى الثالث
المبحث الأول
الفصل الأول
صحة التوراة والإنجيل
لما كان الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - ركن عقائد الدين المسيحي وأساسه ،والحَكَم الوحيد الذي يرجع إليه المسيحيون في حل المشاكل ،والقاضي العادل الذي لا يخاف في إظهار الحق وإزهاق الباطل لومة لائم ،والشاهد الأمين في القضايا الشرعية ،فقد جعلته فاتحة مباحثي حتى إذا أَثبتُّ صحته لأخي المسلم بالحجة الدامغة والبرهان المنطقي أمكننا كلينا أن نستفتيه في كل دعوى ونرجع إليه عند كل اختلاف ،خاضعين لأحكامه ومستنيرين بمشكاة هداه ،إنه نورٌ وهدىً للعالمين.
- 1 - ورد في القرآن في سورة آل عمران 3 :3 و4 : ·وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ 4 مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ .
إن الله أنزل التوراة والإنجيل لهداية الناس.
- 2 - وفي سورة المائدة 5 :68 : ·قُلْ يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ . وهذه تبيّن صحة التوراة والإنجيل ،وإلا لما كان محمد يطلب إقامة حدودهما.
- 3 - وفي سورة المائدة أيضا 5 :47 : ·وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ أي أنّ الإنجيل منزل من عند الله ،وأنّ محمداً خاضع لأحكامه.
- 4 - وفي سورة النساء 4 :136 : · يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا باللَّهِ وَرَسُولِهِ والكِتَابِ الذِي نَّزَلَ عَلَى رَسُولِهِ والكِتَابِ الذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ باللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً . إنها تحكم بضلال المسلم الذي لا يؤمن بالتوراة والإنجيل إيمانه بالقرآن.
- 5 - وفي سورة سبأ 34 :31 : ·وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا القُرْآنِ وَلاَ بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ . فأهل مكة كانوا يعرفون التوراة والإنجيل كما كانوا يعرفون القرآن.
- 6 - وفي سورة القصص 28 :49 : ·قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا - القرآن والكتاب المقدس - أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ . تبيّن إقرار محمد بصحة التوراة والإنجيل ومساواتهما بالقرآن.
- 7 - وفي سورة المائدة 5 :43 : ·وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ . الإقرار صريح أنّ التوراة صحيحة ،فيها حكم الله ،وعلى متبعها أن لا يحكم سواها.
إنّ معاني الآيات السالفة الذكر واضحة غاية الوضوح ،حتى أنها لا تحتاج إلى تأويل أو تفسير مما درج عليه السلف.
وخلاصة هذه الآيات أن الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - تنزيل الحكيم العليم ،نور وهدى للعالمين ،وأن أحكامه مرعية وواجبة الاتباع ،وأنّ من لا يؤمن أو من يكفر به من المسلمين يكون دينه ناقصاً ويضلّ ضلالاً بعيداً. وأنّ أهل مكة كانوا يعرفونه كما كانوا يعرفون القرآن.
هل تُعرض بعد هذه الآيات الصريحة أيها الأخ المسلم عن الإيمان بهذا الكتاب وتحسب كأنه لم يكن شيئاً مذكوراً؟ بماذا تعتذر عن عصيانك أوامر الله يوم الحشر يوم تناقش الحساب؟ أنصح لك أن تقرأ هذا الكتاب - التوراة والإنجيل - وتؤمن به وتعمل بأحكامه ،فتجد فيه الوسيلة الوحيدة للتوفيق بين عدل الله ورحمته ،والتطهير من الخطايا والحصول على السعادة الأبدية بالمسيح يسوع ،الوجيه في الدنيا والآخرة.
ولربّ معترض من إخواني المسلمين يقول :·إن الآيات التي استشهدت بها حق ،وما استنتجته منها حقيقة لا ريب فيها ،ولكن التوراة والإنجيل اللذين تطلب مني الإيمان بهما ،واللذين شهد بصحتهما القرآن ،قد تغيّرا وتبدّلا ،ولعبت بهما أيدي التحريف. وما تسمونه الآن بالتوراة والإنجيل يخالف الأصل الذي شهد له القرآن تمام المخالفة ،لذلك ترى المسلمين معرضين عنهما ونابذين أحكامهما ،ولا لوم عليهم بذلك ولا تثريب فأجيب المعترض وأمثاله بما يأتي ،راجياً ،من القارئ الكريم أن ينعم النظر في جوابي وينصف في الحكم وله الفضل فأقول : قد علمت من الآيات القرآنية المذكورة آنفاً أن الكتاب - التوراة والإنجيل - كان في أيام محمد على غاية من الأحكام والصحة ،وإلاّ لما كان محمد أمر بوجوب الإيمان به والخضوع لأحكامه وإقامة حدوده ،أو وجب عليك أن تقرّ أنه كان يوماً ما على الأقل صحيحاً لا تغيير فيه ولا تبديل.
ثم أرجو منك أن تقرأ الآيات التالية ،لترى بنفسك : هل يمكن أن يحصل هذا التغيير ،وهل يستطيع البشر ذياك التبديل؟
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ - سورة الكهف 18 :27 - .
وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ - سورة الأنعام 6 :34 - .
لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ - سورة الأنعام 6 :115 - .
لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ - سورة يونس 10 :64 - .
وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً - سورة الفتح 48 :23 - .
لاَ يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ - سورة فصلت 41 :42 - .
إِنَّا نَحْنُ نَّزَلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ - سورة الحجر 15 :9 - .
فترى مما تقدم أنه لا يقدر أحد أن يبدل كلام الله
،لأن الله أنزل كتاباً ووعد بحفظه. فإذا قلت إن المقصود بالذكر هنا هو القرآن،
قلت بل يعني أيضاً التوراة والإنجيل ،بدليل قول القرآن : · فاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ - التوراة والإنجيل - إِنْ كُنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ - سورة الأنبياء 21 :7 -
بل إن التوراة نفسها قد سميت القرآن ·لَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ - سورة الأنبياء 21 :48 - .
وإن قلت إن الآيات تدل على حفظ القرآن ،قلتُ إن كل ما يصدق على القرآن يصدق على التوراة والإنجيل ،فالتوراة والإنجيل كلام الله ،والقرآن حسب اعتقادك كلام الله ،وأنت تعتقد أن الله قال في القرآن أن لا مُبدِّل لكلماته ،وأنه يحفظ ما أنزله من التبديل والتحريف والزيادة والنقص - كما أفاد الجلالين - . فهل تستطيع بعد ذلك أن تحكم أن التوراة والإنجيل قد تغيّرا؟
فإذا سلَّمت بهذا ،لزمك أن تسلّم بتغيير القرآن أيضاً ،لأن ما جاز عليهما يجوز عليه. وإذا قدر الناس على تغيير كلام الله التوراة والإنجيل ،فهم يقدرون على تغيير القرآن أيضاً لا محالة ،كما صرح الإمام الرازي. وتغيير القرآن ما لا تسلم به. إذاً وجب عليك أن تقول باستحالة تغيير التوراة والإنجيل وتبديلهما ،وتقرَّ بصحتهما وتعمل بأحكامهما وتتخذهما مرشداً إلى المسيح الطريق والحق والحياة.
