Skip to main content

لزوم كفارة المسيح

تفرُّد اللّه بالقدرة على الفداء الحقيقي - شخصية المسيح

الصفحة 5 من 5: شخصية المسيح

 

5 - شخصية المسيح

قبل التحدُّث عن شخصية المسيح، نوجه أذهان القراء إلى أننا نحن المسيحيين نؤمن أنه لا إله إلا الله، وأنه لا تركيب فيه على الإطلاق. فقد قال على لسان إشعياء النبي «أَنَا الأَّوَلُ وَأَنَا الآخِرُ وَلا إِلَه غَيْرِي»(44 :6). وقال الوحي عنه إنه «روح»(يوحنا 4: 24)، والروح لا تركيب فيه بحال. كما نؤمن أنه ذات أي ليس مجرد عقيدة في الذهن، أو قوة تحرك الكون. وذاته وإن كانت لا يحدها زمان أو مكان، تتصف بالصفات اللائقة بكماله، مثل السمع ولبصر والكلام والعلم والإرادة والقدوة والعدالة والقداسة والمحبة والرحمة، دون أن تكون له أعضاء ما. أما ما نختلف فيه عن غيرنا من المؤمنين بالله، فهو نوع الوحدانية الخاصة به ودرجة علاقته بنا، ولذلك نحصر الحديث عنهما فيما يلي:

أولاً - نوع الوحدانية اللائقة بالله عدم توافق الوحدانية المطلقة مع الله: بما أن الله ذات يتصف بصفات خاصة، وبما أن هذه الصفات لو كانت عاطلة أزلاً ثم صارت عاملة عندما خلق الكائنات، لكان (أ) قد تعرض للتغيُّر، إذ تكون صفاته قد صارت عاملة بعد أن كانت عاطلة، ويكون قددخل في علاقات بعد أن كان بلا علاقة أصلاً، (ب) ولكان أيضاً قيامه بالخلق ضرورة لجأ إليها ليُظهر ذاته ويمارس صفاته كما يقول بعض الفلاسفة ورجال الدين، الأمر الذي يتنزه عنه لتعارضه مع كماله الذاتي كل التعارض. لذلك لا بد أنَّ صفاته وعلاقاته كنت بالفعل أزلاً قبل وجود أي كائن من الكائنات سواه.

توافق الوحدانية الجامعة أو الشاملة مع ذات الله الواحدة: وهنا تساءل البعض «كيف يكون الله واحداً لا تركيب فيه، وفي الوقت نفسه تكون وحدانيته وحدانية جامعة؟»وللرد على ذلك نقول: بما أن الله جوهر، لأنه تعالى قائم بذاته وكل قائم باته، جوهر (المدخل في الفلسفة ص 177) وفي الوقت نفسه له تعيُّن خاص يدل عليه، لأنه ليس بلا تعيُّن إلا غير الموجود، لذلك إذا قلنا إنَّ الله جامع أو شامل من جهة وواحد من جهة أخرى، لا يكون هناك تناقض ما، لأن التناقض لا يكون إلا إذا كان الاختلف في أمر واحد من جهة واحدة (كما لو قلنا عن شخص ما، إنه ضعيف البنية وقوي البنية في نفس الوقت) فمن أي جهة يكون الله واحداً ومن أي جهة يكون جامعاً أو شاملاً؟ طبعاً يكون واحداً من جهة الجوهر لأنه لا تركيب فيه، ويكون جامعاً أو شاملاً من جهةالتعيُّن، لأن وجود صفاته وعلاقاته بالفعل أزلا، يدل على أنه جامع من هذه الجهة.

وعندما نقول إنَّ الله جوهر ذو تعيُّن، لا نفرق بين جوهر الله وتعينه، بل نقصد فقط أنه ليس جوهراً مبهماً أو غامضاً بل جوهراً له وجود حقيقي يتميَّز به عن غيره. فجوهر الله ما هو إلا اللاهوت، وهذا الجوهر نفسه بالنظر الى تعيُّنه ما هو إل الله. والله ليس شيئاً غير اللاهوت بل هو اللاهوت مُعيّناً. واللاهوت ليس شيئاً غير الله بل هو الله جوهراً. ولذلك كثيراً ما تستعمل كلمة «اللاهوت»بدلاً من كلمة الله، وكلمة «الله»بدلا من كلمة اللاهوت.

