الاسلام وظهور الله
الباب الرابع
الاسلام وظهور الله
في هذا الباب نرى
1 - ظهور الله في حيّز خاص.
2 - حلوله في بعض البشر،وظهوره في ناسوت.
3 - تجسُّد كلامه وكلمته.
4 - ضرورة وجود متوسّط يجمع بين الروحانية والجسمانية، بين الله والناس.
5 - تجسُّد الكلمة الأزلية في المسيح، وظهور اللاهوت فيه.
مقدمة
يظن بعض الناس أن الإسلام ينتقد عقيدة ظهور الله، ولكن الحقيقة غير ذلك، لأننا إذا رجعنا إلى القرآن وإلى كتب الدين والفلسفة الإسلامية، وجدنا أن ظهور الله يشغل جانباً كبيراً من هذه الكتب، كما يتضح مما يلي:
الفصل الأول
ظهور الله في حيِّز خاص
1 - جاء في سورة طه 5 الرحمن على العرش استوى . وفي سورة الأعراف 54 ثم استوى على العرش وقال بعض الفقهاء إن الاستواء في هاتين الآيتين معناه الرفعة. ولكن القدماء فهموا الاستواء فيهما بالمعنى الحرفي. لما سُئل مالك بن أنس عن معنى الرحم ن على العرش استوى قال: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة . واني من جانبي أرى أن استواء الله على العرش مثل جلوس الله على العرش في المسيحية، يُراد به ظهوره بحالة تتفق مع مجده. ولا مجال للاعتراض على ذلك لأنه تعالى وإن كان لا نهاية له، إلا أن له تعيّناً خاصاً، وبما أن كل ما له تعيّن يمكن أن يظهر في مكان ما، إذن فمن الممكن أن يظهر الله في كل مكان، دون أن يتحيّز بهذا المكان أو ينحصر فيه، لأنه منزّه عن المكان والزمان.
وفي (البخاري ج4 ص 68) ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة في السماء الدنيا، حين يبقى ثلث الليل الأخير، يقول من يدعوني فاستجيب له .
وإذا كان من المتفق عليه بين الفقهاء أن نزول المولى في السماء الدنيا في الوقت المذكور لا يمنع وجوده في كل مكان في ذلك الوقت، فلا غضاضة في اعتقاد المسيحيين بأنه تعالى مع وجوده في الجسد في وقت ما، كان في هذا الوقت في كل مكان، كما كان ويكون في غيره من الأوقات.
2 - وجاء في سورة الحديد 4 وهو معكم أين ما كنتم . وفي سورة النحل 128 إن الله مع الذين اتّقوا . وفي سورة البقرة 153 إن الله مع الصابرين . وفي سورة العنكبوت 69 وإن الله لمع المحسنين . وفي سورة المائدة 12 وقال الله إني معكم . وفي سورة المجادلة 7 ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أين ما كانوا .
وكانت معيّة الله موضوع بحث بين علماء الدين، فقال فريق منهم: إن الله معنا بصفاته . وقال فريق آخر: إنه معنا بذاته وصفاته، لأن صفاته ليست منفصلة عن ذاته، ولذلك يجب الاعتقاد بالمعيّة الذاتية. لكن معيّته ليست معيّة المتحيّزين، إذ أنه تعالى ليس مثل خَلْقه الموصوفين بالجسمية (اليواقيت والجواهر ص 67). وقال غيرهم: إن المعيّة هنا لا يراد بها المرافقة بل الرعاية . لكن أليست رعاية الله لنا تحمل في معناها وجوده معنا بذاته وصفاته، بطريقة لا تحدّ من عدم محدوديته؟ وإذا كان الأمر كذلك، أرى أنه لا مجال لتأويل معنى المعيّة الإلهية (في الإسلام أو المسيحية) إلى معنى يختلف عن ذاك الذي يُفهم منها.
