الارتقاء والتطوّر في الدين - تتكون التوراة من مجموعة وثائق
6 - تتكون التوراة من مجموعة وثائق
كُتبت بعد موسى بزمن كبير
قرأنا في أول هذا الفصل اقتراح جراف وولهاوزن بوجود أربع وثائق على الأقل نُسجت منها التوراة الحالية. وجاء بعدهم من ادَّعى أن عدد تلك الوثائق 10 أو 12 أو 15. وبنوا ادّعاءاتهم على أساس استعمال المفردات. وأشهر هذه الأقسام هو استعمال أسماء الجلالة المختلفة: إلوهيم المستخدمة في التكوين 1 و يهوه المستخدمة في تكوين 2 و3. ثم أطلقوا على من استخدم اسم الجلالة إلوهيم E,
وأطلقوا على من استخدم اسم الجلالة يهوه وقالوا إنه جاء كاتب آخر ليروي القصة نفسها بسياق مختلف، ثم جاء محرر استخدم كل هذه ونسج منها قصة واحدة. وقدموا نموذجاً لذلك قصة اسحق، ومعنى اسمه ضحك . (ونجد القصة في تكوين 17:15-19):
15 وَقَالَ اللّه لِإِبْرَاهِيمَ: سَارَايُ ا مْرَأَتُكَ لَا تَدْعُو ا سْمَهَا سَارَايَ، بَلِ ا سْمُهَا سَارَةُ. 16 وَأُبَارِكُهَا وَأُعْطِيكَ أَيْضاً مِنْهَا ابْناً. أُبَارِكُهَا فَتَكُونُ أُمَماً، وَمُلُوكُ شُعُوبٍ مِنْهَا يَكُونُونَ . 17 فَسَقَطَ إِبْرَاهِيمُ عَلَى وَجْهِهِ وَضَحِكَ، وَقَالَ فِي قَلْبِهِ: هَلْ يُولَدُ لِا بْنِ مِئَةِ سَنَةٍ؟ وَهَلْ تَلِدُ سَارَةُ وَهِيَ بِنْتُ تِسْعِينَ سَنَةً؟ . 18 وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ لِلّ هِ: لَيْتَ إِسْمَاعِيلَ يَعِيشُ أَمَامَكَ! 19 فَقَالَ اللّه بَلْ سَارَةُ ا مْرَأَتُكَ تَلِدُ لَكَ ابْناً وَتَدْعُو ا سْمَهُ إِسْحَاقَ (بمعنى يضحك) .
ثم كلم الله إبرهيم مرة أخرى وكرر الوعد له على مسمع من سارة، كما نقرأ في التكوين 18:10-15:
10 فَقَالَ (الله): إِنِّي أَرْجِعُ إِلَيْكَ نَحْوَ زَمَانِ الحَيَاةِ وَيَكُونُ لِسَارَةَ ا مْرَأَتِكَ ابْنٌ . وَكَانَتْ سَارَةُ سَامِعَةً فِي بَابِ الخَيْمَةِ وَهُوَ وَرَاءَهُ - 11 وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ وَسَارَةُ شَيْخَيْنِ مُتَقَدِّمَيْنِ فِي الأَيَّامِ، وَقَدِ انقَطَعَ أَنْ يَكُونَ لِسَارَةَ عَادَةٌ كَالنِّسَاءِ. 12 فَضَحِكَتْ سَارَةُ فِي بَاطِنِهَا قَائِلَةً: أَبَعْدَ فَنَائِي يَكُونُ لِي تَنَعُّمٌ، وَسَيِّدِي قَدْ شَاخَ! 13 فَقَالَ الرَّبُّ لِإِبْرَاهِيمَ: لِمَاذَا ضَحِكَتْ سَارَةُ قَائِلَةً: أَفَبِالحَقِيقَةِ أَلِدُ وَأَنَا قَدْ شِخْتُ؟,, 15 فَأَنْكَرَتْ سَارَةُ قَائِلَةً: لَمْ أَضْحَكْ . (لِأَنَّهَا خَافَتْ). فَقَالَ: لَا! بَلْ ضَحِكْتِ .