مما تقدم يتضح لنا أن جوهر الله الذي لا تركيب فيه، والجامع أو الشامل في تعينه لكل ما هو لازم لوجود صفاته بالفعل أزلاً، واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود، منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، أمر يتوافق مع كماله كل التوافق.

ماهية الجمع أو الشمول القائمة بها ذات الله: يقول معظم الفلاسفة وعلماء الدين الذين يعتقدون معنا أنَّ وحدانية الله هي وحدانية جامعة أو شاملة بأنَّ هذه الوحدانية الجامعة، هي ذات الله وصفاته. لكن لو سلمنا باعتقادهم هذا، ووضعنا أممنا أنَّ صفات الله وعلاقاته كانت بالفعل أزلاً كما اتضح لنا مما سلف، لانتهى بنا الأمر إلى أنَّ الله كان في الأزل يكلم صفاته ويسمعها ويبصرها ويريدها... أو أن صفاته كانت تكلمه وتبصره وتريده... أو أنها كان يكلم بعضها بعضا ويسمع بعضها بعضاً يبصر بعضها بعضاً ويريد بعضها بعضاً... وكل ذلك باطل، لأن الله لا يتعامل مع الصفات ولا الصفات تتعامل مع الله، أو مع بعضها البعض. إذ أن التعامل لا يكون إلا بعد التعينات العاقلة، والصفات معان وليست تعينات، فلا يمكن أن يكون المراد بالجمع أو لشمول لدى الله، هو ذاته وصفاته، بل هو ذاته وحدها. فالله مع وحدانية جوهره وعدم وجود تركيب فيه، هو نفسه جامع أو شامل، أو بتعبير آخر إنه قائم ليس بتعيُّن واحد بل بتعينات.

وبما أن ذات الله تعينات، إذاً فكل تعين من تعيناته لا يكون جزءاً من ذاته، بل يكون ذاته بعينها (لأنه غير مركب من عناصر أو أجزاء) وأن يكون أيضاً ذاته بكل خواصها وصفاتها (لأن تعينات الله هم عين جوهره) ولذلك يكون كل تعين لله، هو الله اأزلي الأبدي السميع الكليم البصير المريد... إذ أنه على هذا الأساس يكون الله ممارِساً لكل صفاته وعلاقاته بينه وبين ذاته منذ الأزل، إلى درجة الكمال الذي ليس بعده كمال، دون أن يكون هناك تركيب في ذاته أو شريك معه.

عدد التعيُّنات وأسماؤهم: أما عدد التعيُّنات أو اسماؤهم فليس في وسعنا أن نتكهن به، لأن المرجع الوحيد بشأنه هو الوحي الإلهي. وبالرجوع إليه يتضح أن العدد المذكور هو «3»لا أكثر ولا أقل. وقد اصطلح المسيحيون منذ القديم على تسمية هؤلاء التعينات بالأقانيم (والمفرد أقنوم). فالأقانيم إذاً ليسوا كائنات في الله أو مع الله، بل هم ذات الله الواحد الأحد، لأنهم تعينات اللاهوت أو اللاهوت معيَّنا. فضلا عن ذلك فقد أطلق الوحي على تعينات الله اسماً واحداً، وليس أسماء كثيرة فقل «بِاسْمِ (وليس بأسماء) الآبِ وَ الابْنِ (أو الكلمة) وَالرُّوحِ الْقُدُسِ»(متى 28: 19)، وفيما يلي معنى كل أقنوم من هؤلاء الأقانيم.

ثانياً - معاني الأقانيم «الابن»أو «الكلمة»: لا يراد بهذا الأقنوم أنه «ابن»بالمعنى الحرفي لأن الله لا يولد ولا يلد، بل يراد به ابن بالمعنى الروحي، وهذا المعنى كما يتضح من الكتاب المقدس هو «المعلِن». كما دُعي «الكلمة»(يوحنا 1: 1 و2) بهذا المعنى عينه لأن الكلمة هي التي تعلن صاحبها. ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ المسيح لم يُدع كلمة الله لأنه خُلق بكلمة الله، إذ أنَّ هناك فرقا بين «الكلمة»و «أثر الكلمة». فالمخلوقات ليست كلمة الله بل إنها «أثر كلمة الله»لأنها مخلوقة بواسطته. ولذلك قال لوحي «اَللّاهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. اَلِابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ»(يوحنا 1: 18). ولا يُراد بالحضن هنا المعنى الحرفي بل الروحي، لأن الآب ليس له صدر مادي. والمعى الروحي للحضن هو الحب العميق والوحدة الروحية الكاملة. ولا مجال للاعتراض على ذلك، لأن الأقانيم ليسوا هم الآب والأم والروح القدس، بل هم «الآب والابن والروح القدس».