3 - وجاء في سورة القيامة 22 وجوه يومئذ ناضرة. إلى ربها ناظرة . وجاء في صحيح البخارى: قال صلَّى الله عليه وسلّم رأيت ربي في أحسن صورة . وقال لقوم: إنكم سترون ربكم فلما سألوه: يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة قال: هل تضارون في رؤية الشمس والقمر إذا كان صحواً؟ قالوا: لا . قال لهم: فإنكم لا تُضارون في رؤية ربكم يومئذ (صحيح البخاري ج4 ص 197-199). وقال الآمدي: اجتمعت الأئمة على أن رؤية الله في الدنيا والآخرة جائزة، وأقاموا الأدلة على ذلك بالعقل والنقل (حاشية الأمير، على شرح الشيخ عبد السلام، على الجوهرة ص 55).
ويقول البعض إن رؤية الله مستحيلة، لأنه لا حكم لمقياس الزمان أو المكان عليه. لكن وإن كان الله لا يخضع لحكم الزمان أو المكان، إلا أن له تعيّناً خاصاً، وكل من له تعيّن خاص يستطيع أن يُظهر ذاته بأي وجه من الوجوه.
4 - وصف القرآن نور الله فقال: الله نور السموات والأرض، مَثَل نوره كمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، الزجاجة كأنها كوكب دُرِّيّ يُوقَد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية، يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار (سورة النور 35).
5 - وجاء في الأخبار: قال صلَّى الله وعليه وسلَّم: وضع الله يده أو كفه على كتفي، حتى وجدت برد أنامله في صدري . وقال أيضاً قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحم ن . وأيضاً خمَّر الله طينة آدم بيديه أربعين صباحاً... وأنه خلقه على صورة الرحم ن (الملل والاهواء والنحل ج1 ص 95 - 119). وقال معظم علماء الدين، إن هذه العبارات يُراد بها المعاني المجازية لها، لأن الله منزه عن الجسمية تنزهاً تاماً. ولكن ألا تدل هذه العبارات مع معانيها المجازية، على أنه تعالى مع عدم تحيّزه بحيزٍ، يمكن أن يظهر في حيزٍ خاص ليعلن مجده وبهاءه، أو رعايته وعنايته، أو لطفه وعطفه، او عظمته وقدرته؟!
6 - وجاء في سورة طه 9-13 وهل أتاك حديث موسى إذ رأى ناراً، فقال لأهله: ا مكثوا إني آنست ناراً لعلي آتيكم منها بقبس أو أجد على النار هدى. فلما أتاها نُودي يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك. إنك بالوادى المقدس طُوى... إنني أنا الله لا إله إلاَّ أنا .
الفصل الثاني
حلول الله في بعض البشر وظهوره في ناسوت
إذا صرفنا النظر عن الهاشميين والحشويين الذين يقولون إن الله ذو أعضاء وأبعاد، وإنه لا فرق بيننا وبينه إلاّ في الحجم، وإنه يجوز عليه الانتقال والصعود والاستقرار والتمكّن، لأن آراءهم لا تتفق مع العقل إطلاقاً، بشهادة معظم علماء المسلمين، فإن بعض الفرق الإسلامية المشهورة، تعتقد أن الله يحلّ في بعض الناس، بل ويظهر أيضاً في ناسوت، كما يتبين مما يلي:
1 - يقول أهل الشيعة: إن الجزء الإلهي حلَّ في عليّ، ويحلّ في خلفاء عليّ (الملل والأهواء والنحل ج2 ص 12) وكثير من علماء الدين ورجال الفلسفة لا يتقيدون بالأديان التي ينتمون إليها، بل يذكرون آراءهم الخاصة، فالمرجو مراعاة ذلك.
2 - ويقول الصوفيون إنهم يتَّحدون بالله، وإن الله يتّحد بهم، وإنهم لذلك يفنون فيه فناءً تاماً، ويصبح هو كلّ شيء فيهم. فمن المأثور عن الحسين بن منصور الحلاج أنه قال: لا إله إلاَّ الله. ما في الجبّة إلاَّ الله . علماً بأن الصوفيين لا يؤلهون أنفسهم كما يتبادر إلى الذهن لدى الاطلاع على أقوالهم، لأنهم يؤمنون إيماناً صادقاً أن لا إله إلا الله. لكنهم بنوا عقيدتهم هذه على أن الله ينزل في قلوب العاشقين إياه، فيحل فيها بذاته، ويكون هو كل شيء فيهم.
