الاسلام وظهور الله - تجسُّد الكلمة الأزلية في المسيح وظهور اللاهوت فيه
الفصل الخامس
تجسُّد الكلمة الأزلية في المسيح وظهور اللاهوت فيه
1 - قال أحمد بن حائط إمام فرقة الحائطية عن السيد المسيح، إنه المراد بقوله تعالى: جاء ربك والملك صفاً صفاً (الفجر 22)، ويأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمام (البقرة 210)، وهو المعنيُّ بقوله تعالى أو يأتي ربك (الأنعام 158)، وهو المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحم ن ، وبقوله حتى يضع الجبار قدمه في النار . ثم قال بعد ذلك: إن المسيح تدرّع بالجسد الجسماني، وهو الكلمة القديمة المتجسدة، كما قالت النصارى (الملل والاهواء والنحل ج1 ص 77) والملك مفرد وجمع (مختار الصحاح ص 634)، ولذلك يُقصد به الملاك والملائكة. ومن الواضح أن الرب يأتي في ظُلل من الغمام ليحجب بهاء لاهوته عن البشر، حتى لا يرتعبوا منه، وقد أشارت التوراة أيضاً إلى هذه الحقيقة (خروج 40: 34).
فإن صح قول ابن حائط إن الرب في هذه العبارات يُقصد به السيد المسيح، فإنها تكون متفقة مع ما جاء في الكتاب المقدس كل الاتفاق، لأنه يعلن أن الرب يسوع سيأتي مرة ثانية (أعمال 1: 11) على السحاب (رؤيا 1: 7) مع ملائكته القديسين (متى 24: 30). والمقصود بحديث حتى يضع الجبار قدمه في النار هو أن جهنم لا تكف عن طلب المزيد من البشر، حتى يضع الجبار (أو الرب) قدمه فيها. وإن صح أيضاً قول ابن حائط إن الجبار في هذه العبارة يُقصد به السيد المسيح، فإنها تكون متفقة مع ما جاء في الكتاب المقدس عنه من بعض الوجوه، لأن هذا الكتاب يعلن أن السيد المسيح هو المخلص من الخطيئة، ومن نار عقوبتها الأبدية (يوحنا 5: 24).
2 - والشيخ أبو الفضل القرشي مع اعتقاده أن المسيح لم يكن هو الله، إلاَّ أنه قال: يمكن أن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأن لا إله إلا الله .
3 - قال الأستاذ عباس محمود العقاد: جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإلهية . (عن كتاب الله ص 159) - وطبعاً لا يقصد الأستاذ العقاد بهذه العبارة أن المسيح كان هو الله متجسداً، لكن مَنْ ذا الذي يستطيع أن يجيء بصورة جميلة للذات الالهية، بمعنى صورة كاملة لها؟ أليس البشر والملائكة جميعاً مخلوقات معرضة للخطأ والزلل، لا يمكن أن تكون صورة جميلة أو كاملة لله، لأنه تعالى منزه عن الخطأ والزلل كل التنزيه؟ طبعاً نعم. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون الله وحده هو الذي يستطيع أن يعلن ذاته كما هي بجمالها وكمالها؟ طبعاً نعم! وإذا كان المسيح هو وحده الذي أتى بصورة جميلة أو كاملة لذات الله، ألا يكون هو بعينه صورة الله أو الله معلَناً؟
مما تقدم يتضح لنا:
1 - شهد القرآن والأحاديث النبوية أن الله مع عدم تحيّزه بحيِّز، يمكن أن يظهر في حيزٍ خاص، بطريقة تفوق العقل والإدراك، ليظهر مجده وبهاءه، أو يساعد الأتقياء من عباده.
2 - بعض رجال الدين والفلسفة (أ) شهد أن الله يحلّ في أجساد بعض الناس، ويظهر بصور بعض الأشخاص. (ب) وأن كلمته لها شخصية، وأنها تتجسّد وتظهر بصور كثيرة، بشرية وغير بشرية، وأنها تُدعى الإنسان الكامل. والله بالنسبة إلى هذا الإنسان، مثل إنسان العين من العين. (ج) وأن الوسيط الذي يحتاج إليه البشر، يجب أن يكون فوق الروحانيات، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون إنساناً مثلنا. (أو بحسب الاصطلاح المسيحي، يجب أن يكون هو الله متأنساً، لأن الله وحده هو فوق الروحانيات). (د) وأن المسيح هو الرب، وأنه الكلمة الأزلية، وأن اللاهوت ظهر فيه، وأنه أتى بصورة جميلة للذات الإلهية.