وبما أنه لا يعلن الله إلا الله، لأنه لا نظير له على الإطلاق، لذلك «فالمعلِن لله»(أو بالحري ابن الله أو كلمته) هو نفسه الله مُعلَناً - ولا غرابة في ذلك فالاصطلاح «ابن الشيء»كثيراً ما يرد في اللغة العبرية بمعنى «ذات الشيء». فمثلا ول الله «بنت شعبي»أو «ابنة شعبي»(إرميا 8: 11) لا يراد به إلا ذات شعبه. كما أن الاصطلاح «بنات الفكر»في اللغة العربية، لا يراد به إلا «ذات الفكر واضحا ومعلناً».

«الآب»: هذا الأقنوم لا يُسمى «الوالد»بل «الآب». وهناك فرق عظيم بين الاثنين. فقد يكون هناك والد مجرد من كل صفات الأبوة، وقد يكون هناك شخص تتجمع فيه هذه الصفات، دون أن يكون متزوجا أو له أولاد. فلا يراد بهذا الأقنوم المعنى الحرف بل الروحي. والمعنى الروحي للآب كما يتضح من الكتاب المقدس، هو القائم بالمحبة الباطنية. وهذا المعنى معروف لدينا جميعاً.

وقد أعلن أقنوم الابن عندما كان في الجسد على الأرض عن محبة الآب الأزلية له، فقال له: «لأَنَّكَ أَحْبَبْتَنِي قَبْلَ إِنْشَاءِ الْعَالَمِ»(يوحنا 17: 24) وبذلك كشف المسيح لنا عن سر من الأسرار التي انت في اللاهوت، بين أقانيم اللاهوت، قبل خلق أي شيء في الوجود. ففي الأزلية السحيقة المجهولة لديهم، أعلن لنا «الابن»أنَّ المحبة كانت متبادلة بين الآب وبينه، ومتبادلة طبعاً بكل سموها وكمالها.

والوحي لا يسند المحبة إلى أقنوم أو أقنومين بل إلى الأقانيم جميعاً، أو بالحري إلى اللاهوت الذي هو جوهر كل أقنوم وجوهر الأقانيم معا، فقد قال «الله محبة»(1يوحنا 4: 8). ولذلك فإن الآب يحب الابن كما ذكرنا، والابن يحب الآب (يوحنا 14: 31) والروح القدس هو روح المحبة (2 تيموثاوس 1: 7) - وتبادل المحبة بين الأقانيم، هو النتيجة الحتمية لوحدة جوهرهم، والدليل على وحدتهم التامة في كل أعمال اللاهوت وتصرفاته.

أخيراً نقول: إنَّ كون «الآب»منذ الأزل، دليل واضح على أنَّ «الابن»هو «الابن»منذ الأزل أيضاً، لأنه ليس هناك أبوة إلا ومعها بنوّة، كما أنه ليست هناك بنوّة إلا ومعها أبوة. وإذا كان الأمر كذلك، لا يبقى لدينا أي شك في أن «الابن»ليسمخلوقاً بواسطة الآب أو مولوداً منه، بل إنه واحد معه في الأزلية. لأنه ليس من المعقول أنَّ الله كان غير مُعَلن أولا، ثم صار مُعلَناً في دور من الأدوار.

«الروح القدس»- هذا الأقنوم لا يدعى بهذا الاسم لأنه يتميز دون الأقنومين الآخرين بروحانية الجوهر، كلا، لأن جوهر الأقانيم واحد كما ذكرنا. فقد قال الوحي بعبارة صريحة إنَّ الله (من جهة أقانيمه الثلاثة) هو روح (يوحنا 4: 24) إنما دع بهذا الاسم لأنه يقوم (كما يتضح من اسمه) بأعمال اللاهوت بطريقة روحية - بينما يقوم الابن بها بطريقة علنية أو ظاهرية.