وأما التحريف الذي أشار إليه القرآن في سور المدنية فهو واقع بحق بعض اليهود فقط ،والإنجيل خالص من تهمة القرآن هذه. والتحريف المشار إليه قد حصل في المعاني ،أي في تفسير الآيات ،إذ كان اليهود يفسرون الآيات خلافاً لما أراد محمد ،كما أثبت هذا الرازي والبيضاوي عند تفسيرهما آيات التحريف ،وإلا لكان كلام القرآن في السور المدنية مناقضاً لكلامه في السور المكية.
الفصل الثاني
يعلم كل عاقل أن الله الذي أبدع الكائنات ،السموات والأرضين وما بينهما ،بكلمة قدرته الأزلية هو قادر. ويتحقق من إتقان صنع هذه المخلوقات وكمال شرائع الكون ونواميسه وسيرها مئات السنين على نظام واحد لا يتغير أن الله حكيم. وبما أن الله قادر وحكيم فلا بد أنه يضع دستوراً ويكتب شريعة لمخلوقاته الناطقة العاقلة كي تعلم نسبتها إلى خالقها ،وواجباتها بعضها نحو بعض ،وتعرف مصير العالمين وقصاص العصاة وثواب الطائعين المؤمنين. وإلا لأصبح الناس فوضى لا وازع لهم ولا مشترع كالأسماك التي يأكل كبيرها صغيرها ،ويفني الناس بعضهم بعضاً كالأقوام المتوحشة التي بادت. وتستوي إذ ذاك الفضيلة والرذيلة بل لا يعرف لهما اسم أو مميز ،وهذا ما لا يرضى به القادر الحكيم.
فإذا لم يكن ذاك الدستور وتلك الشريعة هما التوراة والإنجيل فقل لي إذاً : ما هما؟ هل من كتاب قديم مقدس يفي بالغرض المقصود كالتوراة والإنجيل؟ كلا!
ولا شك أن الله القدير الحكيم إذا نزَّل كتاباً دستوراً وهدىً للعالمين يحفظه من التلف والتغيير والزيادة والنقصان ،وإلا لتمزق الدين كل ممزق ،وأصبحت الكتب متعددة واختلفت الآراء وضاعت الحقيقة ووقع الناس في حيص بيص ،وحاشا الله أن يفعل ذلك! لأنه قد حفظ كتابه التوراة والإنجيل قرناً بعد قرن من كل تغيير وتبديل ،وأبقاه نبراساً يهدي به كل الضالين.
إن الإجماع على تغيير الكتاب - التوراة والإنجيل - مستحيل ،لأن الديانة المسيحية والديانة اليهودية كانتا وقتئذ منتشرتين في الشرق والغرب ،في الشام والأناضول ومصر والحبشة والهند وأوروبا ،وكان الكتاب ولا سيما الإنجيل مترجماً إلى كل لغات الأقوام التي دخل بينهم ،كالعبرية والأرمنية والحبشية والقبطية واللاتينية من اللغتين اليونانية والعبرانية الأصليتين فكيف يعقل أن هؤلاء الألوف يجتمعون ويتفقون على تغييره مع اختلافهم في اللغة والعقيدة ،ولا سيما أن المسيحيين كانوا شيعاً متعددة ،كل واحدة تناظر الأخرى؟
ولا شك أن قول المسلمين بتغيير الكتاب هو دعوى دون دليل ،وإلا فليخبرونا أين الآيات التي تغيرت ،وما هي وما أصلها وما الغاية من تغييرها؟ فإن عجزوا ،ولا مراء أنهم عاجزون ،أسألهم : كيف جاز لكم هذا الادعاء ،والعالِم الحكيم لا يُقدم على أمر إلا ولديه ما يثبت مدعاه؟ ترجم الإنجيل إلى العربية قبل ظهور الإسلام ،لفائدة قبائل العرب المتنصرة كحِمْيَر وغسان وربيعة وأهل نجران والحيرة وغيرها. وإلا فكيف عرف هؤلاء النصرانية؟ ويؤيد هذا ما جاء في كتاب ·الأغاني أن ورقة بن نوفل - وهو أشهر كتبة العرب لزمن محمد - كان يكتب الكتاب ،فكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء أن يكتب. فلو حصل تبديل في الإنجيل لكان المسلمون حفظوا الأصل إثباتاً لدعواهم.
وأما اليهود فقد ضُرب المثل بشدة حرصهم على كتابهم ،فهم يعرفون عدد كلماته وحروفه ،كما يعرف هذا كل من عاشر رؤساءهم. فالكتاب المقدس جميعه إذاً لم يعتره تغيير ،ولن يعتوره تبديل ،كما شهد لذلك النقل والعقل.
وإذا تعددت الكتب فلا يشتبه عليك الحق ،فافحص وفتش وقابل ،تتضح لك الحقيقة. فالكتاب الذي يضرب على أيدي الشهوات والأميال النفسية ،وله اليد الطولى في تغيير القلوب الشريرة ،وهو موافق لصفات الله الطاهرة ،وصالح للعمران ،وهو مصدر المحبة لله والناس على اختلاف أديانهم ،والآمر بمحبة الأعداء ومسامحة المعتدين والذي يعتبر كل بني آدم إخوة ،هو الكتاب الذي أنزله واجب الوجود للعمل به بين العباد في كل قطر.
الفصل الثالث
إن قدم الكتاب المقدس - التوراة والإنجيل - وصحته أمر لا يقبل المراء ،وليس لكتاب آخر في الكون ما له من البراهين على إثبات ذلك. ولما كان التاريخ أعدل شاهد وأصدق دليل ،قصدت أن أستشهده في بحثنا هذا ،كي يكشف النقاب ويوضح الحقيقة بأجلى بيان.
لا يخفى أن الكتاب المقدس يشتمل على قسم كبير من النبوات التي تمّ أكثرها ،والباقي لا بد من أن يتمّ في حينه. وقد سبق الله فأنبأ بفم أنبيائه الكرام بحصول حوادث متعددة من قيام ملوك وسقوط آخرين ،وخراب مدن عظيمة ،وانقراض أمم شادت لنفسها عزاً باذخاً ،ولم تكن لتحلم بما حل بها من الفناء قبل حصوله.
فناحوم النبي تنبأ بصراحة بخراب نينوى قصبة الأشوريين ،المدينة العظيمة التي كان ارتفاع أسوارها مئة قدم ،ومحيطها ستين ميلاً ،وعليها ألف وخمس مئة برج ،ارتفاع كل منها مئتا قدم في حالة عظمتها. وقد تم هذا حرفياً. وإشعياء وإرميا تنبأا بخراب بابل قصبة الكلدانيين ،وهي في حال سمو مجدها وعظمة اقتدارها وزهوها ،فلم يمض مئة وستون سنة من تاريخ النبوة حتى خربت بابل العظيمة حسب النبوءة. وقد ذكر هيرودتس وزنفون المؤرخان كيفية خرابها مما يطابق أشد المطابقة ما أنبأ به النبيان.
