المبحث الخامس حتى الثامن
المبحث الخامس
عصمة المسيح ولاهوته
إننا معشر النصارى نعتقد حسبما أعلن الله في كتابه الكريم أن يسوع المسيح معصوم من الخطأ ,وذلك لأنه ليس من زرع البشر الذين أخطأوا وفسدوا ,كما أثبتت كل الكتب المعتبرة أنها مُنزلة. وفي القرآن والحديث ما يؤيد وحي الكتاب المقدس.
ونعتقد أن المسيح إله وإنسان معاً في ضوء الوحي الإلهي الإنجيلي ,وتبياناً لهذا على وجه التمثيل نقول : إن الله الواحد الأحد ظهر في الإنسان يسوع المسيح وحلّ فيه بملء لاهوته حلولاً في غير حصر : فَإِنَّهُ فِيهِ يَحِلُّ كُلُّ مِلْءِ اللَّاهُوتِ جَسَدِيّاً - كولوسي 2 :9 - اللّه ,بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بالأَنْبِيَاءِ قَدِيماً ,بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ ,كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ الذِي جَعَلَهُ وَارِثاً لِكُلِّ شَيْءٍ ,الَّذِي بِهِ أَيْضاً عَمِلَ العَالَمِينَ. الذِي ,وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ ,وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ ,وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ ,بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيراً لِخَطَايَانَا ,جَلَسَ فِي يَمِينِ العَظَمَةِ فِي الأَعَالِي - عبرانيين 1 :1 3 - . وظهر للبشر. لذلك صحَّ أن يُسمى المسيح إلهاً وإنساناً معاً. فليس الإنسان إلهاً ,بل الإله إله ,والإنسان إنسان ,وليس إلهاًن كما يتوهم المسلم في هذا. فالمسيح بقوته الإلهية عمل المعجزات والأشياء الخارقة ,بخلاف الأنبياء لأنهم عملوا المعجزات بقدرة الله لا بقدرتهم. وبناسوته كان يأكل ويشرب وينام كأحد أفراد الناس. وكان طوراً يتكلم عن نفسه كإله وتارة كإنسان ,ما ذلك إلا لأنه إله وإنسان معاً كما سبق. وقد شك إخواننا المسلمون وبعض النصارى في لاهوت المسيح ,وذلك لأنهم رأوا آيات كثيرة في الكتاب تدل على أنه إنسان ,ولكنهم لو راجعوا الآيات الكثيرة الدالة على لاهوته أيضاً بإمعان نظر وترو ,لانقشعت عن أعينهم غيوم الشك. مِنَ الآنَ تُبْصِرُونَ ا بْنَ الإِنْسَانِ - متى 26 :64 - اَلَّذِي رَآنِي فَقَدْ رَأَى الآبَ - يوحنا 14 :9 - .
والمسيح كإنسان عاش مدة على الأرض وصُلب ومات وقام ,ولكن الصلب والموت وقعا على الناسوت المادي.
أما لاهوت المسيح فواضح غاية الوضوح في التوراة والإنجيل ,من النبوات ,ومن كلام المسيح نفسه ,ومن تعليم الرسل ,ومن الآية الواردة في سورة آل عمران 3 :45 يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ ا سْمُهُ المَسِيحُ عِيسَى ا بْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا والآخِرَةِ وَمِنَ المُقَرَّبِينَ . فإذا ادعى مفسرو المسلمين أن المقصود بكلمة هو الأمر - كن - أو النطق في غير هذه الآية ,فلا سبيل لهم أن يدعوا هذا في الآية الحاضرة ,لأن قوله بكلمة منه اسمه المسيح عيسى يدل على أن الكلمة ذات وليس نطقاً أو أمراً ,كما يتضح عند أدنى تأمل ,وكأنه يقول بذات منه. لاحظ أن الضمير في - اسمه - مذكر راجع إلى - بكلمة - التي هي مؤنثة لفظاً ,ولكنها مذكرة معنى ,وإلا لما جاز هذا في اللغة.
يقول علماء الإسلام إن كل مخلوقات الله تسمى كلمات الله لأنها خُلقت بكلمة. أقول أن هذا باطل ,وإلا لجاز أن نسمي الأثر المؤثر ,والكتاب قلماً ,لأن القلم هو الواسطة أو الآلة التي كُتب بها الكتاب وليس الكتاب. فإذا خلق الله عيسى المسيح بكلمة بأمر - كن - حسب زعمهم لا يمكن أن يُسمى كلمة ,لأنه ليس هو الكلمة بل مفعول الكلمة - الأمر - . وإذا ألفت كتاباً بعقلي ,لا يسمى الكتاب عقلاً - أو عقلي - بل مفعول العقل ,وإلا لاختلط الحق بالباطل ,وامتزجت الجواهر بالأعراض.