وهناك فقرة كتابية ثالثة عن الضحك، حدثت وقت ولادة إسحق، وردت في تكوين 21:1- 6:
1 وَا فْتَقَدَ الرَّبُّ سَارَةَ كَمَا قَالَ، وَفَعَلَ الرَّبُّ لِسَارَةَ كَمَا تَكَلَّمَ. 2 فَحَبِلَتْ سَارَةُ وَوَلَدَتْ لِإِبْرَاهِيمَ ابْناً فِي شَيْخُوخَتِهِ، فِي الوَقْتِ الذِي تَكَلَّمَ اللّه عَنْهُ. 3 وَدَعَا إِبْرَاهِيمُ ا سْمَ ابْنِهِ المَوْلُودِ لَهُ الذِي وَلَدَتْهُ لَهُ سَارَةُ إِسْحَاقَ . 4 وَخَتَنَ إِبْرَاهِيمُ إِسْحَاقَ ابْنَهُ وَهُوَ ابْنُ ثَمَانِيَةِ أَيَّامٍ كَمَا أَمَرَهُ اللّ هُ. 5 وَكَانَ إِبْرَاهِيمُ ابْنَ مِئَةِ سَنَةٍ,,, 6 وَقَالَتْ سَارَةُ: قَدْ صَنَعَ إِلَيَّ اللّه ضِحْكاً. كُلُّ مَنْ يَسْمَعُ يَضْحَكُ لِي .
فماذا فعل النقاد المتطرفون بهذه الآيات الواضحة؟.. قالوا إن هناك ثلاث قصص مختلفة نسجها محرر فيما بعد في قصة واحدة. جاءت الأولى من الكاتب الكهنوتي، وجاءت الثانية من وثيقة J وجاءت القصة الثالثة من وثيقة .E
ولكن لماذا يبدو غريباً أن يضحك إبرهيم وسارة أولاً غير مصدّقَين أنه سيكون لهما ولد، ثم تضحك سارة بعد أن يعطيها الله الولد؟ ألا ترى أن هؤلاء النقاد تطرفوا حتى دخلوا دائرة اللامعقول؟
وقد لخّص هنري بلوتشر كل هذا بأسلوب رشيق، قال:
عندما يُصدِر النقاد الغربيون أحكامهم على محتوى الكتاب المقدس يضعون في اعتبارهم عاداتهم المعاصرة وقرّاءهم الغربيين، ويهملون كل ما يعرفونه اليوم عن بيئة الشرق وعاداته، ومنها الكتابة المستخدمة في أزمنة التوراة، فقد كان الأقدمون يحبون التكرار، ويستخدمون العبارات العمومية الطابع، ويستبدلون الكلمة بما يرادفها، خصوصاً مع اسم الجلالة. وهكذا ترى أن نصوص التوراة تتوافق مع أسلوب كتابة أزمنة كتابتها (19).
ماذا لو استخدمنا النقد المتطرف مع القرآن؟
اسم الجلالة الله ومخاطبته اللهم في اللغة العربية يوازي الاسم العبري إلوهيم . كما أن الاسم العربي الرب يوازي العبري أدوناي الذي استخدمه اليهود بعد فترة بديلاً للاسم يهوه . وعندما ندرس القرآن لا نجد الاسم رب في إحدى عشرة سورة، هي: النور، الفتح، الحجرات، المجادلة، الصف، الجمعة، المرسلات، الغاشية، التين، الهمزة، الإخلاص. كما أن اسم الله لم يرد في ثماني عشرة سورة، هي: القمر، الرحمان، الواقعة، القلم، القيامة، النبإ، المطففين، الفجر، الليل، الضحى، الشرح، الزلزلة، العاديات، الفيل، قريش، الكوثر، الفلق، الناس. وهناك عشر سور قصيرة من العهد المكي الأول لم يرد فيها اسم الجلالة أبداً، كما هو الحال في سفر أستير بالتوراة. وإليك جدولاً باستخدام اسم الجلالة الله و رب في السور: الفتح، الحجرات، ق، الذاريات، الطور، النجم، القمر، الرحمان، الواقعة، الحديد، المجادلة، الحشر، الممتحَنة، الصف، الجمعة، المنافقون، التغابن. وقد اخترت هذه السور السبع عشرة لأني ذكرتُ ثمانٍ منها في القائمة أعلاه:
ملحوظة: معنى ع م م في هذا الجدول: العهد المكي المبكر ,
رقم تاريخها مرات عدد تكرارها مرات تكرارها
السورة ذكر الله الآيات في الآية ذكر الرب في الآية
48 6 هـ 19 29 65ر, - -