ومن النبوات الكتابية أيضاً نبؤة حزقيال عن مدينة صور حيث نرى الحقائق التالية التي أثبتها وشهد لها التاريخ.
في الأصحاح 26 عدد - 8 - يخرب نبوخذنصر هذه المدينة ،وفي العدد - 3 - يقول النبي تقوم دول كثيرة عليها وفي - 4 - تصبح صخرة عارية وفي - 25 - يبسط الصيادون شباكهم على موقعها و - 12 - تلقى أنقاضها في البحر وفي - 14 - ولن تقوم للأبد و - 21 - تقرير وتأكيد زوالها.
وبعد نبوة حزقيال بثلاث سنوات حاصر ملك بابل صور مدة 13 سنة حتىاستسلمت له وقبلت شروطه - 585 573 ق.م - ولما اقتحمها اكتشف أن سكانها قد هجروها بالسفن إلى جزيرة جديدة في عرض البحر على بُعد نصف ميل من صور.. فقام بتخريب صور كما أشار النبي حزقيال في 26 :8.
وجاء الاسكندر الكبير. فحاصر المدينة الجديدة العاصية مستخدماً أنقاض القديمة كممر بحري إلى الجديدة بعد 60 متراً واستولى عليها. كما أشار حزقيال في 26 :3 و12 وأضحت صخرة عارية كما تقول النبوة في عددي 4 و5.
ومع أن تاريخ صور لم يتوقف نهائياً بعد حملة الاسكندر الرهيبة ،إلا أن الهجمات المتتالية من انتيخوس - 314 ق.م - إلى بطليموس فلادلفوس - 285 247 ق.م - الذي موّت تجارتها وأهميتها البحرية حتى احتلها المسلمون وأخربوها تماماً سنة - 1321 م - وأضحت كما يقول الرحالة العربي ابن بطوطة - كانت مضرب الأمثال ... وهي الآن أثر بعد عين - تماماً كما تشير النبوة في 26 :14.
·لقد نظر حزقيال النبي إلى صور في أيامه. فإذا هي عظيمة بالغة قمة العظمة... بحيث أن أقوال نبوته كانت كهذيان لسامعه وهو يشهد غنى ومجد صور الجبارة. وحسب حكمة البشر تكون نسبة صحة نبواته خلال سبع سنوات على صور ،لو أنها كانت محض صدفة ،فرصة واحدة من 750 مليون فرصة. ولكن نبواته كلها تحققت بكل تفاصيلها .
هكذا قال السيد الرب : ·هَئَنَذَا عَلَيْكِ يَا صُورُ فَأُصْعِدُ عَلَيْكِ أُمَماً كَثِيرَةً كَمَا يُعَلِّي البَحْرُ أَمْوَاجَهُ. فَيَخْرِبُونَ أَسْوَارَ صُورَ وَيَهْدِمُونَ أَبْرَاجَهَا. وَأَسْحِي تُرَابَهَا عَنْهَا وَأُصَيِّرُهَا ضِحَّ الصَّخْرِ - حزقيال 26 :3 21 - .
الفصل الرابع
إذا وجد التاريخ من يجرح شهادة له ،فشهادة العاديات - الآثار القديمة - لا تُجرح.
كانت الأسفار المقدسة ولم تزل عرضة لسهام المنتقدين وغرضاً تلطمه نبال الكفرة الملحدين ،لأنها تخالف أهواءهم الشهوانية وآراءهم الصبيانية وفلسفتهم الجهنمية. لذلك بحث كثير منهم في الآثار القديمة ،في فلسطين وبابل وأشور ومصر ،بغية أن يجدوا فيها ما يسفّه أقوال الوحي الإلهي إذا استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ،كي يبرهنوا للعالم أن الكتاب المقدس خلط أقاويل وتقاليد منحرفة. لكن الله أحبط مسعاهم فطاش سهمهم وخاب ظنهم ،لأن ألسنة تلك العاديات التي اكتُشفت أعربت عن موافقة تامة لما جاء في أسفار الوحي ،مع أن الذين كتبوها - الكتابات التي وُجدت على الآثار - هم من الوثنيين.
ولما وجد إخواننا المسلمون أن أسفار التوراة والإنجيل تخالف تعاليم قرآنهم الجوهرية ،رشقوها بتهمة التحريف ،وادعوا عدم صحتها. ولكن دعواهم لم يؤيدها البرهان الصحيح. وبما أن شهادة الآثار القديمة قد أقنعت كثيرين من الملاحدة الباحثين ،قصدت أن أشير إلى بعض هذه الآثار ،لعلها تفيد إخواننا المسلمين ،كما أفادت أولئك من قبل.
إن انتقاد الكفرة للكتاب والريب فيه راجع إلى أمرين ،أولهما الظن أن الكتابة كانت مجهولة ،أو أنها كانت قليلة الاستعمال في فلسطين حتى قُبيْل الجلاء البابلي - نحو سنة 540 ق.م - ولذلك يظنون أنه لا يُعقل أن موسى وغيره كتبوا في ذلك الوقت. وثانيهما أن التوراة قد غالت بوصف حضارة الشرق القديم إلى حدٍّ يفوق التصديق ،لمغايرته أقوال المؤرخين القدماء. على أن الاكتشافات الجديدة قد أيدت صحة أقوال الكتاب ،وتمثل لدينا تمدن مصر وبابل وأشور بجلاء ،وظهر لنا سنحاريب وتغلث فلاسر ونبوخذنصر يقصّون علينا أخبارهم وحضارتهم والمعارك التي اشتركوا فيها. وصار يمكننا أن نرى رسم الحروف التي كتب بها إشعياء وإرميا بل موسى ،والحجارة قد نطقت شاهدة لأقوال الله. وقد أثبتت هذه الآثار أن صناعة الكتابة كانت متقنة في عهد حزقيال وموسى وإبرهيم منذ 2234 سنة ق.م كما هي متقنة في أيامنا هذه.
وها أنا أذكر الأشياء المهمة والحوادث العظيمة المذكورة في التوراة التي أثبتت صحتها الآثار القديمة كما ترى :
إن الصفائح الأشورية الأصلية المعروضة الآن في المتحف البريطاني ،تثبت بأجلى بيان تفصيلاً قصة الخلق - المذكورة في بدء التوراة - بصورة مدهشة ،ولولا الاختصار لنقلت للقارئ ترجمتها. وهي وإن كانت ممزوجة بالخرافات ،فالحقيقة ظاهرة فيها ،وقد أثبتت هذه الصفائح عينها وجود زوجين أصليين من البشر ،إذ قيل فيها ·أن يكون اثنان خلقهما الرب ذو الوجه الشريف وترى في معرض المتحف المذكور آنفاً صورة على عمود بابلي قديم تمثل آدم وحواء أبوينا الأولين والشجرة بينهما والحية خلف حواء ،طبقاً لما ذكر عن سقوطهما في الأصحاح الأول من التوراة.