كما أن هذا الأقنوم لا يوصف بالقدوس لأنه يتميز بالقداسة دون الأقنومين الآخرين، كلا. لأن الأقانيم الثلاثة يتصفون معاً بهذه الصفة وبكل صفات الكمال الأخرى بدرجة واحدة، ولكن يوصف بالقدوس لأنه هو الذي يعلن بحالة روحية قداسة الله في كل صرفاته، ولأنه أيضاً هو الذي يقدس نفوسنا حتى تتوافق مع الله في قداسته.

مما تقدم يتضح لنا ما يأتي:

سُمّي كل أقنوم باسم خاص، ليس لأن أحدهم أقدم من الآخر زماناً، أو أفضل منه مقاماً، أو لأنه يختلف عنه جوهراً، بل لأن كلا منهم يقوم بعمل يتناسب مع أقنوميته، ولأن بين أحدهم والآخر نِسباً روحية خاصة، بها للاهوت أو للّه علاقات متكامل بينه وبين ذاته منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، بغض النظر عن وجود أي كائن من الكائنات سواه. فالوحي يسمي أحد الأقانيم بالآب، لأنه يبطن كل معاني المحبة في اللاهوت، ويسمي أقنوماً آخر بالابن لأنه يعلن كل معاني المحبة فياللاهوت، ويسمي أقنوماً غيره بالروح القدس، لأنه يقوم بأعمال اللاهوت بطريقة روحية.

إن الله، لتبادل المحبة بين أقانيمه إلى درجة الكمال، هو مستغن بذاته عن كل شيء في الوجود منذ الأزل الذي لا بدء له إلى الأبد الذي لا نهاية له، لأن حياة المحبة هي في الواقع أسمى نوع من أنواع الحياة، إذ أنَّ من يحياها لا يشعر أنه ف حاجة إلى شيء على الإطلاق. فيكون الخلق ضرورة لجأ الله إليها ليظهر ذاته ويمارس صفاته كما يقول بعض الفلاسفة وعلماء الدين، بل يكون نتيجة طبيعية للمحبة العاملة في ذاته، لأن من شأن المحبة أن تعمل عملاً نافعاً.

أخيراً نقول: وإن كان «قيام الله بثلاثة أقانيم»يتفق كل الاتفاق مع ذاته وما هو لازم لكمالها واستغنائها عن كل شيء في الوجود، غير أنه يسمو فوق العقل كثيرا. ولا غرابة في ذلك، فهو وصف لذات الله، والبحث في ذات الله لا تصل إليه المدارك لى الإطلاق. وهذا ما تجنبه علماء الدين جميعاً، فقد قالوا «من خاض في الذات بفكره، فهو عاص للّه ورسوله». كما قالوا «إن الحق تعالى لا يُدرَك بالنظر الفكري أبداً، وليس عندنا أكبر من ذنب الخائضين في ذات الله بفكرهم»(كتاب الفتوحات ص 65) - وإنا نتفق مع هؤلاء العلماء على تعذر البحث في ذات الله، بل وأيضاً على عدم جواز البحث فيها. ومن جانبنا لولا أن الكتاب المقدس أعلن لنا أن الله هو «الآب والابن (أو الكلمة) والروح القدس»، وأن الأدلة العقلية والنقلية، أثبتت لنا صدق هذا الإعلان،لما خطر ببالنا مطلقاً أن يكون هذا هو كنه الله. وأقصى ما كان يخطر ببالنا عنه، أنه جامع في ذاته ومستغن بها كل الاستغناء، كما يعتقد كل الفلاسفة ورجال الدين الذين يتأملون كثيراً في ذاته.

ثالثاً - ظهور أقنوم الابن في المسيح بما أنَّ أقنوم الابن هو الذي يعلن الله أو اللاهوت بطريقة منظورة كما ذكرنا فيما سلف، لذلك كان أمراً بديهياً أنه إذا أراد الله أن يُظهر ذاته لنا (وعملٌ مثل هذا يتوافق مع كماله كل التوافق، لأن من دواعي هذا الكمال أن لا يكون في عزلة عا، بل أنه يُظهر ذاته لنا لكي ندركه ونتوالف معه)، أن يتم هذا الظهور بواسطة أقنوم الابن. ومن ثم فالله الذي لا يمكن رؤيته أو إدراكه في ذاته، يصبح من الميسور لنا أن نراه وندركه في اقنوم الإبن. وهذا ما حدث فعلاً، فقد اتحد الأقنوم المذكور بالسيح اتحاداً تاماً، فاستطعنا به أن ندرك قداسة الله وقدرته ومحبته ومعرفته التي لا حد لها.

