Skip to main content

مباحث المجتهدين

المبحث الخامس حتى الثامن

المبحث الخامس

عصمة المسيح ولاهوته

 

إننا معشر النصارى نعتقد حسبما أعلن الله في كتابه الكريم أن يسوع المسيح معصوم من الخطأ ,وذلك لأنه ليس من زرع البشر الذين أخطأوا وفسدوا ,كما أثبتت كل الكتب المعتبرة أنها مُنزلة. وفي القرآن والحديث ما يؤيد وحي الكتاب المقدس.

ونعتقد أن المسيح إله وإنسان معاً في ضوء الوحي الإلهي الإنجيلي ,وتبياناً لهذا على وجه التمثيل نقول : إن الله الواحد الأحد ظهر في الإنسان يسوع المسيح وحلّ فيه بملء لاهوته حلولاً في غير حصر : فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللَّاهُوتِ جَسَدِيّاً - كولوسي 2 :9 - اللّه ,بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً ,بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ ,كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ الذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ ,الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ العَالَمِينَ. الذِي ,وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ ,وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ ,وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ ,بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا ,جَلَسَ فِي يَمِينِ العَظَمَةِ فِي الأَعَالِي - عبرانيين 1 :1 3 - . وظهر للبشر. لذلك صحَّ أن يُسمى المسيح إلهاً وإنساناً معاً. فليس الإنسان إلهاً ,بل الإله إله ,والإنسان إنسان ,وليس إلهاًن كما يتوهم المسلم في هذا. فالمسيح بقوته الإلهية عمل المعجزات والأشياء الخارقة ,بخلاف الأنبياء لأنهم عملوا المعجزات بقدرة الله لا بقدرتهم. وبناسوته كان يأكل ويشرب وينام كأحد أفراد الناس. وكان طوراً يتكلم عن نفسه كإله وتارة كإنسان ,ما ذلك إلا لأنه إله وإنسان معاً كما سبق. وقد شك إخواننا المسلمون وبعض النصارى في لاهوت المسيح ,وذلك لأنهم رأوا آيات كثيرة في الكتاب تدل على أنه إنسان ,ولكنهم لو راجعوا الآيات الكثيرة الدالة على لاهوته أيضاً بإمعان نظر وترو ,لانقشعت عن أعينهم غيوم الشك. مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ا بْنَ الإِنْسَانِ - متى 26 :64 - اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ - يوحنا 14 :9 - .

والمسيح كإنسان عاش مدة على الأرض وصُلب ومات وقام ,ولكن الصلب والموت وقعا على الناسوت المادي.

أما لاهوت المسيح فواضح غاية الوضوح في التوراة والإنجيل ,من النبوات ,ومن كلام المسيح نفسه ,ومن تعليم الرسل ,ومن الآية الواردة في سورة آل عمران 3 :45 يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ا سْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ . فإذا ادعى مفسرو المسلمين أن المقصود بكلمة هو الأمر - كن - أو النطق في غير هذه الآية ,فلا سبيل لهم أن يدعوا هذا في الآية الحاضرة ,لأن قوله بكلمة منه اسمه المسيح عيسى يدل على أن الكلمة ذات وليس نطقاً أو أمراً ,كما يتضح عند أدنى تأمل ,وكأنه يقول بذات منه. لاحظ أن الضمير في - اسمه - مذكر راجع إلى - بكلمة - التي هي مؤنثة لفظاً ,ولكنها مذكرة معنى ,وإلا لما جاز هذا في اللغة.

يقول علماء الإسلام إن كل مخلوقات الله تسمى كلمات الله لأنها خُلقت بكلمة. أقول أن هذا باطل ,وإلا لجاز أن نسمي الأثر المؤثر ,والكتاب قلماً ,لأن القلم هو الواسطة أو الآلة التي كُتب بها الكتاب وليس الكتاب. فإذا خلق الله عيسى المسيح بكلمة بأمر - كن - حسب زعمهم لا يمكن أن يُسمى كلمة ,لأنه ليس هو الكلمة بل مفعول الكلمة - الأمر - . وإذا ألفت كتاباً بعقلي ,لا يسمى الكتاب عقلاً - أو عقلي - بل مفعول العقل ,وإلا لاختلط الحق بالباطل ,وامتزجت الجواهر بالأعراض.

وواضح من آيات أخر أن المسيح روح الله . وأنت تعلم أن كل ما في الله هو الله ,فكلمة الله هو الله أبدي ,وروح الله هو الله أبدي أزلي. وهذا يوافق تماماً ما ورد في أول إنجيل يوحنا فِي البَدْءِ كَانَ الكَلِمَةُ... وَكَانَ الكَلِمَةُ اللّه - يو 1 :1 5 - .

