المبحث الخامس حتى الثامن - في التثليث في الوحدانية
المبحث السابع
لكي يكون القارئ على بينة من اعتقاد المسيحيين في وحدة الله والتثليث أدون له هنا العقيدة الأولى من عقائد الدين المسيحي بحروفها :
ليس إله غير الله الواحد الحي الحق الأزلي الأبدي المنزه عن الجسم والأجزاء والانفعال. ذو قدرة وحكمة وصلاح لا نهاية لها. خالق كل شيء منظور وغير منظور. وفي وحدة هذا اللاهوت ثلاثة أقانيم بجوهر واحد وقدرة واحدة وأزلية واحدة ,أي الآب والابن والروح القدس .
إن هذه العقيدة مثبتة بآيات صريحة من التوراة والإنجيل ,فهي من اختراعات المسيحيين. وأما إن كانت مدركة أو لا ,أو إن كانت تقبل البحث المنطقي أو لا ,فالجواب عليه تراه فيما يلي :
ليست مدركة لأنها فوق مدارك الآدميين ,ولكنها حقيقة وقضية مسلمة ,ولو لم يدركها جمهور الباحثين المسلمين استناداً للعقيدة الإسلامية القائلة : البحث عن ذات الله كفر كما ورد في الأحاديث.
لست أحاول الآن أن أفسر عقيدة لم يستطع تفسيرها الأوائل ولن يتوصل إلى إدراك كنهها الأواخر ,لأنها بحث عن ماهية الله موجِد الكائنات. والعلماء قاطبة لا يدركون سرّ أدنى هذه الكائنات ,فأنَّى لهم أن يدركوا ماهية الموجد الأول الخالق, ولكنني أريد أن أثبت أولاً أننا يجب أن نسلم بهذه العقيدة تسليماً إيمانياً قلبياً ولو لم تدركها عقولنا ,وذلك لأنها وردت بتفاصيلها في الكتاب الموحى به من عند الله لهداية الناس ,أعني به التوراة والإنجيل. وثانياً أريد أن أبين لإخواني المسلمين أنهم هم أنفسهم يعتقدون بعقائد كثيرة جوهرية وأساسية غير مدركة. ومن ضمنها وأولها الاعتقاد بالله ,فلماذا يطالبوننا بإثبات ما لا يقدرون هم على إثباته, فأقول :
1 إنّ كل الذين يؤمنون بالله من يهود ونصارى ومسلمين لا يعرفون شيئاً عن الله إلاّ ما أعلنه الله عن نفسه. وما زاد على ذلك فهو من التخيل أو من اجتهاد المجتهدين ,ولكنه لا يعوّل عليه عند الورعين ,ولا يصح أن يُتخذ حجة لإقناع الطالبين.
إنّ مداركنا قاصرة عن إدراك خالقها وإلا لما كان الله. ولا يدرك الله إلّا الله. إنّ الله كائن ولكن لا كالكائنات مالئ السموات والأرضين ,دون أن يكون له طول وعرض وعلوّ وعمق وكم وكيف ,لأنه لا يُحدّ ولا يُدرك ,تعالى عن التشبيه والتمثيل علواً كبيراً. ومهما خطر في بالك فالله غير ذلك. فلا نتطاول إلى معرفة ما لا تدركه عقولنا القاصرة ,ولنقبل ما أعلنه الله لنا عن نفسه ,دون بحث أو جدال ,ذلك أقرب إلى التقوى.
إنّ الأمر المهم أن نبحث هل الكتاب - التوراة والإنجيل - من الله أو لا. فإذا ثبت - وقد ثبت بحمد الله - أنه من عند الله ,فعلينا أن نصدق كل ما ورد فيه. سواء وافق أفكارنا أم لا ,إذ لا يجوز أن نصدق بعض الكتاب لأننا فهمناه ,وأن نكفر بالبعض الآخر لأننا لم نفهمه. وقد ورد في القرآن ذمّ من يفعل هذا في سورة البقرة 2 :85 أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ .
وكثيراً ما يشنع إخواننا المسلمون على التوراة والإنجيل لأنهما يذكران أن الله ,تكلم وسمع وكتب بإصبعه وحزن وندم وحل وما أشبه ذلك. فلإزالة ما بقلوبهم من الشك نذكرهم بأقوال القرآن المشابهة لذلك ,وإليك بعضها :
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ ا مْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ - سورة طه 20 :9 12 - .
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ - سورة النور 24 :35 - .
يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - سورة الفتح 48 :10 - .
وَقَالَ - إبراهيم - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ - سورة الصافات 37 :99 - .
وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - سورة النساء 4 :100 - .
بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ - سورة النساء 4 :158 - .
وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ - سورة البقرة 2 :210 - .
ثُمَّ ا سْتَوَى عَلَى العَرْشِ - سورة الأعراف 7 :54 - .
ثُمَّ ا سْتَوَى إِلَى السَّماءِ - سورة البقرة 2 :29 - .
ا لَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ا سْتَوَى عَلَى العَرْشِ - سورة الفرقان 25 :59 - .
إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ - سورة آل عمران 3 :55 - .
وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ والإِكْرَامِ - سورة الرحمان 55 :27 - .
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ - سورة القصص 28 :88 - .
وقد نُسب إلى الله في القرآن الحب والغضب والرضى وهي من الانفعالات النفسية والتحسر أيضاً والنسيان فَا لْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا - سورة الأعراف 7 :51 - .
يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ - سورة يس 36 :30 - .
لو أخذت هذه الآيات السالفة على ظاهرها لالتزمت أن تقرّ أن الله تمثل بالنار أو كان فيها. وإن قلت إن الله لم يكن النار أو فيها ,بل كانت لهداية موسى إلى أمر ,قلت إن آخر الآية فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوىً يناقضك ويثبت مدعاي.
وإن تقر أن الله نور وأن هذاالنور كمشكاة وأن المشكاة ضمنها مصباح الخ. وهذا ما يعبر عنه بالحلول والحصر ,وهكذا تلتزم أن تقر أن لله محلاً ووجهاً إلى غير ذلك ,وهذا ما لا يسلم به مسلم.
2 أنت تقول أيها الآخ المسلم إنك لا تصدق عقيدة التثليث - أي أن الله واحد في ثلاثة أقانيم - لأنك لا تقدر أن تفهمها ,ولا يمكن لأحد أن يثبتها لك. ولكن قد فاتك أنك أنت تصدق أموراً كثيرة ضمن معتقدك الإسلامي ,مشاركاً فيها اليهودي والمسيحي ,ولكن إذا سألك كافر بالوحي إثبات أمر واحد منها عجزت أنت وجميع الراسخين في العلم عن الإجابة وإقامة البرهان كما ترى.
كل مؤمن بالله يؤمن بأنه تعالى خلق السماء وما فيها من شموس وأقمار وكواكب ونجوم وسيارات ,وأبدع الأرض وما عليها من نبات وحيوان في ستة أيام ,وخلق الإنسان الحي الناطق بكلمة قدرته. وكل مؤمن يعتقد أن الأنبياء الكرام والرسل الصالحين قد عملوا المعجزات كإقامة الميت وإبراء الأكمه وشفاء المفلوج إلى غير ذلك. وكل مؤمن يعتقد بالقيامة والبعث ,أي أن كل البشر من آدم إلى آخر شخص في العالم سيُبعثون ,حتى أن الذين ماتوا حتف أنوفهم ,والذين أكلتهم الأسماك ,والذين افترسهم حيوان البر سيحيون بعودة أرواحهم إلى أجسادهم التي تحولت إلى صور شتى من تراب ونبات وحيوان وجماد لأجل الحساب والدينونة.
فإذا عارضك كافر في هذه الحقائق وأنكرها عليك ,أفتقدر أن تثبتها بالبرهان المنطقي والدليل القويم والحجج العقلية من غير الكتب المنزلة, أنت تعلم أنك عاجز عن إقامة الأدلة لإثبات الاعتقادات السالفة.
