المبحث الخامس حتى الثامن - في امتياز المسيح في القرآن على الأنبياء والبشر كافة
المبحث السادس
اشترك الأنبياء والمرسلون في أسماء كثيرة وأفعال متعددة ,ولكن المسيح امتاز على الجميع. ولنذكر الآن ما ورد من هذا في القرآن :
- 1 - إنه كلمة الله وروحه كما ورد في سورة النساء 4 :171 إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ .
وفي سورة آل عمران 3 :45 يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ا سْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ .
قل لي يا صديقي لمن من الأنبياء أو من البشر قيل في القرآن إنه كلمة الله وروحه,
قد دعا الله بعض الناس رسلاً والبعض أنبياء والبعض منذرين والبعض مبشرين إلى غير ذلك ,ولكن كل هذه أقل من كلمة الله وروح الله اللتين دُعي بهما يسوع المسيح. فهو لا شك إذاً أعظم من الجميع ,ولا سيّما أن الروح أعظم من الرسول ,لأن روحك هي ذاتك ,وأما رسولك فهو غير ذلك.
قال الرازي والجلالين وغيرهما من المفسرين أن المسيح دُعي كلمة الله لأنه خُلق بكلمة بدون أبٍ ,لذلك نُسب إلى الكلمة. ولكننا نسألهم ,إذا كان ذلك كذلك ,فلماذا لم يُدع آدم الذي خُلق بكلمة أمر كلمة الله وروحاً منه,
ألا تستدعي هذه التسمية المسلم العالم إلى البحث عن كلمة وروح في الآيتين السالفتين اللتين تلمحان إذا لم نقل إنهما تصرحان بعلو شأن المسيح ولاهوته,
- 2 - إنه يخلق كما ورد في سورة آل عمران 3 :49 ... أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرَاً بِإِذْنِ اللَّهِ .
قد سمح الله للخلق أن يشاركوه في صفات عديدة كالكرَم والعدل والرحمة والإحسان إلى غير ذلك ,وأعطى أنبياءه القوة على عمل المعجزات الخارقة العادة والتنبؤ بالأمور المستقبلة قبل حدوثها لإفادة الناس وبرهاناً على صحة رسالتهم العلوية ,ولكنه حفظ لنفسه أموراً لم يشرك فيها أحداً.
الأول الحضور في كل مكان - حضوراً غير مدرك وغير محدود - وذلك لكي يحيط بكل شيء ,ويسمع نداء كل حيّ من كل أنحاء المعمور ولو بوقت واحد. ولكن المخلوق لا يمكن أن يكون حاضراً في كل مكان في وقت واحد ,لأنه مادة ,والمادة لا تشغل إلا حيزاً واحداً في وقت واحد. والروح وإن تكن غير مادة فهي محدودة ,ولا يمكن أن تكون حاضرة في كل مكان في وقت واحد. والخلاصة أنه لا يمكن للإنسان أو الملَك أن يحضر في كل مكان في وقت واحد ,لئلا يصير إلهاً وهذا باطل.
الثاني القدرة على كل شيء قدرة أصلية لا مكتسبة. قد فعل الأنبياء الأعمال الباهرة والمعجزات القاهرة التي لا يقدر على عملها البشر ,ولكن بقوة الله بقوة مكتسبة لا قوة أصلية ,لأن الله وحده هو علة العلل ومصدر كل قوة. فإذا صار لأحد قوة أصلية صار مماثلاً لله ,وهذا باطل بالبداهة.
الثالث الخلق وإيجاد الروح الخلق هو الإبداع أو إيجاد شيء من لا شيء ,وفي معجم اللغة هو إيجاد أو إبداع شيء على غير مثال سبق.
فالله تعالى قد أعطى القدرة للأنبياء والرسل على إقامة الموتى وإبراء الأكمه وشفاء الأمراض على تعدادها والتنبؤ بالأمور المستقبلة قبل حدوثها ,ولكنه لم يسمح لأحد بالقدرة على الخلق وإعطاء الروح إلا ليسوع المسيح. لماذا, لأن المسيح أعظم من الأنبياء والرسل وله منزلة أخرى. من منهم قيل فيه في القرآن إنه خَلق ولو بإذن ربه, لم يُقل هذا لأحد كما يثبت لكل مطلع على القرآن.
ومن الآية السابقة ترى أن القرآن أثبت أن المسيح كان يخلق الطيور على الطريقة التي خلق الله آدم بها ,إذ جبله من تراب الأرض ,ونفخ فيه روح حياة فصار ذا نفس حية.
- 3 - ولادته العجيبة كما ورد في سورة النساء 4 :71 إِنَّمَا المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوْحٌ مِنْهُ .