أما قبل ظهوره في المسيح، فكان تارة يظهر في هيئة ملاك وتارة أخرى في هيئة إنسان، ولكن تدل كل القرائن على أنه لم يكن في ذاته هذا أو ذاك، بل كان هو الرب نفسه الذي يستحق كل إكرام وسجود (تكوين 21: 17-20 وقضاة 6: 11-24). وفيما يلي بعض الأدة التي تثبت هذه الحقيقة:

(أ) الأدلة الكتابية على شخصية المسيح شهادته عن ربوبيته وبنوته لله ووحدته الجوهرية مع الآب وإعلانه له:فقد قال المسيح إنه الرب (متى 21: 3) وإنه رب داود (متى 22: 42-45)، ورب الرسل (متى 24: 42)، كما قال إنه ابن الله (يوحنا 9: 35-38 ، 10: 36)، وإن الله أبوه بمعنى أنه معاد له، أو بالحري واحد معه (يوحنا 5: 18) وإنه والآب واحد (يوحنا 10: 30 ، 17: 22)، وإنه في الآب والآب فيه. وإن كل من رآه فقد رأى الآب (يوحنا 14: 9 و10) وإنه يجب على جميع الناس أن يكرموه كما يكرمون الآب (يوحنا 5: 23).

شهادته عن أزليته وأبديته:فقد قال إنَّ له مجداً خاصاً قبل إنشاء العالم (يوحنا 17: 5) وإنه قبلما وُلد إبراهيم على الأرض، هو كائن أو بالحري كائن بذاته (يوحنا 8: 58)، وإنه الألف والياء. البداية والنهاية. والأول والآخِر (رؤيا 1: 8 و7).

شهادته عن عدم تحيّزه بزمان أو مكان:فقد أعلن أثناء وجوده على الأرض أنه وقتئذ في السماء أيضاً (يوحنا 3: 13) وأنه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمه على الأرض، يكون في وسطهم (متى 18: 20) وأنه يظل مع تلاميذه، والمؤمنين الحقيقيين به،إلى انقضاء الدهر (متى 28: 20).

شهادته عن كونه الحياة والمحيي:فقد شهد أنه الحياة (يوحنا 11: 25) وأنه يحيي من يشاء (يوحنا 5: 21) وأنه أتى لتكون لنا حياة وحياة أفضل (يوحنا 10: 10) وأن من يؤمن به إيماناً حقيقياً تكون له الحياة الأبدية (يوحنا 3: 16).

شهادته عن سلطانه في غفران الخطايا وإدخال التائبين إلى الفردوس:فقال للمفلوج «مغفورة لك خطاياك»)لوقا 5: 20)، وقال عن المرأة الخاطئة «قَدْ غُفِرَتْ خَطَايَاهَا الْكَثِيرَةُ»(لوقا 7: 47) وقال للص الذي التجأ إليه نادماً عما فعله من شر «اليوم تكون معي في الفردوس»(لوقا 23: 43).

شهادته عن سلطانه في قبول السجود:فقد سجد له المجوس وهو بعد طفل صغير (متى 2: 1-11) وسجد له الأبرص (متى 8: 2) والأعمى (يوحنا 9: 38)، ورئيس المجمع (مرقس 5: 22) والكنعانية (متى 15: 25) وبطرس الرسول (لوقا 5: 8) وكل الذين كانوا في السفين (متى 14: 33) وسجد له الرسل جميعاً (متى 28: 17).

شهادته عن محاسبته للناس وقضائه على الشيطان:فقد قال إنه متى جاء في مجده «وَيَجْتَمِعُ أَمَامَهُ جَمِيعُ الشُّعُوبِ، فَيُمَيِّزُ بَعْضَهُمْ مِنْ بَعْضٍ كَمَا يُمَيِّزُ الرَّاعِي الْخِرَافَ مِنَ الْجِداءِ، فَيُقِيمُ الْخِرَافَ عَنْ يَمِينِهِ وَالْجِدَاءَ عَنِ الْيَسَارِ. ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ... ثُمّ يَقُولُ أَيْضاً لِلَّذِينَ عَنِ الْيَسَارِ: اذْهَبُوا عَنِّي يَا مَلاعِينُ إِلَى النَّارِ الأَبَدِيَّةِ»(متى 25: 31-46) كما أعلن أن الشيطان سقط أمامه كما يسقط البرق من السماء (لوقا 10: 18).