وواضح من آيات أخر أن المسيح روح الله . وأنت تعلم أن كل ما في الله هو الله ,فكلمة الله هو الله أبدي ,وروح الله هو الله أبدي أزلي. وهذا يوافق تماماً ما ورد في أول إنجيل يوحنا فِي البَدْءِ كَانَ الكَلِمَةُ... وَكَانَ الكَلِمَةُ اللّه - يو 1 :1 5 - .
وأما أن المسيح ابن الله فممكن وغير كفر. قال الحديث عن لسان الله الفقراء عيالي وهذا غير مستحيل ,بدليل قوله في سورة الزمر 39 :4 لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَا صْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ فلا عجب إذا أعلن الكتاب أن المسيح ابن الله ,ليس بطريق التناسل كما يظن بعض المسلمين ,لأن الابن لغة لا يطلق فقط على الابن الذكر عن طريق التناسل ,بل يكنى به كناية. كما يقال أبناء العلم وأبناء الدنيا وأبناء السبيل . ويقال أيضاً إن فلاناً ابن فلان على طريق التبني المجازي أو اللغوي. وقد دعا الله المؤمنين أبناء ,لكنه قال إن المسيح ابنه الوحيد ,أي هذه البنوة مغايرة لتلك. ونحن لا نفهم ماهي تلك البنوة تمام الفهم ,لأنها بعيدة عن الإدراك. وكما أن المسيح دُعي ابن الله ترفيعاً له عن البشر من جهة لاهوته ,قد دُعي ابن الإنسان ,تبياناً لناسوته. وهو المقصود في نبوءة دانيال 7 :13 و14 التي تدل على أن المسيح إله وإنسان معاً وَبِالْإِجْمَاعِ عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى : اللّه ظَهَرَ فِي الجَسَدِ - رسالة تيموثاوس الأولى 3 :16 - وَكَانَ الكَلِمَةُ اللّه وَالْكَلِمَةُ - الله - صَارَ جَسَداً وَحَلَّ بَيْنَنَا - يوحنا 1 :1 و14 - .
وقد ذُكرت خطايا الأنبياء في التوراة والزبور والإنجيل وقد أيدها القرآن واحداً فواحداً تقريباً ,وذكر فساد الجنس البشري بأجمعه كما رأيت ,ولكن لم يذكر في واحد من هذه الكتب خطيئة ما ليسوع المسيح ,بل إنها جميعها شهدت بقداسته وطهارته على رؤوس الملأ وعصمته من الخطأ ,وجعلته فريداً وحيداً بين البشر من هذا القبيل ,كما سترى في مبحث امتياز المسيح الآتي.
ولم يتجرأ نبي من الأنبياء الكرام أو رسول من الرسل العظام أن يدعي لنفسه العصمة ,لأن العصمة في البشر محال ,وما العصمة والكمال إلا لله وحده. أما المسيح يسوع الذي فاق الجميع بلاهوته وناسوته ,وكانت له الثقة التامة بكماله وطهارته ,فقد جاهر بالقول : مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ , - يوحنا 8 :46 - رَئِيسَ هذَا العَالَمِ - الشيطان - يَأْتِي وَلَيْسَ لَهُ فِيَّ شَيْءٌ - يوحنا 14 :30 - والشهادات متعددة في الكتاب على عصمة المسيح ,حتى أن أعداءه لم يجدوا فيه علة من جهة سلوكه.
عندما فحص بيلاطس الوالي دعاوى اليهود ,أعلن أنه لم يجد علة واحدة في المسيح للموت - يوحنا 18 :38 ,19 :4 و6 - وامرأة بيلاطس بعثت فقالت لزوجها في أثناء المحاكمة : إِيَّاكَ وَذلِكَ البَارَّ - متى 27 :19 - وبعد ذلك غسل بيلاطس يديه قائلاً : إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هذَا البَارِّ - متى 27 :24 - ولكن اليهود قالوا دمه علينا وعلى أولادنا . وإذ ذاك أُسلم المسيح للصلب فصُلب. وسيرة المسيح كلها ألسنة ناطقة بطهارته التامة ونزاهته وعصمته ,بخلاف سير بقية البشر والأنبياء والرسل المشحونة بالخطأ والزيغان والظلم وفساد القلب.
وطهارة المسيح هذه وعصمته لازمتان لاستحقاقه ,لكي يكون صالحاً أن يقدم نفسه كفارة وذبيحة طاهرة لا عيب فيها عن أنفس البشر الخطاة.
- عدد الزيارات: 15102