3 - ويقول أهل النصيرية والإسحاقية: إن ظهور الروحاني بالجسد الجسماني لا ينكره عاقل... أما في جانب الخير، كظهور جبريل عليه السلام في صورة أعرابي، والتمثُّل بصورة البشر... ولذلك نقول إن الله تعالى ظهر بصورة أشخاص (الملل والاهواء والنحل ج2 ص 25).
4 -وقال ابن الحلاج عن الهُوَ هُوَ
الذي خاطبه الله في الأزل:
سبحان من أظهر ناسوتُه
سرَّ سنا لاهوته الثاقب
ثم بدا لخلقه ظاهراً
في صورة الآكل الشارب
حتى لقد عاينه خلقه
كلحظة الحاجب بالحاجب
وسُمَّي الهُوَ هُوَ أيضاً الهُوَ . ويبدو لي أن كلمة الهُوَ هُوَ معناها الذي هو وليس سواه ، وأن كلمة الهو معناها الذي هو ، أي أن الكلمتين معناهما الموجود الوحيد الغني عن التعريف . ويبدو لي أيضاً أنه هناك تشابهاً بين هاتين الكلمتين وبين كلمة يهوه العبرية التي تُطلق على الله، والتي يُراد بها الكينونة الذاتية المستمرة أو بتعبير آخر الوجود الذاتي الدائم ، والكائن الدائم الوجود بذاته هو الهُوَ هُوَ بعينه. فاذا صحَّ استنتاجي، يكون ابن الحلاّج قد قصد ب الهُوَ هُوَ الكائن الذي يُدعى عند المسيحيين الله ظاهراً أو معلَناً . ويوافقني ابن سينا على أن الهُوَ هُوَ يُراد به الله، فقد قال الهو هو هو الذي هويته لذاته، وهو واجب الوجود الذي لا تركيب فيه ولا حدَّ له (الرسالة العرشية ص 63)، والهُوَ هُوَ يشبه كل الشبه المطاع ، الذي قال الإمام الغزالي عنه إنه ليس هو الله، ولكنه أيضاً ليس شيئاً غير الله ، كما يشبه القطب الذي قال أهل الإسماعيلية الباطنية والقرامطة عنه إنه منبع العلم الباطني والوحي ، ويشبه كلمة التكوين التي قال الأشاعرة إن لها قوة الخلق والتكوين ، كما ذكرنا في الباب الثالث من كتاب (الله - ذاته ونوع وحدانيته).
الفصل الثالث
تجسُّد كلام الله وكلمته
1 - يقول المعتزلة في شرحهم لحادثة ظهور الله لموسى النبي إن كلام الله حلَّ في الشجرة أو تجسَّد فيها .
2 - ويقول الأشاعرة ما ملخَّصه كلام الله نوعان: الكلام بمعنى الحروف، وهو حادث، والكلام بمعنى الحديث النفسي القديم القائم بذات الله، وهو أزلي. والأول صورة خارجية للثاني... والثاني صفة قديمة قائمة بذاته تعالى... وهو مساوٍ لها في القدم، ولا علم لنا به إلا عن طريق الألفاظ.. والكلام بمعنى الحديث النفسي الأزلي واحد لا تعدّد فيه، متميز مغاير لذاته تعالى، ويظهر بصور كثيرة لمن يريد الله أن يظهره له.. وهذه الصور حادثة ومنها القرآن . وهذا الوصف يشبه الوصف الذي جاء عن الكلمة في سفر الحكمة اليهودي، الذي اقتبسنا شيئاً منه في الباب الثالث من كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته .
3 - وقال المقريزي: القرآن هو من قبيل الأجساد، ويمكن أن يصير مرة رجلاً ومرة حيواناً . وقال الجاحظ: القرآن جسد يجوز أن يقلب مرة رجلاً ومرة حيواناً . وقال إخوان الصفا: الشريعة الإلهية هي جبلة روحانية، تبدو من نفس جزئية، في جسد بشري، بقوة عقلية تفيض عليها من النفس الكلية، بإذن الله تعالى، في دور من الأدوار .