(ب) الأدلة العقلانية على شخصية المسيح لو كان المسيح يسعى وراء العظمة الدنيوية، أو لو كان ذا بطش وقوة، أو لو كانت شهادته قد وجدت قبولاً لدى الكثيرين من الناس لكان هناك مجال للطعن في شهادته السابق ذكرها، بدعوى أنه كان متكبراً، أو أنَّ الناس هم الذين شجعوه على الادعا بالألوهية. لكن المسيح (على النقيض من كل ذلك) كان وديعاً كل الوداعة وحكيماً كل الحكمة وصادقاً كل الصدق (متى 11: 29) فضلاً عن ذلك كان معاصروه يقاومونه بسبب شهادته المذكورة (يوحنا 10: 32 ، 33). فإذا أضفنا إلى ذلك أنه كان يصر على الشهادة عن فسه أنه ابن الله على الرغم من إهانة الناس له (يوحنا 5: 17-23 ، 10: 30-38) وأنه لو كان قد تنحى عن هذه الشهادة لما أصابوه بسوء ما، اتضح لنا أنه لا بد أنه ابن الله كما قال.

كان اليهود قد التفوا حول المسيح في أول الأمر ليجعلوه ملكاً عليهم لأنهم وجدوا فيه المسيا الذي كانوا يحلمون به (يوحنا 6: 15). ولو كان المسيح أراد أن يؤله نفسه لكان قد أجابهم إلى رغبتهم، لأن الملوك كانوا وقتئذ يُعامَلون معاملة الآهة (أعمال 12: 22). لكن المسيح رفض رغبتهم هذه، وفي الوقت نفسه ظل يشهد أنه ابن الله وهو في حالة الوداعة والفقر التي اختارها لنفسه، الأمر الذي يدل على أنه لم يكن مدَّعياً بل صادقاً كل الصدق في شهادته عن نفسه.

لم يفرض المسيح على الناس الاعتقاد بأنه ابن الله، حتى كان يجوز الشك في صدق شهادته عن نفسه، بل تركهم يستنتجون هذه الحقيقة من تلقاء أنفسهم (يوحنا 6: 66-71 ، متى 16: 13-18). ولم يطلب منهم أن يؤمنوا بشهادته المذكورة إيماناً أعمى، بلكان يثبت لهم بالدليل العملي صدقها. فمثلاً عندما أعلن لهم أنَّ له سلطاناً على غفران الخطايا، الذي يتفرَّد به الله، أظهر أحقيته في ممارسة هذا السلطان إذ شفى بكلمة واحدة مفلوجاً لم يكن يستطيع حراكاً على الإطلاق. وكان يقول للناس «اَلأَعْمَالُ الَّتِي أَنَا أَعْمَلُهَا بِاسْمِ أَبِي هِيَ تَشْهَدُ لِي»(يوحنا 10: 25) و «صَدِّقُونِي أَنِّي فِي الآبِ وَ الآبَ فِيَّ، وَإِلاَّ فَصَدِّقُونِي لِسَبَبِ الأَعْمَالِ نَفْسهَا»(يوحنا 14: 11)، والذي يضع حياته وأعماله تحت الاختبار ليفحصها الناس بأنفسهم ويحكموا بواسطتها على حقيقة أمره، هو شخص صادق كل الصدق في شهادته لنفسه.

ولادته من عذراء: إنَّ ولادة المسيح من عذراء دليل على أنَّ له وجوداً ذاتياً قبل ولادته منها، ودليل على أنَّ له حياة ذاتية تجعله في غنى عن بذرة حياة من رجل ما - وكائن له وجود ذاتي وله حياة ذاتية، هو الله، أو أقنوم من أقانيمه.