أي أن المسيح وُلد من غير أب بالروح القدس بطريقة خارقة العادة. نعم إن آدم وُجد دون أب ,ولكن كان ذاك عن اضطرار ,إذ لم يكن من بشر من قبله. وأما ولادة المسيح من غير أب فلم تكن عن اضطرار ,بل عن قصد من الله آية للعالمين وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ - سورة الأنبياء 21 :91 - . وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا - سورة مريم 19 :21 - . ألا تستلفت ولادة المسيح الغريبة أنظار المسلم الصادق ,وتحمله على الاعتقاد أن المسيح عيسى لم يكن له مثيل بين الورى وأن له الدرجات العلى,
- 4 - الوجاهة في الدنيا والآخرة كما ورد في سورة آل عمران 3 :45 إِذْ قَالَتِ المَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ا سْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ .
قال الكشاف : الوجاهة في الدنيا النبوة والتقدم على الناس ,وفي الآخرة الشفاعة وعلو الدرجة في الجنة وقال بمعنى ذلك تماماً الرازي وجلال الدين السيوطي. وأما وجاهة موسى في سورة الأحزاب 33 :69 وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ففسرها الرازي بالمعرفة ,وقال الرازي تفسيراً لجملة ومن المقربين :ليس كل وجيه مقرباً ,لأن أهل الجنة على منازل ودرجات ,ولذلك قال تعالى وَكُنْتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً... السَّابِقُونَ أُولَئِكَ المُقَرَّبُونَ - سورة الواقعة 56 :7 و10 و11 - .
من درس القرآن يعلم أنه لم يصف أحداً بالوجاهة في الدنيا والآخرة إلا المسيح عيسى ,ولم ينل أحد من الأنبياء والمرسلين هذا الامتياز سواه. فتش وانظر وبعد ذلك قل لي لماذا. وافحص عن السبب ترَ العجب.
- 5 - عدم ذكر خطيئة له - راجع عصمة المسيح.
- 6 - رفعه إلى السماء كما ورد في - سورة آل عمران 3 :55 - إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا .
إننا قد شرحنا التوفي في ما سلف ,فلا حاجة لإعادته ,إنما القصد أن نبين معنى الرفع. قال الرازي :المراد بالرفع الرفع إلى محل كرامة الله ,وجعل ذلك رفعاً للتفخيم والتعظيم. والمراد بمطهرك مخرجك من بين الذين كفروا. وكما عظم شأنه بلفظ الرفع إليه أخبر عن معنى التخليص بلفظ التطهير وكل ذلك يدل على المبالغة في إعلاء شأنه وتعظيم منصبه عند الله تعالى .
وقال الكشاف تفسيراً لرافعك إليّ :رافعك إلى سمائي ومقرّ ملائكتي . إن رفع المسيح في القرآن يعني تعظيمه - من المقربين - . وأما الإنجيل فيخبرنا عن سبب تعظيم المسيح قائلاً : الَّذِي إِذْ كَانَ فِي صُورَةِ اللّهِ ,لَمْ يَحْسِبْ خُلْسَةً أَنْ يَكُونَ مُعَادِلاً لِلّهِ. ل كِنَّهُ أَخْلَى نَفْسَهُ ,آخِذاً صُورَةَ عَبْدٍ ,صَائِراً فِي شِبْهِ النَّاسِ. وَإِذْ وُجِدَ فِي الهَيْئَةِ كَإِنْسَانٍ ,وَضَعَ نَفْسَهُ وَأَطَاعَ حَتَّى المَوْتَ مَوْتَ الصَّلِيبِ. لِذ لِكَ رَفَّعَهُ اللّه أَيْضاً ,وَأَعْطَاهُ اسْماً فَوْقَ كُلِّ اسْمٍ لِكَيْ تَجْثُوَ بِاسْمِ يَسُوعَ كُلُّ رُكْبَةٍ مِمَّنْ فِي السَّمَاءِ وَمَنْ عَلَى الأَرْضِ وَمَنْ تَحْتَ الأَرْضِ ,وَيَعْتَرِفَ كُلُّ لِسَانٍ أَنَّ يَس ُوعَ المَسِيحَ هُوَ رَبٌّ لِمَجْدِ اللّهِ الآبِ - فيلبي 2 :6 11 - .
ألا يستدعي هذا الأمر إعمال الفكر لمعرفة السبب,
فإذا أردت الجواب مني أيها القارئ الكريم عن السبب ,أجبتك بآية من الإنجيل ,الذي أفصح عن ذلك بأجلى بيان
وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الخَلَاصُ. لِأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ ,قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ ,بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ. - أع 4 :12
- عدد الزيارات: 15177