ويعتقد علماء الدين جميعاًأن القرآن هو كلام الله، ولكن لبعضهم آراء خاصة من حيث الاعتقاد بزمن وجوده. فقال ابن حنبل القرآن أزلي وقد علل ذلك بأن القرآن كلام الله، وكلام الله أزلي. ولذلك قالت الحنابلة: القرآن بحروفه وأصواته قديم . وقد تطرّفت جماعة منها في رأيها فقالت: إن جلده وغلافه قديمان ايضاً . فكان مثلها مثل بعض فلاسفة الأرمن، في رأيهم من جهة جسد المسيح (كما سيتضح في الباب الخامس). أما المعتزلة فقالت: القرآن مخلوق وقد عللت ذلك بأنه قد نصّ على نسخ بعض الآيات، فقال: ما ننسخ من آية أو نُنْسها نأت بخير منها ولا يتصور النسخ إلا في الحادث . ووقفت جماعة ثالثة موقفاً وسطاً، فقالت: القرآن مجعول (أي أنه ليس أولياً قائماً بذات الله، وليس مخلوقاً من العدم)(الملل والأهواء والنحل ج1 ص 77، وضحى الاسلام ج3 ص 34-37 و 161-207). أما المسيحيون، فمع اعتقادهم أن المسيح بوصفه الكلمة الذي يعلن فكر الله هو أزلي بأزلية الله أو اللاهوت،لكنهم يعتقدون أن الكتاب المقدس حادث، وأن كل آية من آياته، وإن كانت معلومة لدى الله أزلاً، إلا أنها لم تصدر منه إلا في الظروف الخاصة بها.
أما قول المقريزي والجاحظ إن القرآن يمكن أن يصير حيواناً، فأعتقد أنه لا يقصد بكلمة الحيوان القائم بأربعة أرجل، بل يقصد به كائناً حياً، لأن الحيوان في العربية هو ما دبَّت فيه الحياة.
4 - ويقول الأشاعرة أيضاً: كلمة التكوين (كن)، الواردة في الآية (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون)، معناه تجسيم الكلمة، او على الأقل إظهارها بمظهر الشخصية . فهم لا يعتقدون أن التجسم هو في أثر الكلمة (كما يحاول الذين يريدون تأويل أقوالهم)، بل يعتقدون أن التجسم هو في ذات الكلمة.
5 - وقال الشيخ محيي الدين العربي ما ملخصه: الكلمة الكلية الجامعة، أو العقل الإلهي، أو حقيقة الحقائق، هي اللاهوت أو باطن الناسوت . وقال أيضاً: ما يُقال عنه العقل بالقوة هو حقيقة الحقائق، وما يُقال عنه العقل بالفعل هو العبد الكامل أو الإنسان الكامل. وهذا العبد الكامل أو الإنسان الكامل يُدعى الله، لأنه جمع في عين واحدة الحضرة الإلهية بكل صفاتها. والله يعرف نفسه بنفسه في هذا الإنسان، إذ هو بالنسبة إليه، مثل إنسان العين من العين، وبه نظر الله إلى عباده فرحمهم أو خلقهم . والعبد الكامل ، يراد به الله متجلياً وعاملاً . وبالطبع لا يقصد ابن العربي ب- الكلمة الكلية الجامعة أو الإنسان الكامل ، السيد المسيح، كما يعتقد المسيحيون، بل يقصد به الحقيقة المحمدية .
الفصل الرابع
ضرورة وجود متوسط يجمع بين الروحانية والجسمانية، بين الله والناس
قال ابن حزم: كانت الفِرق في زمن إبراهيم الخليل راجعة إلى صنفين: الصابئة والحنفاء. وكانت الصابئة تقول إننا نحتاج في معرفة الله تعالى ومعرفة طاعته وأوامره وأحكامه إلى متوسط، يجب أن يكون روحانياً لا جسمانياً، وذلك لزكاء الروحانيات وطهارتها وقربها من رب الأرباب، والجسماني بشر مثلنا يأكل مما نأكل ويشرب مما نشرب، ويماثلنا في المادة والصورة (ولذلك) قالوا: ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون.