49 9 هـ 27 18 50ر1 - -
50 ع م م 1 45 02ر0 2 04ر0
51 ع م م 3 60 05ر0 5 08ر0
52 ع م م 3 49 06ر0 6 12ر0
53 ع م م 6 62 10ر0 7 11ر0
54 ع م م - 55 - 1 02ر0
55 ع م م - 78 - 36 46ر0
56 ع م م - 96 - 3 03ر0
57 8 هـ 32 29 10ر1 3 10ر0
58 5-7 هـ 40 22 81ر1 - -
59 4 هـ 29 24 21ر1 1 04ر0
60 8 هـ 21 13 61ر1 4 31ر0
61 3 هـ 17 14 21ر1 - -
62 2-5 هـ 12 11 09ر1 - -
63 4-5 هـ 14 11 27ر1 1 09ر0
64 1 هـ 20 18 11ر1 1 06ر0
وعندما نتأمل هذا الجدول نكتشف أن الاسم رب استُخدم 36 مرة في سورة الرحمان، وردت 31 مرة منها مع كلمة آلاء . وكلمة آلاء قليلة الورود بالقرآن، وردت في سورة الرحمان وثلاث مرات أخرى، مرة منها في سورة النجم (وهي من العهد المكي المبكر) ومرتان في سورة الأعراف (وهي من العهد المكي المتأخر). وعندما نفحص سورة النجم آيتي 19 و20 نجد أنها السورة الوحيدة التي تذكر أسماء الأصنام: اللات والعزى ومناة.
وأفترض أن عندنا ناقداً متطرفاً يؤمن بنظرية الوثائق، يتعامل مع هذه الفقرات القرآنية كما تعامل مع الفقرات التوراتية فيقول: لاحظوا أن اسم الجلالة الله لا يُستخدم كثيراً في العهد المكي، فقد جاء بمعدل مرة كل عشر آيات. أما في العهد المدني فإن هذا الاسم يُستخدم على الأقل مرة في كل آية، ماعدا في سورة الفتح. ثم أن كلمة آلاء وأسماء الأصنام الثلاثة لم ترد إلا في الآيات المكية، فلا بد أنه كان هناك كاتب مكي مبكر نسمّيه R لأنه استخدم اسم الجلالة رب وهو لا يزال يهتم بالأصنام. ثم جاء كاتب ثانٍ نسمّيه A لأنه استخدم اسم الجلالة الله لأن التوحيد النقي كان قد بدأ يظهر. وواضح أن أسماء الأصنام الثلاثة في سورة النجم لا تتمشى مع السياق، فلا بد أن كاتباً ثالثاً أضافها في مرحلة متأخرة، ونسمّيه Q لأنه أحد القرّاء .
ثم يقول لنا هذا الناقد المتطرف: ولاحظوا معي كيف أن القرآن يورد أربع مرات قصة زيارة الضيوف المكرَّمين لإبرهيم ليبشروه بابن في عمره المتقدم. وتقول السورة المكية المبكرة الذاريات 24-30 إن زوجة إبرهيم العجوز العقيم لم تصدق. فلا بد أن الكاتب R هو صاحب هذه الرواية. وفي العهد المكي المتأخر تروي سورة الحِجْر 15:51-56 أن إبرهيم لم يصدق، وقال: أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ؟ . ولما كانت هذه السورة من العهد المكي المتأخر، فلا بد أن تأثير كاتبها A يكون قد بدأ!.. وفي سورة هود 69-74 من العهد المكي المتأخر نسج الكاتب Q القصتين معاً وأضاف أن زوجة إبرهيم ضحكت... وهناك ما جاء في سورة الصافات 99-103 من العهد المكي الوسيط، وهي تهتم بتقديم إبرهيم ابنه ذبيحة لله. وذِكر الذبيحة يعني استخدام وثيقة أخرى نسمّيها Z .
وهكذا يرى القارئ بوضوحٍ بالغ مقدار التجنّي على النصوص الذي ارتكبه النقاد المتطرفون، الذين تبنَّى د. بوكاي أفكارهم ونشرها في كتابه، وهي أبعد ما تكون عن العِلم الصحيح. هل يُعقَل أن يُقال إن القرآن مكوَّن من تجميع أربع وثائق كتبها R, A, Q, Z ؟ هذا ما كان يحدث للقرآن لو صدق د. بوكاي ومن أخذ عنهم!
- عدد الزيارات: 14227