وأما أن المسيح ابن الله فممكن وغير كفر. قال الحديث عن لسان الله الفقراء عيالي وهذا غير مستحيل ,بدليل قوله في سورة الزمر 39 :4 لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَا صْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فلا عجب إذا أعلن الكتاب أن المسيح ابن الله ,ليس بطريق التناسل كما يظن بعض المسلمين ,لأن الابن لغة لا يطلق فقط على الابن الذكر عن طريق التناسل ,بل يكنى به كناية. كما يقال أبناء العلم وأبناء الدنيا وأبناء السبيل . ويقال أيضاً إن فلاناً ابن فلان على طريق التبني المجازي أو اللغوي. وقد دعا الله المؤمنين أبناء ,لكنه قال إن المسيح ابنه الوحيد ,أي هذه البنوة مغايرة لتلك. ونحن لا نفهم ماهي تلك البنوة تمام الفهم ,لأنها بعيدة عن الإدراك. وكما أن المسيح دُعي ابن الله ترفيعاً له عن البشر من جهة لاهوته ,قد دُعي ابن الإنسان ,تبياناً لناسوته. وهو المقصود في نبوءة دانيال 7 :13 و14 التي تدل على أن المسيح إله وإنسان معاً وَبِالْإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى : اللّه ظَهَرَ فِي الجَسَدِ - رسالة تيموثاوس الأولى 3 :16 - وَكَانَ الكَلِمَةُ اللّه وَالْكَلِمَةُ - الله - صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا - يوحنا 1 :1 و14 - .

وقد ذُكرت خطايا الأنبياء في التوراة والزبور والإنجيل وقد أيدها القرآن واحداً فواحداً تقريباً ,وذكر فساد الجنس البشري بأجمعه كما رأيت ,ولكن لم يذكر في واحد من هذه الكتب خطيئة ما ليسوع المسيح ,بل إنها جميعها شهدت بقداسته وطهارته على رؤوس الملأ وعصمته من الخطأ ,وجعلته فريداً وحيداً بين البشر من هذا القبيل ,كما سترى في مبحث امتياز المسيح الآتي.

ولم يتجرأ نبي من الأنبياء الكرام أو رسول من الرسل العظام أن يدعي لنفسه العصمة ,لأن العصمة في البشر محال ,وما العصمة والكمال إلا لله وحده. أما المسيح يسوع الذي فاق الجميع بلاهوته وناسوته ,وكانت له الثقة التامة بكماله وطهارته ,فقد جاهر بالقول : مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ , - يوحنا 8 :46 - رَئِيسَ هذَا العَالَمِ - الشيطان - يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ - يوحنا 14 :30 - والشهادات متعددة في الكتاب على عصمة المسيح ,حتى أن أعداءه لم يجدوا فيه علة من جهة سلوكه.

عندما فحص بيلاطس الوالي دعاوى اليهود ,أعلن أنه لم يجد علة واحدة في المسيح للموت - يوحنا 18 :38 ,19 :4 و6 - وامرأة بيلاطس بعثت فقالت لزوجها في أثناء المحاكمة : إِيَّاكَ وَذلِكَ البَارَّ - متى 27 :19 - وبعد ذلك غسل بيلاطس يديه قائلاً : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا البَارِّ - متى 27 :24 - ولكن اليهود قالوا دمه علينا وعلى أولادنا . وإذ ذاك أُسلم المسيح للصلب فصُلب. وسيرة المسيح كلها ألسنة ناطقة بطهارته التامة ونزاهته وعصمته ,بخلاف سير بقية البشر والأنبياء والرسل المشحونة بالخطأ والزيغان والظلم وفساد القلب.

وطهارة المسيح هذه وعصمته لازمتان لاستحقاقه ,لكي يكون صالحاً أن يقدم نفسه كفارة وذبيحة طاهرة لا عيب فيها عن أنفس البشر الخطاة.


 

المبحث السادس

اشترك الأنبياء والمرسلون في أسماء كثيرة وأفعال متعددة ,ولكن المسيح امتاز على الجميع. ولنذكر الآن ما ورد من هذا في القرآن :

- 1 - إنه كلمة الله وروحه كما ورد في سورة النساء 4 :171 إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ .

وفي سورة آل عمران 3 :45 يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ا سْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ .

قل لي يا صديقي لمن من الأنبياء أو من البشر قيل في القرآن إنه كلمة الله وروحه,

قد دعا الله بعض الناس رسلاً والبعض أنبياء والبعض منذرين والبعض مبشرين إلى غير ذلك ,ولكن كل هذه أقل من كلمة الله وروح الله اللتين دُعي بهما يسوع المسيح. فهو لا شك إذاً أعظم من الجميع ,ولا سيّما أن الروح أعظم من الرسول ,لأن روحك هي ذاتك ,وأما رسولك فهو غير ذلك.

قال الرازي والجلالين وغيرهما من المفسرين أن المسيح دُعي كلمة الله لأنه خُلق بكلمة بدون أبٍ ,لذلك نُسب إلى الكلمة. ولكننا نسألهم ,إذا كان ذلك كذلك ,فلماذا لم يُدع آدم الذي خُلق بكلمة أمر كلمة الله وروحاً منه,

ألا تستدعي هذه التسمية المسلم العالم إلى البحث عن كلمة وروح في الآيتين السالفتين اللتين تلمحان إذا لم نقل إنهما تصرحان بعلو شأن المسيح ولاهوته,

- 2 - إنه يخلق كما ورد في سورة آل عمران 3 :49 ... أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِ اللَّهِ .