حسب العلماء غير المؤمنين سابقاً أن قصة التوراة عن الطوفان ليست إلا خرافة من أساطير الأولين ،وحادثة لا تقوى علىمعارضة الباحثين ،وخبراً تزيفه براهين العلماء المدققين. ولكنهم بعد المباحث الطويلة رجعوا خاسرين ،إذ دلت الآثار على غلطهم المبين ،فاعترفوا بصحة الطوفان وعرفوا الحق اليقين ،وأخصّ بالذكر منهم علماء الجيولوجيا ،لأنه وجد في أشور صفائح معروضة الآن في المتحف البريطاني ،كُتب عليها كيفية بناء الفلك ،وحفظ أنواع الحيوانات والناس ،ونزول الأمطار حتى غطّت وجه الأرض - حيث وجدت الأحياء - وأهلكت الإنسان والحيوان ،مع تفاصيل القصة.
وقد وجد في كل قارة من قارات الأرض كميات عظيمة من الأصداف البحرية متجمعة أو متفرقة في طبقات اليابسة في رؤوس الجبال وأعماق الأودية ،ومنها أصداف مختصة ببحار مخصوصة ،ومنها أجسام أسماك وأنواع نباتات بحرية متحجرة في وسط طبقات الجبال ،يمكن أن يطَّلع عليها كل إنسان في أي معرض كان. وهذه كلها تثبت صحة قصة الطوفان ،وإلا كيف وصلت تلك الأصداف والنباتات والأسماك إلى تلك الأماكن التي هي ليست بمواطنها؟
وقد اكتشف السيد سمث في أخربة نينوى صحيفة تُرى في المتحف البريطاني ،كُتب عليها ما يثبت بلبلة الألسنة في بناء برج بابل - تكوين 11 - وقد وجد المذكور لوحاً في أخربة أشور يصف خراب سدوم وعمورة بالنار والكبريت ،كما ذكر في التوراة - تكوين 19 - . والآثار قد أيدت صحة خبر غزوة كدرلعومر ملك عيلام وحلفائه لفلسطين ،ومن جملتهم امرافل ملك شنعار وبابل الجنوبية المذكورة في الأصحاح الرابع عشر من سفر التكوين.
وقد أنكر هيرودتس وبولترك على موسى النبي وجود الخمر واستعمالها في مصر ،ولكننا عرفنا من الأطلال المصرية أن المؤرخَينْ قد غلطا في زعمهما ،وأن المشترع موسى النبي كان مصيباً ،فقد وُجدت صور في قبور مصرية تصف عملية تدبير الكرم من غرسه إلى دوس العنب ،ومن استخراج العصير إلى حفظه في أوعية. وقد وجد زجاجات كُتب عليها - إرب - التي معناها خمر. وقد ثبت من الآثار حصول الجوع المذكور في التوراة على عهد يوسف - تكوين 41 :30 - .
وقد أظهرت الكتابات المصرية أن رعمسيس الكبير استخدم غرباء في بناء مدينيتن هما فيثوم ورعمسيس ،وهذا يطابق - خروج 1 :11 - وقد ظهر من الآثار التي اكتشفها المنقبون في أحد مدافن طيبة اسم الإسرائيليين وعبوديتهم وتسخيرهم.
ومن الشهادات الصامتة لصحة الكتاب قطعة من المرمر المعروفة بين علماء الآثار بالحجر الموآبي ،اكتشفها القس أوغسطس كلين - قس ألماني الأصل مكث مدة طويلة في فلسطين وقضى نحو عشر سنين في القاهرة وكيلاً للإرسالية الكنسية الإنكليزية ،وكان معروفاً بغزارة علمه وإتقانه لغات متعددة - شرقي الأردن داخل موآب القديمة. وتاريخ هذا الحجر 890 ق.م. وهو الآن في متحف اللوفر بباريس ،وهو يحتوي على ثلاثين سطراً من اللغة الفينيقية تخبر عن حروب ميشع ملك موآب مع عمري ملك إسرائيل والأدوميين ،كما هو مذكور في - 2 مل 3 :4 27 - ويخبر عن أشياء أُخرى دقيقة موافقة للكتاب المقدس ،ليس محل لذكرها.
واكتشاف الكتابة السلوامية مؤخراً في أورشليم أثبت صحة ما جاء في - 2 مل 20 :20،2اي 32 :30 ،اش 22 :9 و11 - . وهو أن حزقيا سد مخرجمياه جيحون الأعلى وأجراه تحت الأرض إلى الجهة الغربية من مدينة داود.
وقد وجد في أخربة نينوى أسطوانة كُتب عليها تاريخ حرب سرجون ملك أشور السنة 722 ق.م. مع أشوري ملك أشدود عندما كان حزقيا ملكاً - اش 2 :1 - وهذه الأسطوانة الآن في لندن.
وقد وُجدت أسطوانة مسدسة الشكل كُتب عليها قصة حصار أورشليم. حاصرها سنحاريب ملك أشور سنة 705 ق.م. كما هو مذكور في - 2 مل 18 :13 16 - وهي الآن في لندن. والحجة الدامغة أيضاً على صحة الكتاب هو نُسَخُهُ القديمة المحفوظة إلى الآن في مكاتب أوروبا الشهيرة.
وهذه النسخ كُتبت على رقوق من الجلد باللغة اليونانية لغة الإنجيل الأصلية وغيرها. ومنها ما يشتمل على التوراة والإنجيل برمتهما ،ومنها ما يحتوي على بعض أسفار منهما ،وها أنا أذكر لك بعضاً منها. - الأولى - النسخة المعروفة بالفاتيكانية ،تجدها الآن في قصر الفاتيكان في مدينة روما وقد نسخت قبل الهجرة بمئتين وخمسين سنة. - الثانية - النسخة السينائية نسبة إلى طور سيناء حيث وُجدت أولاً ،وهي الآن في المتحف البريطاني في لندن ،وهي تشتمل على التوراة والإنجيل ،وقد نُسخت قبل الهجرة بمئتي سنة. - الثالثة - النسخة الإسكندرية وهي الآن في مدينة لندن في مكتبة دار التحف ،وقد نُسخت قبل الهجرة بمئتي سنة وهي حاوية التوراة والإنجيل. - الرابعة - الأفرامية وهي الآن في باريس ،نُسخت قبل الهجرة بمئة وخمسين سنة ،وهي تحتوي على الإنجيل. هذا وفي عام 1947 أضحت القصة التالية من بين أهم الأحداث التاريخية : محمد الديب بدوي من التعامرة ،كان يرعى أغنامه بجانب البحر الميت. ولما تسلقت إحداها الجبل رماها بحجر ،فسمع الراعي صوت فخار يتهشم ،فأعاد الكرَّة. ثم صعد الجبل ودلف من فجوة ضيقة إلى كهف عله يجد كنزاً. وكان ذلك. ولكن ليس له ولقبيلته وحسب بل للعالم أجمع.
فهذا الاكتشاف يحتوي على مجموعة حزم من الكتابات المقدسة من بينها كتاب لسفر إشعياء النبي أحد أسفار الكتاب المقدس الذي يعود تاريخه إلى 700 قبل المسيح. وقد جاء شهادة ناطقة بسلامة أسفار الكتاب المقدس لمطابقته للنسخ الموجودة بين أيدينا الآن مما يبطل تهمة التحريف ويسفه مثل هذه الاتهامات والتخرصات الباطلة.