أما القول: إنَّ الله خلق آدم دون آب أو أم، وأخذ حواء من أب دون أم، ولكي يبين قدرته سمح بأن يولد المسيح من أم دون أب، ومن ثم لا يكون إلا واحدا من البشر، فلا يجوز الأخذ به. لأن الله خلق آدم دون أب أو أم، لأنه لم يكن قبله رجل وامرأ يولد منهما. وأخذ حواء من آدم فقط لكي يكونا واحداً فلا ينفصل أحدهما عن الآخر (متى 19: 5)، وفي الوقت نفسه لأنه لم يكن قبل حواء امرأة لتولد منها. لكن بعد وجود الذكور والإناث على الأرض، لم يبق هناك داع لأن يأتي إنسان من أم دون أب، أو من أب ون أم، أو من دونهما معاً. لأن الله أوجد الجنسين في بدء الخليقة ليتناسل منهما البشر جميعا. ولو كان المسيح مجرد إنسان، لما وُلد إلا من أب وأم مثل باقي الناس. حقاً إنَّ الله أظهر قدرته في ولادة المسيح من عذراء، ولكن يجب أن لا يفوتنا أنَّ إهار قدرته في ولادة المسيح من عذراء، دليل على أنه ليس له مثيل أو نظير بين البشر على الإطلاق.

عصمته: مع أنَّ المسيح عاش في جسد من لحم ودم، وسكن في ذات العالم الذي نعيش فيه، وكانت كل مغريات هذا العالم تحيط به مثلنا سواء بسواء، لكنه لم يتجه إلى واحدة منها (على النقيض من كل الرسل والأنبياء، فقد عثروا جميعا وتلوثت حياتهم خطايا متنوعة). ولذلك لما اجتمع اليهود حول المسيح محاولين اختلاق التهم التي تبرر في نظرهم القبض عليه، وقف بينهم عالي الرأس وقال لهم «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟»(يوحنا 8: 46) فلم يقدر أح أن يذكر له خطية واحدة في أي دور من أدوار حياته. أما عن شهادة الأصدقاء عنه فكثيرة. ولذلك نكتفي بالقول: إن بولس الرسول الذي كان ألد أعداء المسيح فيما سلف قال عنه عندما عرفه، إنه قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموت في الطهر والقداسة (عبرانيين 7: 26).

عمل المعجزات بسلطانه الذاتي: كان أنبياء الله يعملون المعجزات ليس بناء على إرادتهم الشخصية بل بناء على إرادة الله، أما المسيح فكان يعملها بإرادته الذاتية، ولذلك كانت بالنسبة له أمراً عادياً. فكان يقول للأبرص «أريد فاطهر»فيطهرفي الحال (متى 8: 3). ويقول للمفلوج «قم واحمل سريرك وامش»، فتزول علته كما تدب فيه العافية ويحمل سريره ويمشي (مرقس 2: 9). ويقول للميت «قم»، فيقوم على الفور وليس به عرض من أعراض الموت أو الضعف (لوقا 7: 14). فضلا عن ذلك كان يمشي على الماء لينق أشخاصاً كانوا مشرفين على الغرق، ويدخل البيوت والأبواب مغلّقة لكي يهدئ روع أشخاص تملكهم الخوف والفزع (متى 14: 25 ، يوحنا 20: 26)، وكان ينتهر العواصف فتهدأ في الحال ويعود السلام إلى قلوب الذين فيها (مرقس 4: 39). فضلاً عن ذلك فقد استطاع أن ينح تلاميذه سلطاناً على عمل المعجزات، فكانوا يعملونها باسمه (متى 10: 1) الأمر الذي لم يفعل مثله نبي من الأنبياء أو رسول من الرسل.

علمه بالغيب: كان يعرف أسماء الناس دون أن يكون قد التقى بهم من قبل، كما كان يعرف الأعمال التي كانوا يقومون بها في الخفاء (يوحنا 1: 42-47) والخواطر التي كانت تجول في عقولهم (يوحنا 6: 6). والأسرار الكامنة في أعماق نفوسهم (يوحنا 4: 8) وكان يعرف ما جاء في الكتب دون أن يدرسها (يوحنا 7: 15)، وما يحدث في الأماكن التي تبعد عنه كثيراً (مرقس 14: 13)، وما يوجد في أعماق البحار وما ابتلعه السمك من أشياء (متى 17: 27)، كما كان يعرف ما يخبئه المستقبل من مختلف الأحداث. فعرف أنَّ أرشليم سيحل بها الخراب والدمار (لوقا 21: 6)، وأنَّ لعازر سيموت وأنه سيقيمه من بين الأموات (يوحنا 11: 11 و14)، وأنَّ يهوذا سيسلمه لليهود (متى 26: 23) وأنَّ بطرس سينكره ثلاث مرات (متى 26: 34)، وأنه هو نفسه (أي المسيح) سيُصلب ويقوم من بين الأموت في اليوم الثالث (متى 16: 21). أضف إلى ذلك أنَّ علمه بهذه الأمور لم يكن مرتبطاً بزمان ما، بل كان لديه أزلاً (يوحنا 6: 64)، الأمر الذي ينفرد به الله دون سواه.