قد سمح الله للخلق أن يشاركوه في صفات عديدة كالكرَم والعدل والرحمة والإحسان إلى غير ذلك ,وأعطى أنبياءه القوة على عمل المعجزات الخارقة العادة والتنبؤ بالأمور المستقبلة قبل حدوثها لإفادة الناس وبرهاناً على صحة رسالتهم العلوية ,ولكنه حفظ لنفسه أموراً لم يشرك فيها أحداً.

الأول الحضور في كل مكان - حضوراً غير مدرك وغير محدود - وذلك لكي يحيط بكل شيء ,ويسمع نداء كل حيّ من كل أنحاء المعمور ولو بوقت واحد. ولكن المخلوق لا يمكن أن يكون حاضراً في كل مكان في وقت واحد ,لأنه مادة ,والمادة لا تشغل إلا حيزاً واحداً في وقت واحد. والروح وإن تكن غير مادة فهي محدودة ,ولا يمكن أن تكون حاضرة في كل مكان في وقت واحد. والخلاصة أنه لا يمكن للإنسان أو الملَك أن يحضر في كل مكان في وقت واحد ,لئلا يصير إلهاً وهذا باطل.

الثاني القدرة على كل شيء قدرة أصلية لا مكتسبة. قد فعل الأنبياء الأعمال الباهرة والمعجزات القاهرة التي لا يقدر على عملها البشر ,ولكن بقوة الله بقوة مكتسبة لا قوة أصلية ,لأن الله وحده هو علة العلل ومصدر كل قوة. فإذا صار لأحد قوة أصلية صار مماثلاً لله ,وهذا باطل بالبداهة.

الثالث الخلق وإيجاد الروح الخلق هو الإبداع أو إيجاد شيء من لا شيء ,وفي معجم اللغة هو إيجاد أو إبداع شيء على غير مثال سبق.

فالله تعالى قد أعطى القدرة للأنبياء والرسل على إقامة الموتى وإبراء الأكمه وشفاء الأمراض على تعدادها والتنبؤ بالأمور المستقبلة قبل حدوثها ,ولكنه لم يسمح لأحد بالقدرة على الخلق وإعطاء الروح إلا ليسوع المسيح. لماذا, لأن المسيح أعظم من الأنبياء والرسل وله منزلة أخرى. من منهم قيل فيه في القرآن إنه خَلق ولو بإذن ربه, لم يُقل هذا لأحد كما يثبت لكل مطلع على القرآن.

ومن الآية السابقة ترى أن القرآن أثبت أن المسيح كان يخلق الطيور على الطريقة التي خلق الله آدم بها ,إذ جبله من تراب الأرض ,ونفخ فيه روح حياة فصار ذا نفس حية.

- 3 - ولادته العجيبة كما ورد في سورة النساء 4 :71 إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ .

أي أن المسيح وُلد من غير أب بالروح القدس بطريقة خارقة العادة. نعم إن آدم وُجد دون أب ,ولكن كان ذاك عن اضطرار ,إذ لم يكن من بشر من قبله. وأما ولادة المسيح من غير أب فلم تكن عن اضطرار ,بل عن قصد من الله آية للعالمين وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ - سورة الأنبياء 21 :91 - . وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا - سورة مريم 19 :21 - . ألا تستلفت ولادة المسيح الغريبة أنظار المسلم الصادق ,وتحمله على الاعتقاد أن المسيح عيسى لم يكن له مثيل بين الورى وأن له الدرجات العلى,

- 4 - الوجاهة في الدنيا والآخرة كما ورد في سورة آل عمران 3 :45 إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ا سْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ .

قال الكشاف : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ,وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة وقال بمعنى ذلك تماماً الرازي وجلال الدين السيوطي. وأما وجاهة موسى في سورة الأحزاب 33 :69 وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ففسرها الرازي بالمعرفة ,وقال الرازي تفسيراً لجملة ومن المقربين :ليس كل وجيه مقرباً ,لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ,ولذلك قال تعالى وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً... السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ - سورة الواقعة 56 :7 و10 و11 - .

من درس القرآن يعلم أنه لم يصف أحداً بالوجاهة في الدنيا والآخرة إلا المسيح عيسى ,ولم ينل أحد من الأنبياء والمرسلين هذا الامتياز سواه. فتش وانظر وبعد ذلك قل لي لماذا. وافحص عن السبب ترَ العجب.

- 5 - عدم ذكر خطيئة له - راجع عصمة المسيح.

- 6 - رفعه إلى السماء كما ورد في - سورة آل عمران 3 :55 - إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا .

إننا قد شرحنا التوفي في ما سلف ,فلا حاجة لإعادته ,إنما القصد أن نبين معنى الرفع. قال الرازي :المراد بالرفع الرفع إلى محل كرامة الله ,وجعل ذلك رفعاً للتفخيم والتعظيم. والمراد بمطهرك مخرجك من بين الذين كفروا. وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى .

وقال الكشاف تفسيراً لرافعك إليّ :رافعك إلى سمائي ومقرّ ملائكتي . إن رفع المسيح في القرآن يعني تعظيمه - من المقربين - . وأما الإنجيل فيخبرنا عن سبب تعظيم المسيح قائلاً : الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللّهِ ,لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّهِ. ل كِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ ,آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ ,صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ ,وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذ لِكَ رَفَّعَهُ اللّه أَيْضاً ,وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ ,وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَس ُوعَ المَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللّهِ الآبِ - فيلبي 2 :6 11 - .