أما الحنفاء فكانوا يقولون إننا نحتاج في المعرفة والطاعة إلى متوسط من جنس البشر، تكون درجته في الطهارة والعصمة والتأييد والحكمة فوق الروحانيات، يماثلنا من حيث البشرية ويمايزنا من حيث الروحانية. فيتلقى الوحي بطرف الروحانية، ويلقي إلى النوع الإنساني بطرف البشرية.
ثم لما لم يتطرَّق للصابئة الاقتصار على الروحانية البحتة، والتقرب إليها بأعيانها والتلقي منها بذواتها، فزعت جماعة منها إلى هياكلها، وهي السيارات السبع. أما إبراهيم فكان مكلفاً بتقرير الحنفية السهلة . (الملل والأهواء والنحل ج2 ص 70).
والحنيف هو البعيد عن العقائد الزائفة (البيضاوي ج2 ص 24)، ويقابله في اللغة اليونانية كلمة أرثوذكس . أما الصابئ فهو الذي يخرج من دين إلى دين، ويُعتبر من أهل الكتاب (مختار الصحاح ص 354)، أما أبو الفداء فيقول في كتابه (التواريخ القديمة) إن الصابئين هم أتباع إدريس عليه السلام.
والمتوسط هو الوسيط كما يقول المسيحيون. وبهذه المناسبة نقول، إذا كان من المستحيل أن يكون هناك إنسان عادي يمايز جميع الناس من جهة الطهارة والعصمة والتأييد، وهو فوق الروحانيات (لأن الأنبياء وهم صفوة البشر، قد سقطوا في الخطايا، التي يسقط فيها غيرهم من الناس) ألا يكون هذا المتوسط الذي أرتأى الحنفاء وجوده، هو ما يقول المسيحيون عنه إنه الله متأنساً؟
الجواب: أعتقد ذلك، لأن الله وحده هو فوق الروحانيات من جهة الطهارة والحكمة والعصمة والتأييد، وغير ذلك من الصفات السامية. وهل كان إبراهيم يعرف هذه الحقيقة حتى يقوم بتقريرها، كما يقول الحنفاء؟
الجواب: بناءً على ما جاء في الكتاب المقدس أقول إنه كان يعلمها، لأنه رأى الله مرة في صورة إنسان، ولأنه تهلل مرة أخرى بأن يرى يوم المسيح، فرأى بالروح وفرح (يوحنا 8: 56). وإذا كان الأمر كذلك، فإن رأي الحنفاء من جهة الشروط الواجب توافرها في المتوسط يتفق مع ما جاء في الكتاب المقدس كل الاتفاق، فقد قال الرسول فيه: لأنه يوجد إله واحد ووسيط واحد بين الله والناس، الانسان يسوع المسيح (1تيموثاوس 2: 5). وكأن الرسول يقول: إن أردتم إنساناً من جنسكم يشعر شعوركم ويرثي لضعفكم، ليكون وسيطاً لكم تقتربون به إلى الله، فهذا الإنسان هو يسوع المسيح، لأنه إنسان حقيقي من جنسكم يحس إحساسكم، ويمكنكم معرفته والاتصال به. وفي الوقت نفسه هو أقنوم الكلمة الذي باقترابكم منه تقتربون من ذات الله. وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة، فقال عن نفسه: أنا هو الطريق والحق والحياة. ليس أحد يأتي إلى الآب إلا بي (يوحنا 14: 6). وقال أيضاً: أنا هو الباب. إن دخل بي أحد فيخلص (يوحنا 10: 9). كما برهن عملياً على أنه المتوسط الوحيد بين الله والناس، إذ مع أنه كان إنساناً من جنسنا، عاش على الأرض حياة يمكن أن يُقال عنها بحق إنها فوق الروحانيات من جهة الطهارة والعصمة والتأييد، وغير ذلك من صفات الكمال.