ويتفق رأي الحنفاء مع رأي الفلاسفة المسيحيين إلى حد ما. قال الأستاذ دي بور: كيف السبيل إلى معرفة الروح (أو بالحري الله الروح)، الذي هو اسمى من روحنا، والذي نحن في حاجة إلى هدايته؟ هذا سؤال إذا نظرنا إليه بمنظار العقل المجرد، فقد يتحطم على صخرته كل مذهب ديني أو شبه ديني يقول بوساطة إنسان ما . أما المتوسط الذي كان الأستاذ دي بور يرى ضرورة وجوده فهو كما قال دكتور أبو ريدة: الله في صورة إنسان (تاريخ الفلسفة في الاسلام ص 288). ولماذا لا يجوز أن يكون الوسيط سوى الله في صورة إنسان، أو بتعبير آخر سوى الله متأنساً ؟
الجواب: بما أنه لا يعرف الله سوى الله، إذن لا يمكن للإنسان ان يعرف الله إلا بواسطة الله. وبما أن الإنسان من الناحية الأخرى لا يستطيع أن يلتقي بالله مباشرة حتى يعرفه (لأنه محدود والله غير محدود، وليس هناك اتصال مباشر بين المحدود وغير المحدود) كان من البديهي أن يتنازل الله ويتخذ جسد إنسان ليسهل أمام الإنسان سبيل الالتقاء به ومعرفته.
هذه هي خلاصة الآراء التي يعثر عليها الباحث في المحيط الاسلامي، وقد انقسم رجال النقد إزاء آراء الفلسفة إلى فريقين: فقال فريق إنها مقتبسة من التعاليم المسيحية، وقال فريق آخر إنها تفسير لبعض الآيات القرآنية والأحاديث القدسية والنبوية. ولكل من الفريقين أدلته التي تؤيِّد وجهة نظره، ولكن الحقيقة التي أرى أنه لا يختلف فيها إثنان هي:
1 - عاش رجال الفلسفة السابق ذكرهم في عصور متباينة، ولم يكونوا من المنتمين إلى فرقة واحدة من الفرق الإسلامية، بل كانوا ينتمون إلى فرق مختلفة. فضلاً عن ذلك فإنهم لم يكونوا من العامة الذين ينقادون وراء آراء الغير انقياداً أعمى، بل كانوا من العلماء الذين يدققون في أفكارهم وأقوالهم كل التدقيق.
2 - إنهم على الرغم مما قالوه عن ظهور الله في بعض البشر ، وتجسد كلمته وشخصية المسيح ، وضرورة وجود وسيط بين الله والناس، يكون فوق الروحانيات وفي الوقت نفسه يكون بشراً مثلنا لم يذكر واحد منهم أن المسيح كان هو الله متجسداً وبذلك أبقوا على أساس الخلاف بين المسيحية والإسلام كما هو.
3 - فإذا تأملنا آراءهم بصفة إجمالية، اتضح لنا أنها تدل على اعتقادهم أن الإنسان لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يعرف الله، وأن الله لكماله لا يريد أن يبقى مجهولاً من الإنسان، بل يريد أن يكون معروفاً لديه، وأن السبيل الوحيد لذلك هو أن يعلن ذاته بهيئة يستطيع بها الإنسان إدراكه، وأنهم من جانبهم، كانوا يشتاقون إلى التقرُّب من الله ورؤية بهائه ومعرفة ذاته. وهذه الاعتقادات والأشواق ليست في الواقع مقتبسة من دين من الأديان، بل هي (كما يتضح من كتب التاريخ والفلسفة) اعتقادات وأشواق البشرية بأسرها، عندما تتحرر في هذا العالم من أهواء الجسد بكل أنواعها. وكل ما في الأمر أن المسيحية قد أعلنت بوضوح أن هذه الاعتقادات والأشواق قد تحققت تماماً في المسيح، وذلك لكل من يفهمها فهماً روحياً صادقاً.
- عدد الزيارات: 23883