لقد صار بهذا الاكتشاف الثمين واضحاً أن أمانة النسخ والنقل لكتاب الله المقدس شهادة حية لقيادة الروح القدس لكنيسة المسيح مستودع أسرار الله. والآن عند النصارى كثير من النسخ القديمة عدا ما ذكر ،بعضها كُتب قبل الإسلام ،وبعضها في عصره ،وبعضها بعده ،لم نذكرها حباً للاختصار. فإذا قابلنا النسخ المتداولة الآن بين أيدي اليهود والنصارى بلغات تزيد على 300 بتلك النسخ القديمة ،نجدها مطابقة لها أشد المطابقة. وهي موجودة لفحص كل من يريد.
المبحث الثاني
إذا كبا جواد العالِم المسلم في ميدان المناظرة ،وخانه البرهان والدليل ،ولم يجد بداً من التسليم بسلامة التوراة والإنجيل من التحريف والتبديل ،علاوة على أنهما منزلان من عند الله الحكيم هدىً ونوراً للناس أجمعين ،عمد إلى الدعوى بأن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل. ولكنها دعوى من غير بينة ،وافتراء عظيم ،لأن القرآن نفسه لم يدّعِ هذا ،بل صرح على رؤوس الملأ بلسان عربي مبين أنه نزل مصدقاً للتوراة والإنجيل ومهيمناً عليهما ،كما ترى من الآيات التالية :
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ا ذْكُرُوا نِعْمَتِيَ التِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ - سورة البقرة 2 :40 و41 - .
مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ - سورة البقرة 2 :97 - .
ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ - سورة آل عمران 3 :81 - .
نَّزَلَ عَلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ - سورة آل عمران 3 :3 - .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَّزَلْنَا مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ - سورة النساء 4 :47 - .
وَمَا كَانَ هَذَا القُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الكِتَابِ - سورة يونس 10 :37 - .
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ - سورة المائدة 5 :48 - .
يَا أَهْلَ الكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ والإِنْجِيلَ - سورة المائدة 5 :68 - .
إن العاقل لا يقدم على دعوى إلا إذا كان واثقاً من نفسه المقدرة على إثباتها بألف دليل ،ولكن بعض إخواننا المسلمين يقدمون على هذا الأمر دون تروٍ. وإذا قلنا لهم هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ،جاءونا بأدلة واهية واهنة ،مثل قولهم إن الخلف ينسخ السلف. وبعبارة أخرى أن القرآن نزل بعد التوراة والإنجيل لذلك قد نسخهما. وبعضهم يقولون بما أن القرآن قد حوى التوراة والإنجيل ،لذلك لم يبق بعد لزوم لهما. وأراني غير محتاج مع ذكاء القارئ إلى إفساد هذه البراهين الواهية ،وخصوصاً لأن القرآن قد كفاني مؤونة هذا التعب ،لأن الآيات السبع السالفة مع عشرات مثلها تصرح صراحة لا تقبل التأويل أن القرآن نزل مصدقاً لصحة التوراة والإنجيل ومثبتاً إياهما ومهيمناً عليهما أي رقيباً وحافظاً ،ولم يدّعِ قط أنه جاء ناسخاً لأحكامهما. ولا يشتم رائحة هذا من كلامه بل نستفيد منه عكس ذلك ،لأنه زيادة على تصديقه وشهادته لهما ،كان يطلب من اليهود والنصارى علناً قائلاً ·يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والإنجيل .
فلو كان أمر النسخ صحيحاً لما رأينا محمداً يحث اليهود والنصارى على إقامة حدود التوراة والإنجيل ،ولما رأيناه يطلب من المسلمين أن يؤمنوا بهما. ولم يذكر القرآن قط أنه حوى التوراة والإنجيل لكي يقول المسلم إنه قد صار في غنى عنهما ،بل إن القرآن صرح بعكس هذا كما ترى في سورة الشعراء 26 :193 196 ·نَزَلَ بِهِ - بالقرآن - الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِّيٍ مُبِينٍ وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَّوَلِينَن - كتب الأولين أي التوراة والإنجيل - فترى أن الآية الأخيرة تثبت أن التوراة والإنجيل قد حوت القرآن ·إنه لفي زُبر الأولين فما بال أصحابنا المسلمين يدعون أن القرآن قد حواهما دون دليل؟
وافرض أن القرآن ضرب صفحاً عن القول بتصديقه للتوراة والإنجيل فلا يُستدل من سكوته أنه قد نسخهما إلا إذا جاهر بالقول الصراح إنه نسخهما وإنه لم يبق بعد من حاجة إليهما. والحمد لله أنه لم يفعل ذلك ،بل كثيراً ما كان يحاول إثبات صحة أقواله من موافقته لهما ووضع نفسه بإزائهما ·فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا - سورة القصص 28 :49 - . وكثيراً ما كان يحاول إقناع العرب بصحة أقواله والحاجة الماسة إليه بقوله إن التوراة والإنجيل قد نزلا بلغات أجنبية لقوم أجانب ·وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ - سورة الرعد 13 :7 - ولما كنتم أيها العرب لا تفهمون تلك اللغات أنزل الله القرآن من نوع تلك - التوراة والإنجيل - بلغتكم بلسان عربي مبين ·وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَاماً وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَاناً عَرَبِيّاً لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ - سورة الأحقاف 46 :12 - .
ألا تزحزح هذه الآيات اعتقادك أيها المسلم بالدعوى أن القرآن قد نسخ التوراة والإنجيل؟ ألم تر أن دعوى النسخ لا يقوم على صحتها دليل؟ هلاّ تؤمن إذاً بثبوت أحكامهما إلى يوم الدين وتقيم حدودهما فتحصل على السعادة والخلاص الثمين؟
المبحث الثالث
خلق الله الإنسان طاهراً ،وأسكنه سعيداً في جنة عدن ،لا شيء يلهيه عن العبادة. ولكنه عصى أمر ربه وأكل من الممنوع عنه ،فخسر كل شيء. وكان آدم نائباً عن ذريته فأخذ الله عليه العهد والميثاق فنكثه بمعصيته ،فنقضته ذريته لنيابته عنهم. تجاوب آدم مع التجربة فسقط في الخطيئة. ولما كنا نحن البشر ذريته ،ورثنا عنه هذا الضعف وذلك الميل حسب نواميس الوراثة ،ولكنا لا نعاقب على خطيئته ،وسقطنا في المعاصي مع علمنا أن الله نهى عنها ،وارتكبنا المنكرات فعلياً كما فعل هو. وما يدل على صحة هذا الحديث الآتي : ·فجحد آدم فجحدت ذريته ،ونسي آدم فأكل من الشجرة ،فنسيت ذريته ،وخطىء آدم فخطئت ذريته أخرجه الترمذي وغيره ،وقال حديث حسن صحيح. والخلاصة أن نيابة آدم عن ذريته حقيقة لا ريب فيها عند علماء المسلمين. وقد كتب الشيخ محيي الدين ابن العربي مقالة على هذا الحديث في الباب 305 من كتابه.
وإذا كان آدم الذي خلقه الله طاهراً قد خالف أوامر مولاه ،فكم بالحري ذريته الضعيفة ،فالجميع إذاً أخطأوا وأعوزهم مجد الله ورحمته.