ألا يستدعي هذا الأمر إعمال الفكر لمعرفة السبب,

فإذا أردت الجواب مني أيها القارئ الكريم عن السبب ,أجبتك بآية من الإنجيل ,الذي أفصح عن ذلك بأجلى بيان

وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الخَلَاصُ. لِأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ ,قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ ,بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ. - أع 4 :12


 

المبحث السابع

لكي يكون القارئ على بينة من اعتقاد المسيحيين في وحدة الله والتثليث أدون له هنا العقيدة الأولى من عقائد الدين المسيحي بحروفها :

ليس إله غير الله الواحد الحي الحق الأزلي الأبدي المنزه عن الجسم والأجزاء والانفعال. ذو قدرة وحكمة وصلاح لا نهاية لها. خالق كل شيء منظور وغير منظور. وفي وحدة هذا اللاهوت ثلاثة أقانيم بجوهر واحد وقدرة واحدة وأزلية واحدة ,أي الآب والابن والروح القدس .

إن هذه العقيدة مثبتة بآيات صريحة من التوراة والإنجيل ,فهي من اختراعات المسيحيين. وأما إن كانت مدركة أو لا ,أو إن كانت تقبل البحث المنطقي أو لا ,فالجواب عليه تراه فيما يلي :

ليست مدركة لأنها فوق مدارك الآدميين ,ولكنها حقيقة وقضية مسلمة ,ولو لم يدركها جمهور الباحثين المسلمين استناداً للعقيدة الإسلامية القائلة : البحث عن ذات الله كفر كما ورد في الأحاديث.

لست أحاول الآن أن أفسر عقيدة لم يستطع تفسيرها الأوائل ولن يتوصل إلى إدراك كنهها الأواخر ,لأنها بحث عن ماهية الله موجِد الكائنات. والعلماء قاطبة لا يدركون سرّ أدنى هذه الكائنات ,فأنَّى لهم أن يدركوا ماهية الموجد الأول الخالق, ولكنني أريد أن أثبت أولاً أننا يجب أن نسلم بهذه العقيدة تسليماً إيمانياً قلبياً ولو لم تدركها عقولنا ,وذلك لأنها وردت بتفاصيلها في الكتاب الموحى به من عند الله لهداية الناس ,أعني به التوراة والإنجيل. وثانياً أريد أن أبين لإخواني المسلمين أنهم هم أنفسهم يعتقدون بعقائد كثيرة جوهرية وأساسية غير مدركة. ومن ضمنها وأولها الاعتقاد بالله ,فلماذا يطالبوننا بإثبات ما لا يقدرون هم على إثباته, فأقول :

1 إنّ كل الذين يؤمنون بالله من يهود ونصارى ومسلمين لا يعرفون شيئاً عن الله إلاّ ما أعلنه الله عن نفسه. وما زاد على ذلك فهو من التخيل أو من اجتهاد المجتهدين ,ولكنه لا يعوّل عليه عند الورعين ,ولا يصح أن يُتخذ حجة لإقناع الطالبين.

إنّ مداركنا قاصرة عن إدراك خالقها وإلا لما كان الله. ولا يدرك الله إلّا الله. إنّ الله كائن ولكن لا كالكائنات مالئ السموات والأرضين ,دون أن يكون له طول وعرض وعلوّ وعمق وكم وكيف ,لأنه لا يُحدّ ولا يُدرك ,تعالى عن التشبيه والتمثيل علواً كبيراً. ومهما خطر في بالك فالله غير ذلك. فلا نتطاول إلى معرفة ما لا تدركه عقولنا القاصرة ,ولنقبل ما أعلنه الله لنا عن نفسه ,دون بحث أو جدال ,ذلك أقرب إلى التقوى.

إنّ الأمر المهم أن نبحث هل الكتاب - التوراة والإنجيل - من الله أو لا. فإذا ثبت - وقد ثبت بحمد الله - أنه من عند الله ,فعلينا أن نصدق كل ما ورد فيه. سواء وافق أفكارنا أم لا ,إذ لا يجوز أن نصدق بعض الكتاب لأننا فهمناه ,وأن نكفر بالبعض الآخر لأننا لم نفهمه. وقد ورد في القرآن ذمّ من يفعل هذا في سورة البقرة 2 :85 أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ العَذَابِ .

وكثيراً ما يشنع إخواننا المسلمون على التوراة والإنجيل لأنهما يذكران أن الله ,تكلم وسمع وكتب بإصبعه وحزن وندم وحل وما أشبه ذلك. فلإزالة ما بقلوبهم من الشك نذكرهم بأقوال القرآن المشابهة لذلك ,وإليك بعضها :

وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى إِذْ رَأَى نَاراً فَقَالَ لِأَهْلِهِ ا مْكُثُوا إِنِّى آنَسْتُ نَاراً لَعَلّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ - سورة طه 20 :9 12 - .

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ والأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ المِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ - سورة النور 24 :35 - .

يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ - سورة الفتح 48 :10 - .

وَقَالَ - إبراهيم - إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ - سورة الصافات 37 :99 - .

وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ - سورة النساء 4 :100 - .

بَل رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ - سورة النساء 4 :158 - .

وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ - سورة البقرة 2 :210 - .

ثُمَّ ا سْتَوَى عَلَى العَرْشِ - سورة الأعراف 7 :54 - .

ثُمَّ ا سْتَوَى إِلَى السَّماءِ - سورة البقرة 2 :29 - .

ا لَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ا سْتَوَى عَلَى العَرْشِ - سورة الفرقان 25 :59 - .

إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ - سورة آل عمران 3 :55 - .

وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلاَلِ والإِكْرَامِ - سورة الرحمان 55 :27 - .

كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ - سورة القصص 28 :88 - .

وقد نُسب إلى الله في القرآن الحب والغضب والرضى وهي من الانفعالات النفسية والتحسر أيضاً والنسيان فَا لْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا - سورة الأعراف 7 :51 - .

يَا حَسْرَةً عَلَى العِبَادِ - سورة يس 36 :30 - .

لو أخذت هذه الآيات السالفة على ظاهرها لالتزمت أن تقرّ أن الله تمثل بالنار أو كان فيها. وإن قلت إن الله لم يكن النار أو فيها ,بل كانت لهداية موسى إلى أمر ,قلت إن آخر الآية فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوىً يناقضك ويثبت مدعاي.

وإن تقر أن الله نور وأن هذاالنور كمشكاة وأن المشكاة ضمنها مصباح الخ. وهذا ما يعبر عنه بالحلول والحصر ,وهكذا تلتزم أن تقر أن لله محلاً ووجهاً إلى غير ذلك ,وهذا ما لا يسلم به مسلم.

2 أنت تقول أيها الآخ المسلم إنك لا تصدق عقيدة التثليث - أي أن الله واحد في ثلاثة أقانيم - لأنك لا تقدر أن تفهمها ,ولا يمكن لأحد أن يثبتها لك. ولكن قد فاتك أنك أنت تصدق أموراً كثيرة ضمن معتقدك الإسلامي ,مشاركاً فيها اليهودي والمسيحي ,ولكن إذا سألك كافر بالوحي إثبات أمر واحد منها عجزت أنت وجميع الراسخين في العلم عن الإجابة وإقامة البرهان كما ترى.

كل مؤمن بالله يؤمن بأنه تعالى خلق السماء وما فيها من شموس وأقمار وكواكب ونجوم وسيارات ,وأبدع الأرض وما عليها من نبات وحيوان في ستة أيام ,وخلق الإنسان الحي الناطق بكلمة قدرته. وكل مؤمن يعتقد أن الأنبياء الكرام والرسل الصالحين قد عملوا المعجزات كإقامة الميت وإبراء الأكمه وشفاء المفلوج إلى غير ذلك. وكل مؤمن يعتقد بالقيامة والبعث ,أي أن كل البشر من آدم إلى آخر شخص في العالم سيُبعثون ,حتى أن الذين ماتوا حتف أنوفهم ,والذين أكلتهم الأسماك ,والذين افترسهم حيوان البر سيحيون بعودة أرواحهم إلى أجسادهم التي تحولت إلى صور شتى من تراب ونبات وحيوان وجماد لأجل الحساب والدينونة.

فإذا عارضك كافر في هذه الحقائق وأنكرها عليك ,أفتقدر أن تثبتها بالبرهان المنطقي والدليل القويم والحجج العقلية من غير الكتب المنزلة, أنت تعلم أنك عاجز عن إقامة الأدلة لإثبات الاعتقادات السالفة.

أنت تؤمن بالله وتصدقه ,ولكن إذا سألتك ما هو الله ,وأين هو, لقصرت عن الجواب المقنع. وأنت تعلم أن لك روحاً وتؤمن بهذا ,ولكنك لا تعرف ما هي الروح ولا أين هي! وأنت تعلم وتصدق أن لك عقلاً ومدارك عقلية ولكنك لا تفهم ماهيتها ,حتى أنك لا تفهم كثيراً من الأشياء المحسوسة حق الفهم ,ولذلك قال العلماء إننا لا ندرك جوهر الأشياء المادية بل نعرف صفاتها وخواصها فقط ,فكم بالحري الأشياء غير المحسوسة!

وأنا أعلم وأنت تعلم واليهود والنصارى والمسلمون أجمعون يعلمون أننا نحن وإياهم نصدق مسألة الخلق والمعجزات والبعث والدينونة وخلود النفس ,ونؤمن بالله ,ليس لأننا قادرون على إثبات هذه العقائد بل لأنها وردت في كتب نعتقدها منزلة صحيحة. فاليهودي يصدقها إذعاناً لكتابه التوراة ,والنصراني إذعاناً للتوراة والإنجيل ,والمسلم إذعاناً للقرآن.

وإذا صح رفض التثليث لعدم إمكاننا إدراكه ,يلزم رفض كل هذه العقائد السالفة ,ورفض غيرها من معلنات الله التي إدراكها فوق طاقتنا ,مثل كونه تعالى قائماً بنفسه وأزلياً وعلة العلل وغير معلول البتة ,وموجوداً في كل مكان في وقت واحد ,وعالماً بكل شيء وبكل ما يحدث منذ الأزل وإلى الأبد في كل وقت ,وعدم قبول علمه الزيادة أو النقصان.