أنت تؤمن بالله وتصدقه ,ولكن إذا سألتك ما هو الله ,وأين هو, لقصرت عن الجواب المقنع. وأنت تعلم أن لك روحاً وتؤمن بهذا ,ولكنك لا تعرف ما هي الروح ولا أين هي! وأنت تعلم وتصدق أن لك عقلاً ومدارك عقلية ولكنك لا تفهم ماهيتها ,حتى أنك لا تفهم كثيراً من الأشياء المحسوسة حق الفهم ,ولذلك قال العلماء إننا لا ندرك جوهر الأشياء المادية بل نعرف صفاتها وخواصها فقط ,فكم بالحري الأشياء غير المحسوسة!
وأنا أعلم وأنت تعلم واليهود والنصارى والمسلمون أجمعون يعلمون أننا نحن وإياهم نصدق مسألة الخلق والمعجزات والبعث والدينونة وخلود النفس ,ونؤمن بالله ,ليس لأننا قادرون على إثبات هذه العقائد بل لأنها وردت في كتب نعتقدها منزلة صحيحة. فاليهودي يصدقها إذعاناً لكتابه التوراة ,والنصراني إذعاناً للتوراة والإنجيل ,والمسلم إذعاناً للقرآن.
وإذا صح رفض التثليث لعدم إمكاننا إدراكه ,يلزم رفض كل هذه العقائد السالفة ,ورفض غيرها من معلنات الله التي إدراكها فوق طاقتنا ,مثل كونه تعالى قائماً بنفسه وأزلياً وعلة العلل وغير معلول البتة ,وموجوداً في كل مكان في وقت واحد ,وعالماً بكل شيء وبكل ما يحدث منذ الأزل وإلى الأبد في كل وقت ,وعدم قبول علمه الزيادة أو النقصان.
والله واحد في الجوهر مثلث في العدد. ولما كان الله فريداً في الكون في طبيعته وصفاته ,فهو يمتاز عن كل ما سواه في كيفية وجوده ,كما يمتاز في صفاته السامية. وإن قيل إن جوهراً واحداً ذا ثلاثة أقانيم محال ,قلنا تلك دعوى بلا برهان ,وإن عقولنا القاصرة لم تخلق مقياساً للممكن وغير الممكن مما هو فوق إدراكها. وأقانيم اللاهوت هي في جوهر واحد فرد ,لا في جوهر واحد جنسي أو نوعي. فالتعدد في اللاهوت لا يلحق الجوهر ,ولايستلزم انقسام الجوهر ,لأن جوهر الله غير مادي بل روحي ,والروح لا يقبل الانقسام مطلقاً. فكلٌّ من الآب والابن والروح القدس هو باعتبار أقنومه في الذات الواحدة ,ولكل منهم جوهر اللاهوت الواحد بلا انقسام ولا انفصال. وليس للفظة أقنوم في اللغة معنى كمعناها الخاص في التعبير عن الثالوث الأقدس.
أفبعد كل هذا تقول إنّ اعتقاد المسيحيين بالتثليث جهالة, أفتقول بعد كل هذه الأمثلة إنك لا تسلم بالتثليث لأنك لا تجد عليه دليلاً عقلياً, ألا تعلم أن لكل شيء برهاناً من نوعه, فالحوادث التاريخية لا تثبت ظهور اسكندر المكدوني وغزواته العديدة في مصر والشام وبلاد فارس وبلاد الهند وغيرها بطريقة كيميائية أو هندسية أو منطقية, كلا. لأن هذا من مصلحة التاريخ ليس إلا.
أو هل يمكنك أن تثبت لي أن الكل أعظم من جزئه بطريقة كيميائية, فينتج معنا إذا صح القانون المتقدم ذكره أنّ لكل شيء برهاناً من جنسه.
فالمسائل الدينية تثبت من الكتب المنزلة ,والمسائل الرياضية من العلوم الرياضية كالحساب والجبر والهندسة ,والمسائل الفلكية من علم الفلك ,وقس على ما ذكر ما لم يُذكر.
فلا تحاول إذاً أيها الأخ المسلم أن تثبت العقائد الدينية بالبراهين العلمية لئلا تضل ضلالاً بعيداً.
