المسيح روح الله
الباب الرابع
الفصل الأول
2 - المسيح روح الله
هذا هو اللقب الثاني من الألقاب المجيدة التي اعترف بها الإسلام للمسيح. فقد جاء: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللّهِ الّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرَوُحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللّهِ وَكِيلاً (سورة النساء 4: 171)
وخلاصة تفسير هذه الآية، كما أورده الإمام الرازي هي: روح منه في وجوه شتى منها:
الأول: إنه من نفخة جبريل، والمراد منه قوله منه التشريف والتفضيل كما يُقال: هذا من نعمة الله.
الثاني: إنه كان سبباً لحياة الخلق في أديانهم. ولما كان كذلك وُصف بأنه روح.
الثالث: روح منه أي رحمة منه، فلما كان عيسى رحمة من الله على الخلق من حيث أنه كان يرشدهم إلى مصالحهم في دينهم ودنياهم، لا جرم سُمي روحاً منه.
الرابع: قوله روح أدخل التكبير في هذا اللفظ لإفادة التعظيم، فكأن المعنى وروح منه أي روح من الأرواح الشريفة العالية القدسية، ومع ذلك فهو رسول من رسل الله، فآمِنوا به كإيمانكم بسائر الرسل، ولا تجعلوه إلهاً.
وفسّر البيضاوي هذه الآية بقوله: وروح منه ذو روح صدر منه لا بتوسُّط ما يجري مجرى الأصل والمادة له. وقيل سُمي روحاً لأنه كان يحيي الأموات والقلوب.
وتفسيرها في الجلالين: يا أهل الإنجيل لا تتجاوزوا الحد في دينكم، ولا تقولوا على الله إلا القول الحق من تنزيهه عن الشرك والولد إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها أوصلها إلى مريم، وروح أي ذو روح منه أُضيف إليه تعالى تشريفاً وليس كما زعمتم ابن الله أو إلهاً.
هذا هو النص، وهذه هي خلاصة تفسيره، ولكننا نقول إن النتيجة التي يخرج بها من اطلع على النص وتفسيره هي أن الإسلام يشهد شهادة ناطقة صريحة بأن المسيح إله حق، حسب ما تُعلّم به المسيحية وتعتبره أساس إيمانها القويم. فالقرآن يدعو المسيح كلمة الله وروحاً منه، وهذا يدفعنا إلى أنْ نتساءل: أكان الله قبل أن يبدع هذا العالم ذا روح وكلمة، أم لم يكن كذلك؟ فإن قيل هو روح وكلمة منذ الأزل، قلنا أهُمَا ذات الله أم غيره؟ فإن قيل هما غيره، قلنا، إذاً فمع الله اثنان، ومن كان معه غيره فهو ليس واحداً. وهذا باطل. وإن قيل: إن الروح والكلمة مخلوقان وليسا موجودَيْن منذ الأزل، كان هذا مناقضاً للاعتقاد في الله تعالى من أنه الكائن الأزلي الحي الناطق، لأننا لم نصفه بهذه الصفات إلا لأننا نعتقد فيه الحياة والنطق منذ الأزل، وليس من سبيل للاستدلال على الحياة والنطق إلا بالروح والكلمة، لأن الروح جوهر الحي، والكلمة كنه الناطق. فلم يبق والحالة هذه إلا أن نقول إن الروح والكلمة هما ذات الله، لهما صفاته كلها، دون تعدد أو إنفصال حتى نتقي شر الشرك به تعالى، والطعن في ذاته المقدسة الكاملة بحرمانها النطق والحياة حيناً من الزمن.
وبما أن الإسلام لقب المسيح بأنه كلمة الله وروح منه، فليس أمامنا إلا الاعتراف بأن المسيح هو الله سبحانه وتعالى. وهذا هو المعنى المعقول المقبول الذي لا يمكن استنباط غيره من قول القرآن ان المسيح روح منه فهذا تعبير يبرهن أن الكلمة الذي ألقاه الله إلى مريم هو إله حق من ذات الله وجوهره، إذ لا يمكن أن يكون المسيح من روح الله إلا إذا كان من جوهره. فهو إذاً إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق.
ثم أن المنطق نفسه يقودنا كما قادنا في دعوة القرآن للمسيح بأنه كلمة الله إلى ضرورة الاعتقاد بألوهية المسيح ما دام هو من روح الله، لأن روح الله لا بد أن يكون أزلياً كالذات الإلهية، والأزلية كما هو مسلّم به من صفات الله الخاصة به دون سواه.
- عدد الزيارات: 17830