إن التاريخ والاختبار يعلماننا أن قلب الإنسان شرير ،وقلوبنا توحي لنا ·إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بالسُّوءِ - سورة يوسف 12 :53 - فإذا وجدت لسد شهواتها سبيلاً ولجته ،ما لم يكن لها رادع من صانعها يردعها. فإننا مع علمنا أن الخطيئة أو المنكر محرم نخالف ضمائرنا ونطيع أميالنا الفاسدة ونفعله. ألا ترى أن السكير مع علمه ضرر السكر صحياً ومادياً ودينياً يقدم عليه ،وهو منجذب بعوامل داخلية ،وهكذا الزاني والسارق والنّمام.
الاختبار الشخصي يعلمنا أن فينا أميالاً وشهوات منكرة ناتجة عن فساد طبيعي في الجنس البشري ،تحارب ضمائرنا وأميالنا الصالحة ،وتسبينا فنعمل ما يخالف إرادة الله بارئنا.
ولا نعرف شخصاً إلا ونحن قادرون أن نذكر له كثيراً أو قليلاً من السيئات الكبيرة. ولم يدَّع أحد الطهارة التامة من الناس أجمعين إلا يسوع ،هذا كما سيأتي في محله.
وما يدل على فساد الناس أجمعين الآية الآتية المذكورة سابقاً إن النفس لأمارة بالسوء - سورة يوسف 12 :53 - . قال الرازي :·إن النفس لأمارة بالسوء ،أي ميالة إلى القبائح ،راغبة في المعصية ،والطبيعة تواقة إلى الملذات. ولما كان الغالب انجذاب النفس إلى العالم الجسدي ،وكان ميلها إلى الصعود إلى العالم الأعلى نادراً ،حكم عليها بكونها أمارة بالسوء . انتهى كلام الرازي. ولا يخفى أن ال في كلمة النفس هي للجنس ،لذلك يجوز لناأن نقول إن كل نفس أمارة بالسوء. والكلمة - لأمارة - من صيغ المبالغة واللام فيها للتحقيق. إذاً الأمر مؤكد أن النفس في كل إنسان ميالة إلى القبائح وشديدة الرغبة في المعاصي.
ومما يدل على أن الجميع أخطأوا الآية الآتية أيضاً : ·وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيّاً ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ ا تَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيّاً - سورة مريم 19 :71 و72 - قال الرازي ولا يجوز أن يقال - ثم ننجي الخ - إلا والكل واردون - النار - والأخبار المروية دالة على هذا القول. وعن جابر سُئل عن هذه الآية فقال :· سمعت رسول الله - ص - يقول الورود الدخول ،لا يبقى برّ ولا فاجر إلا دخلها . وجلال الدين يفسر كلمة ·واردها بالدخول والاحتراق ،ويثبت هذا قول الرازي في تفسير آية ·فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ - سورة الأعراف 7 :8 - وأما العاصي المؤمن فإنه يُعفى عنه.
ألا يدل هذا دلالة واضحة على أن جميع الناس يرتكبون المعاصي ،فمنهم من يُعذَّب قليلاً ثم يُعفى عنه ،ومنهم من يخلد في النار؟
وما يدل على أن الجميع أخطأوا الآية الآتية : ·وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَانِ نَقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ - سورة الزخرف 43 :36 - ولما كان ذكر الله دائماً ليس في طاقة البشر ،فلا جرم أن الشيطان في جهاد دائم مع كل إنسان. ولما سئل محمد أي الجهاد أفضل؟ قال :·جهادك هواك . وسُمي هذا الجهاد الأكبر. وورد أيضاً ·أعدى أعدائك إليك نفسك التي بين جنبيك . من هذا نرى فساد الطبيعة والشر الكامن في القلب والميل إلى فعل الكبائر والصغائر.
ويستدل أن الجميع أخطأوا من الآية التالية أيضاً : ·وَلَوْلاَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ - سورة النور 24 :21 - .
المعنى بيّن أن الإنسان فاسد خاطئ ،ولولا فضل الله ورحمته لما تزكى أحد مطلقاً. وقد عدّ المسلمون اعتبار الإنسان نفسه سالماً من غضب الله من الكبائر ،فها قد ثبت معنا بأدلة لا تُردّ أن الجميع أخطأوا ،لذلك هم يحتاجون إلى ذبيحة المسيح للتكفير عن خطاياهم ،وإلا زُجوا في جهنم لإتمام عدل الله. وبما أنهم ورثوا الميل إلى الخطيئة والضعف عن أبيهم آدم ،فهم محتاجون أيضاً إلى الروح القدس ،روح الله ،لتقديس هذه القلوب ،ونزع هذا الميل الباطل شيئاً فشيئاً ،وتغيير الأفكار الباطلة والعواطف الفاسدة ،وهذا ما يُعبّر عنه الكتاب المقدس بالولادة الجديدة أو الثانية.
يعتقد النصارى استناداً إلى كتابهم أن جميع الناس أخطأوا وعم الفساد الجنس البشري كله. وبما أن الأنبياء بشر ،فهم إذاً خاطئون. ويقولون إن الأنبياء والرسل الذين اصطفاهم الله ،وأمرهم أن ينذروا الناس ويبلغوا الرسالة ،عصمهم من الخطأ في تأدية الرسالة شفهاً وكتابة ،وحفظهم من النسيان والزلل ،إذ كان يهديهم بروحه القدوس إلى ما يجب أن يقولوه ويلقنهم ما يجب أن يبلغوه. ولكنهم - الأنبياء والرسل - غير معصومين في أعمالهم وتصرفاتهم الاعتيادية ،دلالة على ضعف الطبيعة البشرية ،وإثباتاً أن العصمة والكمال لله وحده ذي القدرة والجلال.
والخطيئة ،صغيرة كانت أم كبيرة ،تستحق غضب الله ونار الجحيم. فالقتل نوع والسرقة نوع آخر والشتم نوع آخر ،ولكن العقاب واحد عند الله ،لأن كلاً منها مخالفة وعصيان. وهذا مؤيد بآيات كثيرة من التوراة والإنجيل ،·الْجَمِيعُ زَاغُوا وَفَسَدُوا مَعاً. لَيْسَ مَنْ يَعْمَلُ صَلَاحاً لَيْسَ وَلَا وَاحِدٌ - رومية 3 :12 - ·إِذِ الجَمِيعُ أَخْطَأُوا وَأَعْوَزَهُمْ مَجْدُ اللّهِ - رومية 3 :23 - . وقد ورد ما يثبت هذا في الحديث وهاك نصه :·من اقتطع حق امرء بيمينه أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل يا رسول الله : وإن كان شيئاً يسيراً؟ قال وإن كان قضيباً من أراك .
ولنأت الآن إلى خطايا الأنبياء.
اختلف المسلمون في عصمة الأنبياء ،فمنهم من قال بعصمتهم من الخطايا مطلقاً ،ومنهم من قال بعصمتهم بعد سن البلوغ ونسب إليهم الخطأ في الصغر ،ومنهم من قال بعصمتهم في تبليغ الرسائل فقط وإمكان ارتكاب الخطأ في ما سوى ذلك. والرأي الأخير هو ما كان يعتقده المرحوم الشيخ محمد عبده ،مع أن القرآن يدل دلالة واضحة على أن أكثر الأنبياء قد ارتكبوا المعاصي ،ليس الصغائر بل الكبائر ،حسب تعليمهم كما سترى.