ولماذا تخالفني في مسألة التثليث ,ونحن ربما متفقون عليها في الجوهر, لأنك أنت تقول : الله وكلمته وروحه بالتثليث ,وأنا أقول الآب والابن والروح القدس ,فآمن بالله ولا تقل ثلاثة. انته خيراً لك إنما الله إله واحد إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ فَأَمِنُوا باللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ا نْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ - سورة النساء 4 :171 - إننا نعتقد أن الله له كلمة وروح وهو واحد مع كلمته وروحه. وكل ما في الله هو الله حسب اعتقادك. فكلمة الله هو الله وله كل صفات الله كواجب الوجود والأزلية وغيرهما. وروح الله هو الله ومشارك له في القدم وعدم الفناء.
وها أنا أنقل ما قاله ابن الكندي في القرن التاسع في مسألة التثليث مخاطباً عبد الله بن اسماعيل الهاشمي :كيف تفهمنا أن الله واحد, ألا تعلم أن الواحد لا يُقال له واحداً إلا على ثلاثة أوجه ,إما في الجنس ,وإما في النوع ,وإما في العدد. فعلى أي وجه تصف الله عز وجل واحداً من هذه الوجوه, أفي الجنس ,أم في النوع ,أم في العدد, فإن قلت إنه واحد في الجنس صار واحداً عاماً لأنواع شتى ,لأن حكم الواحد في الجنس هو الذي يضم أنواعاً كثيرة مختلفة ,وذلك مما لا يجوز في الله تعالى. وإن قلت إنه واحد في النوع صار ذلك نوعاً عاماً لأقانيم شتى ,لأن حكم النوع يضم أقانيم كثيرة في العدد. وإن قلت إنه واحد في العدد كان ذلك نقضاً لكلامك إنه واحد فرد صمد. وألا تعلم أن الواحد الفرد بعض العدد ,لأن كمال العدد ما عمّ جميع أنواع العدد. فالواحد بعض العدد وهذا نقض لكلامك. فإن قلت إنه واحد في النوع فللنوع ذوات شتى لا واحد فرد. وإن قلت إنه واحد في العدد كان ذلك نقضاً لكلامك إنه واحد فرد صمد. وإن قلت إنه واحد في الجوهر ,وجب أن نسألك هل تخالف صفة الواحد في النوع عندك صفة الواحد في العدد, أو إنّما تعني واحداً في النوع واحداً في العدد لأنه عام, فإن قلت قد تخالف هذه تلك ,قلنا لك حد الواحد في النوع اسم يعم أفراداً شتى ,وواحد الواحد ما لا يعمّ غير نفسه. أفمقر أنت أن الله واحد في الجوهر ,يعم أشخاصاً شتى ,وإنما تصفه شخصاً واحداً, وإن كنت تعني أنه واحد في النوع واحد في العدد ,فإنك لم تعرف الواحد في النوع ما هو ,وكيف هو ,ورجعت إلى كلامك الأول أنه واحد في العدد ,وهذه صفة المخلوقين. وأما المسيحيون فيصفونه واحداً كاملاً في الجوهر ,مثلثاً في العدد ,أي في الأقانيم الثلاثة. فقد كملت صفته من الوجهتين ,واحداً في الجوهر لاعتلائه عن جميع المخلوقات ,بسيط غير كثيف ,وروحي غير جسمي. واحداً في العدد فلأنه عام لجميع أنواع العدد لأن العدد لا يعد ,وإن تكن أنواعه نوعين زوجاً وفرداً ,فقد دخل هذان النوعان في هذه الثلاثة. فبأي الأنحاء وصفناه لم نعدل عن صفة الكمال شيئاً كما يليق به. ذلك لتعلم أن وصفنا الله واحداً ليس على ما وصفته أنت .
وإنني في الختام أسأل الله الواحد في الجوهر المثلث في العدد أن يهب لك روحه القدوس ليقنعك بصحة هذه العقيدة إقناعاً قلبياً ,لتؤمن بها كما آمنت به إنه على كل شيء قدير وبالاستجابة جدير.
- عدد الزيارات: 15176