والله واحد في الجوهر مثلث في العدد. ولما كان الله فريداً في الكون في طبيعته وصفاته ,فهو يمتاز عن كل ما سواه في كيفية وجوده ,كما يمتاز في صفاته السامية. وإن قيل إن جوهراً واحداً ذا ثلاثة أقانيم محال ,قلنا تلك دعوى بلا برهان ,وإن عقولنا القاصرة لم تخلق مقياساً للممكن وغير الممكن مما هو فوق إدراكها. وأقانيم اللاهوت هي في جوهر واحد فرد ,لا في جوهر واحد جنسي أو نوعي. فالتعدد في اللاهوت لا يلحق الجوهر ,ولايستلزم انقسام الجوهر ,لأن جوهر الله غير مادي بل روحي ,والروح لا يقبل الانقسام مطلقاً. فكلٌّ من الآب والابن والروح القدس هو باعتبار أقنومه في الذات الواحدة ,ولكل منهم جوهر اللاهوت الواحد بلا انقسام ولا انفصال. وليس للفظة أقنوم في اللغة معنى كمعناها الخاص في التعبير عن الثالوث الأقدس.

أفبعد كل هذا تقول إنّ اعتقاد المسيحيين بالتثليث جهالة, أفتقول بعد كل هذه الأمثلة إنك لا تسلم بالتثليث لأنك لا تجد عليه دليلاً عقلياً, ألا تعلم أن لكل شيء برهاناً من نوعه, فالحوادث التاريخية لا تثبت ظهور اسكندر المكدوني وغزواته العديدة في مصر والشام وبلاد فارس وبلاد الهند وغيرها بطريقة كيميائية أو هندسية أو منطقية, كلا. لأن هذا من مصلحة التاريخ ليس إلا.

أو هل يمكنك أن تثبت لي أن الكل أعظم من جزئه بطريقة كيميائية, فينتج معنا إذا صح القانون المتقدم ذكره أنّ لكل شيء برهاناً من جنسه.

فالمسائل الدينية تثبت من الكتب المنزلة ,والمسائل الرياضية من العلوم الرياضية كالحساب والجبر والهندسة ,والمسائل الفلكية من علم الفلك ,وقس على ما ذكر ما لم يُذكر.

فلا تحاول إذاً أيها الأخ المسلم أن تثبت العقائد الدينية بالبراهين العلمية لئلا تضل ضلالاً بعيداً.

ولماذا تخالفني في مسألة التثليث ,ونحن ربما متفقون عليها في الجوهر, لأنك أنت تقول : الله وكلمته وروحه بالتثليث ,وأنا أقول الآب والابن والروح القدس ,فآمن بالله ولا تقل ثلاثة. انته خيراً لك إنما الله إله واحد إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ فَأَمِنُوا باللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ ا نْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ - سورة النساء 4 :171 - إننا نعتقد أن الله له كلمة وروح وهو واحد مع كلمته وروحه. وكل ما في الله هو الله حسب اعتقادك. فكلمة الله هو الله وله كل صفات الله كواجب الوجود والأزلية وغيرهما. وروح الله هو الله ومشارك له في القدم وعدم الفناء.

وها أنا أنقل ما قاله ابن الكندي في القرن التاسع في مسألة التثليث مخاطباً عبد الله بن اسماعيل الهاشمي :كيف تفهمنا أن الله واحد, ألا تعلم أن الواحد لا يُقال له واحداً إلا على ثلاثة أوجه ,إما في الجنس ,وإما في النوع ,وإما في العدد. فعلى أي وجه تصف الله عز وجل واحداً من هذه الوجوه, أفي الجنس ,أم في النوع ,أم في العدد, فإن قلت إنه واحد في الجنس صار واحداً عاماً لأنواع شتى ,لأن حكم الواحد في الجنس هو الذي يضم أنواعاً كثيرة مختلفة ,وذلك مما لا يجوز في الله تعالى. وإن قلت إنه واحد في النوع صار ذلك نوعاً عاماً لأقانيم شتى ,لأن حكم النوع يضم أقانيم كثيرة في العدد. وإن قلت إنه واحد في العدد كان ذلك نقضاً لكلامك إنه واحد فرد صمد. وألا تعلم أن الواحد الفرد بعض العدد ,لأن كمال العدد ما عمّ جميع أنواع العدد. فالواحد بعض العدد وهذا نقض لكلامك. فإن قلت إنه واحد في النوع فللنوع ذوات شتى لا واحد فرد. وإن قلت إنه واحد في العدد كان ذلك نقضاً لكلامك إنه واحد فرد صمد. وإن قلت إنه واحد في الجوهر ,وجب أن نسألك هل تخالف صفة الواحد في النوع عندك صفة الواحد في العدد, أو إنّما تعني واحداً في النوع واحداً في العدد لأنه عام, فإن قلت قد تخالف هذه تلك ,قلنا لك حد الواحد في النوع اسم يعم أفراداً شتى ,وواحد الواحد ما لا يعمّ غير نفسه. أفمقر أنت أن الله واحد في الجوهر ,يعم أشخاصاً شتى ,وإنما تصفه شخصاً واحداً, وإن كنت تعني أنه واحد في النوع واحد في العدد ,فإنك لم تعرف الواحد في النوع ما هو ,وكيف هو ,ورجعت إلى كلامك الأول أنه واحد في العدد ,وهذه صفة المخلوقين. وأما المسيحيون فيصفونه واحداً كاملاً في الجوهر ,مثلثاً في العدد ,أي في الأقانيم الثلاثة. فقد كملت صفته من الوجهتين ,واحداً في الجوهر لاعتلائه عن جميع المخلوقات ,بسيط غير كثيف ,وروحي غير جسمي. واحداً في العدد فلأنه عام لجميع أنواع العدد لأن العدد لا يعد ,وإن تكن أنواعه نوعين زوجاً وفرداً ,فقد دخل هذان النوعان في هذه الثلاثة. فبأي الأنحاء وصفناه لم نعدل عن صفة الكمال شيئاً كما يليق به. ذلك لتعلم أن وصفنا الله واحداً ليس على ما وصفته أنت .