قال علماء المسلمين إن الخطيئة نوعان : كبيرة وصغيرة ،وقالوا إن الله يغفر الصغائر دون الكبائر. والكبائر في عرفهم 17 - 1 - الكفر ،- 2 - المداومة على ارتكاب الصغائر ،- 3 - اليأس من رحمة الله ،- 4 - اعتبار الإنسان نفسه سالماً من غضب الله ،- 5 - شهادة الزور ،- 6 - القذف بحق المسلم ،- 7 - الحلف الكاذب ،- 8 - السحر ،- 9 - شرب المسكرات ،- 10 - اغتصاب مال الأيتام ،- 11 - الربا ،- 12 - الزنا ،- 13 - اللواط وما شابهه ،- 14 - السرقة ،- 15 - القتل ،- 16 - الهرب من وجه الكافر في الحرب ،- 17 - العصيان على الوالدين.
فكل مؤمن ارتكب إحدى هذه الكبائر حسب اعتقادهم ولم يتب ،فلا بدّ من أنه يكفر في نار الجحيم. وما سوى هذه الكبائر فهو من الصغائر.
آدم أخطأ كما يستدل من سورة طه 20 :121 ·وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى قال المفسرون عصى ربه بأكل الشجرة ·وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ - سورة البقرة 2 :35 - وقال البيضاوي :·فضلَّ عن المطلوب وخاب حيث طلب الخلد بأكل الشجرة ،أو عن المأمورية أو عن الرشد ،إذ اغترّ بقول العدو . وقد سلم الرازي بخطيئة آدم ،لكنه قال إنها حصلت قبل النبوءة ،وقال إنه عصى وغوى ولكن في أكل الشجرة ،وبما أنه تاب عنها فلا تحسب عليه. ولكن الرازي لم يثبت لنا حصول الخطيئة قبل النبوءة ،ومن أين علم هذا. وقال إن آدم إذ تاب لم تحسب عليه الخطيئة ،ونحن نوافقه على هذا الأخير ،ولكن هذا لا ينفي أنه عصى وغوى.
والعصيان من الكبائر بدليل قوله ·وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ - سورة الجن 72 :23 - . وقوله ·فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى - سورة طه 20 :122 - يدل على أن آدم عصى وتاب. والتوبة هي الندم على الخطيئة والاعتراف بها والعزم على عدم العود إليها. والتوبة لا تكون إلا عن المعصية ،وآدم نفسه قد اعترف بمعصيته بقوله ·قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ - سورة الأعراف 7 :23 - .
فهذا آدم من الأنبياء أولي العزم قد أطاع الشيطان وصدّقه وكذّب المولى تعالى وطمع في الخلود ،فأخطأ ،وخطيئته هذه تعدّ من الكبائر.
أخطأ نوح كما يستدل من سورة نوح 71 :24 29 إذ قال نوح : ·وَلاَ تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلاَلاً وقال بعدها ·رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الكَافِرِينَ دَيَّاراً ثم قال إذ تحقق أنه أخطأ ·رب اغفر لي فطلب الاستغفار لا يكون إلا عن شعور بارتكاب منكر. ومهما حاول المفسرون أن يلطفوا العبارة فلا تخرج عما ذكرناه.
أخطأ إبراهيم كما ورد في سورة الأنعام 6 :76 و77 ·فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى القَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَ كُونَنَّ مِنَ القَوْمِ الضَّالِّينَ وهذا حصل له إذ رأى الشمس. فإذا كان إبراهيم قال هذا وهو يعتقده فقد أشرك وإلا فقد كذب ،وكلاهما من الكبائر.
وكما ورد في سورة إبراهيم 14 :41 ·رَبَّنَا ا غْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ . هنا طلب إبراهيم المغفرة صريحاً له ولوالديه وللمؤمنين.
وكما ورد في سورة البقرة 2 :260 ·وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي المَوْتَى قَالَ أَوَ لَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .
هنا شك إبراهيم في قدرة الله ،والشك في قدرة الله من الكبائر. وقد ورد في الحديث ·نحن أولى بالشك من إبراهيم .
وفي سورة الأنبياء 21 :63 ·قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا كسَّر ابراهيم الأصنام ،ولما سُئل كذب ،وقال : إن كبير الأصنام كسَّر صغارها. وعن أبي هريرة أن رسول الله قال :·لم يكذب إبراهيم إلا ثلاث كذبات ،اثنتين منهم في ذات الله. قوله ·إني سقيم وقوله ·فعله كبيرهم وقوله إن سارة أخته حين أراد الجبار القرب منها . رواه البخاري ومسلم.
أخطأ موسى كما ورد في سورة القصص 28 :15 17 ·وَدَخَلَ المَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُّوِهِ فَا سْتَغَاثَهُ الذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الذِي مِنْ عَدُّوِهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُّوٌ مُضِلٌّ مُبِينٌ قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَا غْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ .
وفي سورة الشعراء 26 :20 ·قَالَ فَعَلْتُهَا إِذاً وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ وفي سورة الأعراف 7 :150 و151 ·وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ا بْنَ أُمَّ إِنَّ القَوْمَ ا سْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ قَالَ رَبِّ ا غْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ .
يظهر من هذه الآيات أن موسى ارتكب القتل وشعر أن خطيئته من الكبائر ،فاعترف بها طالباً المغفرة. وكذلك أخطأ إذ غضب وطرح الألواح وأهان أخاه. ولما شعر بخطيئته استغفر لنفسه ولأخيه. وأما خطيئة هرون فهي عمل العجل الذهبي لبني إسرائيل كي يعبدوه.
أخطأ يوسف كما ورد في سورة يوسف 12 :24 عن يوسف وامرأة فوطيفار رئيس جيش فرعون ·وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاَ أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ والفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المُخْلَصِينَ قال الجلالين همَّ بها قصد منها الجماع. والفخر الرازي قال : قال الواحدي في كتاب البسيط إن المفسرين الموثوق بعلمهم المرجوع إلى روايتهم قالوا : إن يوسف همَّ بهذه المرأة هماً صحيحاً وجلس منها مجلس الرجل من المرأة ،فلما رأى البرهان رجع. وما يثبت هذا قوله :·لنصرف عنه السوء والفحشاء .
أخطأ داود كما ورد في سورة ص 38 :24 و25 ·وَظَنَّ - تيقن - دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ أخطأ داود إذ ارتكب خطيئة القتل والزنا كما هو مذكور بالتفصيل في التوراة في سفر صموئيل الثاني ص 11 و12 ولكنه عندما شعر بالجرم استغفر ربه فغفر له. وكل هذا صريح في التوراة يغنيك عن أقوال المفسرين الطويلة المتضاربة.
والأحاديث المتعددة تثبت وقوع داود في الخطأ ،وتبين توبته ونوحه الطويل والغفران الذي ناله ،كما ذكر أنس بن مالك وابن عباس ووهب بن منبه وغيرهم.