قيامته من بين الأموات: بالرجوع إلى الكتاب المقدس نرى أن الذين قاموا من بين الأموات بقوة معجزية، عادوا فماتوا بعد ما عاشوا على الأرض مدة من الزمن . أما المسيح ففضلاً عن أنه لم يمت بعد قيامته، بل بعد ما عاش على الأرض مدة من الزن يثبت فيها إيمان تلاميذه، ارتفع الى السماء (لوقا 24)، فإنه له المجد قام من بين الأموات بقوته الذاتية وبإرادته الشخصية. فقد قال لليهود قبل صلبه عن جسده «انْقُضُوا هاذَا الْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ أُقِيمُهُ»(يوحنا 2: 19) وقال لهم أيضا عن نفسه «أَنَا هُوَ الْقِيَامَةُ وَالْحَيَاةُ»(يوحنا 11: 25)، وشخص تكون نفسه ملكاً له، يسلِّمها إذا أراد ويستردها إذا أراد، ويكون أيضاً هو القيامة والحياة لا يكون مخلوقاً. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة فقال عن المسيح إنه اتضح أنه ابن الله بالقيامة من الأموات (رومية 1: 4).

أخيرا نقول: (أ) لو كان الله قد ظهر لنا في مجده الخاص ليعلن لنا ذاته ويقربنا إليه، لما استطاع واحد منا أن يقف في حضرته، بل لسقط ميتاً في الحال أمامه فقد قال لموسى «الإنسان لا يراني ويعيش»(خروج 33: 20)، وبما أنَّ الله لا يريد أن يرعبنا، بل يريد أن ندنو منه حباً فيه وشوقاً إليه، فكان من البديهي أن يظهر لنا في ناسوت مثل ناسوتنا. وكل ما في الأمر يكون هذا الناسوت خالياً من الخطية، ليكون متوافقاً مع قداسته المطلقة.

(ب) إنّ الله بظهوره في المسيح لم يتحيّز بحيّز بل ظل كما هو المنزَّه عن الزمان والمكان. وقد أشار المسيح من جهة لاهوته إلى هذه الحقيقة، فقال عندما كان بالجسد على الأرض إنه كان في نفس هذا الوقت، في السماء عينها (يوحنا 3: 13).

(ج) كما أنه بظهوره في المسيح ظل هو الله بكل خواصه. كما ظل ناسوت المسيح هو الناسوت بكل خواصه، لأنه لم يحدث بين اللاهوت وبين الناسوت اختلاط أو امتزاج يؤدي إلى طروء تغيير في أيهما.

وهكذا فقد ظهر من خلال حياة المسيح الناسوتية مجد أدبي لا يقل في شيء عن ذاك الذي ينتظر ظهوره من الله نفسه، فآمن الأتقياء من البشر أنه «ابن الله»أو «الله الظاهر في الجسد»كما يتضح من (يوحنا 1: 49 و2: 11 و23 و4: 39-42 و7: 31 و11: 27 ومتى 16: 16).

الصفحة
  • عدد الزيارات: 16569

الإنجيل المقدس مجانا

إحصل على نسختك المجانية من الإنجيل المقدس يصل إلى عنوانك البريدي أو بواسطة صديق.

شاهد فيلم المسيح

شاهد فيلم المسيح بلهجتك الخاصة متوفر بعدة لهجات من مختلف الدول العربية مثل اللهجة الجزائرية والتونسية والمصرية وغيرها.

إتصل بنا عبر سكايب

إلى زوارنا في البلاد العربية بامكانكم الإتصال بأحد مرشدينا مباشرة من الساعة التاسعة صباحا حتى الثالثة مساء بتوقيت مصر.

شاهد قصص الأنبياء

سلسلة قصص درامية باللغة العربية عن أنبياء الله في العهد القديم تبدأ من قصة آدم وحواء حتى قصة الملك داود.