وإنني في الختام أسأل الله الواحد في الجوهر المثلث في العدد أن يهب لك روحه القدوس ليقنعك بصحة هذه العقيدة إقناعاً قلبياً ,لتؤمن بها كما آمنت به إنه على كل شيء قدير وبالاستجابة جدير.


 

المبحث الثامن

يدَّعي إخواننا المسلمون أن اسم نبيهم محمد قد ورد في الإنجيل استناداً إلى ما ورد في القرآن في سورة الصف 61 :6 وَإِذْ قَالَ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي ا سْمُهُ أَحْمَدُ .

وقالوا إن معنى باراكليت اليونانية الواردة في الإنجيل أحمد ,وأحمد ومحمد سيان. وبعضهم يدّعي أن الإنجيل مبدل لأن هذه البشارة ليست فيه الآن ,مع أنها لاتزال مدونة كما كانت في أيام محمد في اللغة اليونانية. ولكن ما فهمه القرآن من الكلمة المقصودة في الآية في غير محله ,لأن الكلمة اليونانية كذا : IIAPAKAHTOE وليست كذا IIEPIKAHOTE

وبالحروف الإفرنجية كذا paracletos وليست pericletos تعريبها باراكليتس وليس بِرِكلِتُس. فالأولى معناها المعزي والثانية المشهور والمحمود.

وهذه الآية لم تزل في الإنجيل برهاناً على أنه لم يتغير. ولنرجع الآن إلى إيراد الآيات التي فيها لفظة الباراكليت لنفهم معناها من القرائن ,ولنرى هل يصح أن تُنسب إلى محمد كما يدعي إخواننا المسلمون,

وَأَنَا أَطْلُبُ مِنَ الآبِ فَيُعْطِيكُمْ مُعَّزِياً - باراكليت - آخَرَ لِيَمْكُثَ مَعَكُمْ إِلَى الأَبَدِ ,رُوحُ الحَقِّ الذِي لَا يَسْتَطِيعُ العَالَمُ أَنْ يَقْبَلَهُ ,لِأَنَّهُ لَا يَرَاهُ وَلَا يَعْرِفُهُ ,وَأَمَّا أَنْتُمْ فَتَعْرِفُونَهُ لِأَنَّهُ مَاكِثٌ مَعَكُمْ وَيَكُونُ فِيكُمْ - يوحنا 14 :16 و17 -

وَمَتَى جَاءَ المُعَّزِي - الباراكليت - الذِي سَأُرْسِلُهُ أَنَا إِلَيْكُمْ مِنَ الآبِ ,رُوحُ الحَقِّ ,الَّذِي مِنْ عِنْدِ الآبِ يَنْبَثِقُ ,فَهُوَ يَشْهَدُ لِي - يوحنا 15 :26 - .

لِأَنَّهُ إِنْ لَمْ أَنْطَلِقْ لَا يَأْتِيكُمُ المُعَّزِي - باراكليت - وَلكِنْ إِنْ ذَهَبْتُ أُرْسِلُهُ إِلَيْكُمْ. وَمَتَى جَاءَ ذَاكَ يُبَكِّتُ العَالَمَ عَلَى خَطِيَّةٍ وَعَلَى بِرٍّ وَعَلَى دَيْنُونَةٍ يوحنا 16 :7,8 - .

وَفِيمَا هُوَ - المسيح- مُجْتَمِعٌ مَعَهُمْ أَوْصَاهُمْ أَنْ لَا يَبْرَحُوا مِنْ أُورُشَلِيمَ ,بَلْ يَنْتَظِرُوامَوْعِدَ الآبِ الذِي سَمِعْتُمُوهُ مِنِّي ,لِأَنَّ يُوحَنَّا - يحيى - عَمَّدَ بالمَاءِ ,وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بالرُّوحِ القُدُسِ ,لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ - أعمال 1 :4 و5 -

وَلَمَّا حَضَرَ يَوْمُ الخَمْسِينَ كَانَ الجَمِيعُ مَعاً بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ ,وَصَارَ بَغْتَةً مِنَ السَّمَاءِ صَوْتٌ كَمَا مِنْ هُبُوبِ رِيحٍ عَاصِفَةٍ وَمَلَأَ كُلَّ البَيْتِ حَيْثُ كَانُوا جَالِسِينَ ,وَظَهَرَتْ لَهُمْ أَلْسِنَةٌ مُنْقَسِمَةٌ كَأَنَّهَا مِنْ نَارٍ وَاسْتَقَرَّتْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ. وَامْتَلَأَ الجَمِيعُ - المؤمنون والرسل - مِنَ الرُّوحِ القُدُسِ ,وَابْتَدَأُوا يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ أُخْرَى كَمَا أَعْطَاهُمُ الرُّوحُ أَنْ يَنْطِقُوا - أعمال 2 :1 4 -