أخطأ سليمان كما ورد في سورة ص 38 :31 33 ·إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الجِيَادُ قَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بالحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بالسُّوقِ والأَعْنَاقِ .
قد ذهب المفسرون مذاهب شتى في تفسير هذه الآيات ،وسردوا روايات عديدة لإثبات آرائهم كما ترى في الكشاف والرازي وغيرهما. ولكن الخلاصة أن الخيل ألهته عن ذكر الله والصلاة ،حتى قالوا إنه ذبحها.
والآية 34 و35 من سورة ص 38 : ·وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنَابَ قَالَ رَبِّ ا غْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَ يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي تبين أن سليمان أخطأ فعلاً ،لأنه كيف يطلب المغفرة إن لم يكن قد شعر بذنب؟
أخطأ يونس - يونان - كما ورد في سورة الصافات 37 :139 144 ·وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ المُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ إِلَى الفُلْكِ المَشْحُونِ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المُدْحَضِينَ فَا لْتَقَمَهُ الحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ الفعل أبق يدل على أن يونس عصى ربه ،والغرابة أنه عصاه حالة كونه ·من المرسلين ومما يثبت عصيانه قوله ·وهو مليم ومما يؤكد هذا قوله إنه استحق لأجل عصيانه أن يبقى في بطن الحوت ·إلى يوم يبعثون لولا أنه كان من المسبحين أي طالبي المغفرة. وإلا فما هو معنى التسبيح في هذا المقام؟
أخطأ محمد كما يستدل من سورة الفتح 48 :2 ·لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيما ومن سورة محمد 47 :19 ·وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمُؤْمِنَاتِ .
ومن سورة غافر 40 :55 ·وَا سْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ
ومن سورة النساء 4 :105 و106 ·إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكِتَابَ بالحَقِّ لِتَحْكُمَ بِيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيماً وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً .
فالآية الأولى تدل على أن محمداً أذنب من قبل هذه الآية ،وأنه سيذنب من بعدها. وإذا قيل كما قال الرازي والكشاف وغيرهما إنه يستغفر لأمته ،فالآية الثانية تُدحض هذا ،وتبين أن المطلوب منه أن يستغفر لذنبه أولاً ولذنوب المؤمنين ذكوراً وإناثاً ثانياً.
يقول بعض العلماء المسلمين إن حسنات الأبرار تمحو سيئات المقربين ،وإن الرجل التقي إذا خالف الله مخالفة طفيفة يحسبها من الكبائر. وكثيراً ما يعد ما ليس بذنب ذنباً إذا فعله فيطلب المغفرة من أجله. ويقولون هذا ما حصل لمحمد. ولكن فاتهم أن الله حسب اعتقادهم هو المتكلم القائل واستغفر - يا محمد - لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات. فهل يتوهم الله ما ليس بإثم إثماً ،ويطلب من محمد أن يلتمس المغفرة؟
ومن سورة الأحزاب 33 :37 ·وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ واللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَّوَجْنَاكَهَا لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً .
والخبر أن محمداً أعتق زيداً عبده وتبناه بعد أن آمن ،وزوَّجه بشريفة اسمها زينب ،ولكن محمداً أظهر لها يوماً ما بعدئذ ميله إليها بقوله :·سبحان مُقلّب القلوب . فذكرت زينب هذا لزوجها ففهم هو مراد محمد ،فأتاه كأنما من تلقاء نفسه وقال :·أريد أن أفارق صاحبتي . فتجاهل محمد وقال : مالك؟ أرابك منها شيء؟ قال لا. ولكن لشرفها تتعظم عليّ ،فقال له ·أمسك عليك زوجك . - راجع ما قاله الكشاف في تفسير هذه الآية الصفحة 213 المجلد الثاني - وما قاله البيضاوي.
وكان في ذلك يخفي في نفسه ما الله مبديه ،ويحاول أن يظهر للناس أنه لم يتزوج امرأة زيد إلا إطاعة لأمر الله. فترى من الآيات أن محمداً أخطأ بإخفاء ميله إلى زينب ،وتظاهره بما ليس في قلبه ،لذلك وُبّخ بقوله ·وتخفي في نفسك ما الله مبديه .
قال الرازي تفسيراً لهذه الآية ·من أنك تريد التزوج بزينب لكن الرازي اعتذر بقوله إنه كان يخشى الله ويخشى الناس ،فوبخه الله إذ قال ·والله أحق أن تخشاه وحده فمحمد إذاً أخطأ على هذا الوجه أيضاً وخشي الذي يجب أن لا يخشاه.
ومن سورة الإسراء 17 :74 ·وَلَوْلاَ أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً قال الرازي ،قال الزجَّاج : ·ولولا أن ثبتناك أي على الحق بعصمتنا إياك لقد كدت تركن إليهم ،أي تميل إليهم ،شيئاً قليلاً ،أي ركوناً قليلاً . قال قتادة :·لما نزلت هذه الآية قال النبي : اللهم لا تكلني إلى نفسي طرفة عين .
وورد في أحاديث مسلم والبخاري قال محمد :·ما منكم من أحد يدخل الجنة إلا برحمة الله تعالى. قيل : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته . وعن أبي هريرة قال : سمعت الرسول يقول ·لاستغفر الله وأتوب إليه في اليوم سبعين مرة وفي رواية أكثر من سبعين. وروي عن ابنة خالد وأبي هريرة كان رسول الله يقول :·اللهم إني أعوذ بك من عذاب القبر ومن عذاب النار البخاري جزء أول.
قد اتضح من هذا الفصل وضوح الصبح لذي عينين أن أبانا آدم قد سقط في المعصية ،وفسدت أفكار قلبه ،وصار يميل إلى الشر ،وأننا نحن ذريته قد ورثنا عنه طبيعياً هذا الفساد وذاك الميل إلى الخطيئة. وقد ثبت لنا هذا أيضاً من الاختبار الشخصي.
رأينا أن الأنبياء العظام ارتكبوا المعاصي ،حتى محمد نبي المسلمين. لذلك احتاج الناس قاطبة إلى مخلص من العذاب المعد لمخالفي وصايا الله ومقترفي الآثام ،وإلى كفارة لا عيب فيها لفداء تلك الأنفس وإظهار عدل الله ورحمته ،الأمر الذي لا يتم إلا بصلب يسوع المسيح وموته ذبيحة عن العالمين ،حتى أن كل من آمن به يغفر الله ذنوبه ويقدسه بروحه القدوس ،ويُنيله الحياة الأبدية والسعادة الدائمة.
ولست أدري لماذا يحاول إخواننا المسلمون أن يبرئوا الأنبياء من وصمة الخطيئة ،خلافاً لما صرحت به كل الكتب المعتبرة إنها منزلة ،وخصوصاً أنه لم يدَّعِ أحد الأنبياء قط هذه العصمة ،بل أن الجميع أقروا بالعجز والخطأ. لقد أنزل الله الكتب ودوَّن العقائد حسب حكمته الفائقة ،وهو الحكيم بأعماله العليم باحتياجات الناس.
- عدد الزيارات: 36038