الفصل الخامس
تجسُّد الكلمة الأزلية في المسيح وظهور اللاهوت فيه
1 - قال أحمد بن حائط إمام فرقة الحائطية عن السيد المسيح، إنه المراد بقوله تعالى: جاء ربك والملك صفاً صفاً (الفجر 22)، ويأتيهم الله في ظُلَلٍ من الغمام (البقرة 210)، وهو المعنيُّ بقوله تعالى أو يأتي ربك (الأنعام 158)، وهو المراد بقول النبي عليه الصلاة والسلام: إن الله تعالى خلق آدم على صورة الرحم ن ، وبقوله حتى يضع الجبار قدمه في النار . ثم قال بعد ذلك: إن المسيح تدرّع بالجسد الجسماني، وهو الكلمة القديمة المتجسدة، كما قالت النصارى (الملل والاهواء والنحل ج1 ص 77) والملك مفرد وجمع (مختار الصحاح ص 634)، ولذلك يُقصد به الملاك والملائكة. ومن الواضح أن الرب يأتي في ظُلل من الغمام ليحجب بهاء لاهوته عن البشر، حتى لا يرتعبوا منه، وقد أشارت التوراة أيضاً إلى هذه الحقيقة (خروج 40: 34).
فإن صح قول ابن حائط إن الرب في هذه العبارات يُقصد به السيد المسيح، فإنها تكون متفقة مع ما جاء في الكتاب المقدس كل الاتفاق، لأنه يعلن أن الرب يسوع سيأتي مرة ثانية (أعمال 1: 11) على السحاب (رؤيا 1: 7) مع ملائكته القديسين (متى 24: 30). والمقصود بحديث حتى يضع الجبار قدمه في النار هو أن جهنم لا تكف عن طلب المزيد من البشر، حتى يضع الجبار (أو الرب) قدمه فيها. وإن صح أيضاً قول ابن حائط إن الجبار في هذه العبارة يُقصد به السيد المسيح، فإنها تكون متفقة مع ما جاء في الكتاب المقدس عنه من بعض الوجوه، لأن هذا الكتاب يعلن أن السيد المسيح هو المخلص من الخطيئة، ومن نار عقوبتها الأبدية (يوحنا 5: 24).
2 - والشيخ أبو الفضل القرشي مع اعتقاده أن المسيح لم يكن هو الله، إلاَّ أنه قال: يمكن أن يكون المراد أن اللاهوت ظهر في المسيح، وهذا لا يستلزم الكفر، وأن لا إله إلا الله .
3 - قال الأستاذ عباس محمود العقاد: جاء السيد المسيح بصورة جميلة للذات الإلهية . (عن كتاب الله ص 159) - وطبعاً لا يقصد الأستاذ العقاد بهذه العبارة أن المسيح كان هو الله متجسداً، لكن مَنْ ذا الذي يستطيع أن يجيء بصورة جميلة للذات الالهية، بمعنى صورة كاملة لها؟ أليس البشر والملائكة جميعاً مخلوقات معرضة للخطأ والزلل، لا يمكن أن تكون صورة جميلة أو كاملة لله، لأنه تعالى منزه عن الخطأ والزلل كل التنزيه؟ طبعاً نعم. وإذا كان الأمر كذلك، ألا يكون الله وحده هو الذي يستطيع أن يعلن ذاته كما هي بجمالها وكمالها؟ طبعاً نعم! وإذا كان المسيح هو وحده الذي أتى بصورة جميلة أو كاملة لذات الله، ألا يكون هو بعينه صورة الله أو الله معلَناً؟
مما تقدم يتضح لنا:
1 - شهد القرآن والأحاديث النبوية أن الله مع عدم تحيّزه بحيِّز، يمكن أن يظهر في حيزٍ خاص، بطريقة تفوق العقل والإدراك، ليظهر مجده وبهاءه، أو يساعد الأتقياء من عباده.
2 - بعض رجال الدين والفلسفة (أ) شهد أن الله يحلّ في أجساد بعض الناس، ويظهر بصور بعض الأشخاص. (ب) وأن كلمته لها شخصية، وأنها تتجسّد وتظهر بصور كثيرة، بشرية وغير بشرية، وأنها تُدعى الإنسان الكامل. والله بالنسبة إلى هذا الإنسان، مثل إنسان العين من العين. (ج) وأن الوسيط الذي يحتاج إليه البشر، يجب أن يكون فوق الروحانيات، وفي الوقت نفسه يجب أن يكون إنساناً مثلنا. (أو بحسب الاصطلاح المسيحي، يجب أن يكون هو الله متأنساً، لأن الله وحده هو فوق الروحانيات). (د) وأن المسيح هو الرب، وأنه الكلمة الأزلية، وأن اللاهوت ظهر فيه، وأنه أتى بصورة جميلة للذات الإلهية.