لا يخفى أن المسيح كان معلم الحواريين مدة إقامته بينهم ,وكان مرشداً ومعزياً لهم ومدافعاً عنهم حتى تعلقت قلوبهم به ,وهو بسابق علمه عرف أن فراقه لهم بواسطة الموت سيحزنهم جداً. وتحقق أنهم في حاجة إلى مساعدة سماوية للتقوية والإرشاد والتعزية بعد فراقه ,لذلك سبق فوعدهم بالروح القدس المعزي الآخر ,كما رأيت في الآيات السالفة الذكر.

وبعد إنعام النظر في هذه الآيات يتضح لنا أن الشخص الموعود به لا يمكن أن يكون محمداً نبي المسلمين لأسباب تراها في نفس الآيات :

1 إن الموعود به غير ذي جسم روح الحق لذلك لا يستطيع العالم أن يقبله لأنه لا يراه. وهذا الوصف لا يصدق على محمد لأنه ذو جسم وقد رآه العالم المؤمن والكافر.

2 إن الموعود به جاء ليمكث مع الحواريين إلى الأبد ليمكث معكم إلى الأبد وهذا أيضاً لا يصدق على محمد ,لأنه لم يأت في زمن الحواريين ,ولم يمكث في العالم أو معهم إلى الأبد.

3 إن الموعود به كان وقتئذ مع الحواريين لأنه ماكث معكم وهذا أيضاً لا يصدق على محمد لأنه لم يكن مع الحواريين.

4 إن المسيح أوصى الحواريين أن لا يبرحوا من أورشليم بل ينتظروا ذاك المعزي الروح القدس. وهم إطاعة لأمر سيدهم - والمسلمون يعتقدون أن الحواريين طائعون - انتظروا عشرة أيام في أورشليم حتى جاء ذلك المعزي وامتلأ الجميع من الروح القدس وهذا أيضاً لا يصدق على محمد ,وإلا كان يجب على الحواريين أن ينتظروا في أورشليم نحو ست مئة سنة إلى مجيء محمد ,وأنىَّ لهم هذا العمر! وخصوصاً أن المسيح وعدهم بإرسال هذا الروح المعزي على عجل ,وإلا فليس من فائدة للتعزية وهم موتى ,فتعزيةً لهم قال : وَأَمَّا أَنْتُمْ فَسَتَتَعَمَّدُونَ بالرُّوحِ القُدُسِ ,لَيْسَ بَعْدَ هذِهِ الأَيَّامِ بِكَثِيرٍ - أعمال 1 :5 - .

5 ولست أظن أن الأخ المسلم يريد أن يعتقد أن المسيح هو الذي أرسل محمداً ,لأن الآيات السالفة تبين أن المسيح هو الذي أرسل الروح المعزي. فإن كان ذلك فلنا معه بحث آخر ,فيه يضطر أن يسلم بألوهية المسيح المرسِل ,لأن محمداً كان يدّعي أنه رسول الله ,فتأمل! والله أسأل أن يهب أخي المسلم هذا الروح القدس كما وهب الحواريين ,كي يرشده إلى الحق ويهديه سواء السبيل ,وينير ذهنه ليعرف الغث من السمين.

الخاتمة

ها قد عرفت مما سبق أنه ليس من واسطة للحصول على مغفرة الخطايا وطهارة القلب إلا المسيح ,وليس من كتاب يدل على طريق هذا الخلاص إلا الكتاب المقدس التوراة والإنجيل ,وليس من ديانة توفق بين عدل الله ورحمته وإظهار محبة الله للناس إلا الديانة المسيحية. فانتهز الفرصة أيها الأخ لأن الوقت وقت خلاص واليوم يوم مقبول.

والقصد من المباحث الماضية والمناظرة فيها ,الوصول إلى الحقيقة والحصول على السعادة بواسطة اتباع تلك الحقيقة. والله أسأل في الختام أن يمنح أخي المسلم روحه الصالح ,وينير ذهنه في تفتيشه عن الحق ,ويهديه الصراط المستقيم موضوع صلاته اليومية ,كي ينال الخلاص بالمسيح ,والحياة الأبدية في النعيم إلى أبد الآبدين.

  • عدد الزيارات: 15178
إحصل على نسختك المجانية من الإنجيل المقدس يصل إلى عنوانك البريدي أو بواسطة صديق.
شاهد فيلم المسيح بلهجتك الخاصة متوفر بعدة لهجات من مختلف الدول العربية مثل اللهجة الجزائرية والتونسية والمصرية وغيرها.
إلى زوارنا في البلاد العربية بامكانكم الإتصال بأحد مرشدينا مباشرة من الساعة التاسعة صباحا حتى الثالثة مساء بتوقيت مصر.
سلسلة قصص درامية باللغة العربية عن أنبياء الله في العهد القديم تبدأ من قصة آدم وحواء حتى قصة الملك داود.