ويتفق رأي الحنفاء مع رأي الفلاسفة المسيحيين إلى حد ما. قال الأستاذ دي بور: كيف السبيل إلى معرفة الروح (أو بالحري الله الروح)، الذي هو اسمى من روحنا، والذي نحن في حاجة إلى هدايته؟ هذا سؤال إذا نظرنا إليه بمنظار العقل المجرد، فقد يتحطم على صخرته كل مذهب ديني أو شبه ديني يقول بوساطة إنسان ما . أما المتوسط الذي كان الأستاذ دي بور يرى ضرورة وجوده فهو كما قال دكتور أبو ريدة: الله في صورة إنسان (تاريخ الفلسفة في الاسلام ص 288). ولماذا لا يجوز أن يكون الوسيط سوى الله في صورة إنسان، أو بتعبير آخر سوى الله متأنساً ؟
الجواب: بما أنه لا يعرف الله سوى الله، إذن لا يمكن للإنسان ان يعرف الله إلا بواسطة الله. وبما أن الإنسان من الناحية الأخرى لا يستطيع أن يلتقي بالله مباشرة حتى يعرفه (لأنه محدود والله غير محدود، وليس هناك اتصال مباشر بين المحدود وغير المحدود) كان من البديهي أن يتنازل الله ويتخذ جسد إنسان ليسهل أمام الإنسان سبيل الالتقاء به ومعرفته.
هذه هي خلاصة الآراء التي يعثر عليها الباحث في المحيط الاسلامي، وقد انقسم رجال النقد إزاء آراء الفلسفة إلى فريقين: فقال فريق إنها مقتبسة من التعاليم المسيحية، وقال فريق آخر إنها تفسير لبعض الآيات القرآنية والأحاديث القدسية والنبوية. ولكل من الفريقين أدلته التي تؤيِّد وجهة نظره، ولكن الحقيقة التي أرى أنه لا يختلف فيها إثنان هي:
1 - عاش رجال الفلسفة السابق ذكرهم في عصور متباينة، ولم يكونوا من المنتمين إلى فرقة واحدة من الفرق الإسلامية، بل كانوا ينتمون إلى فرق مختلفة. فضلاً عن ذلك فإنهم لم يكونوا من العامة الذين ينقادون وراء آراء الغير انقياداً أعمى، بل كانوا من العلماء الذين يدققون في أفكارهم وأقوالهم كل التدقيق.
2 - إنهم على الرغم مما قالوه عن ظهور الله في بعض البشر ، وتجسد كلمته وشخصية المسيح ، وضرورة وجود وسيط بين الله والناس، يكون فوق الروحانيات وفي الوقت نفسه يكون بشراً مثلنا لم يذكر واحد منهم أن المسيح كان هو الله متجسداً وبذلك أبقوا على أساس الخلاف بين المسيحية والإسلام كما هو.
3 - فإذا تأملنا آراءهم بصفة إجمالية، اتضح لنا أنها تدل على اعتقادهم أن الإنسان لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يعرف الله، وأن الله لكماله لا يريد أن يبقى مجهولاً من الإنسان، بل يريد أن يكون معروفاً لديه، وأن السبيل الوحيد لذلك هو أن يعلن ذاته بهيئة يستطيع بها الإنسان إدراكه، وأنهم من جانبهم، كانوا يشتاقون إلى التقرُّب من الله ورؤية بهائه ومعرفة ذاته. وهذه الاعتقادات والأشواق ليست في الواقع مقتبسة من دين من الأديان، بل هي (كما يتضح من كتب التاريخ والفلسفة) اعتقادات وأشواق البشرية بأسرها، عندما تتحرر في هذا العالم من أهواء الجسد بكل أنواعها. وكل ما في الأمر أن المسيحية قد أعلنت بوضوح أن هذه الاعتقادات والأشواق قد تحققت تماماً في المسيح، وذلك لكل من يفهمها فهماً روحياً صادقاً.
- عدد الزيارات: 23884