الأدلة التوراتية على صدق النبوَّة
يقدم لنا الله في تثنية 18:17-20 أول دليل على صدق النبوة، وذلك على فم موسى الكليم:
قَالَ لِيَ الرَّبُّ: قَدْ أَحْسَنُوا فِي مَا تَكَلَّمُوا. أُقِيمُ لَهُمْ نَبِيّاً مِنْ وَسَطِ إِخْوَتِهِمْ مِثْلَكَ، وَأَجْعَلُ كَلَامِي فِي فَمِهِ، فَيُكَلِّمُهُمْ بِكُلِّ مَا أُوصِيهِ بِهِ. وَيَكُونُ أَنَّ الإِنْسَانَ الذِي لَا يَسْمَعُ لِكَلَامِي الذِي يَتَكَلَّمُ بِهِ بِا سْمِي أَنَا أُطَالِبُهُ. وَأَمَّا النَّبِيُّ الذِي يُطْغِي، فَيَتَكَلَّمُ بِا سْمِي كَلَاماً لَمْ أُوصِهِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِهِ، أَوِ الذِي يَتَكَلَّمُ بِا سْمِ آلِهَةٍ أُخْرَى، فَيَمُوتُ ذ لِكَ النَّبِيُّ .
توضح هذه الآيات الأمر والعقاب الذي ينتج عن عصيانه. يقول الله إنه سيطالب الإنسان الذي يعصى نبيَّه الذي ينطق باسمه. ثم يقول الله بعد ذلك في الآيتين 21 و22 وإن قلتَ في قلبك: كيف نعرف الكلام الذي لم يتكلم به الرب؟ فما تكلّم به النبي باسم الرب ولم يحدُث ولم يصِر، فهو الكلام الذي لم يتكلم به الرب بل بطُغيانٍ تكلم به النبي. فلا تخَفْ منه .
والمقصود أننا نعرف صدق نبوَّة النبي بتحقيق نبوته,
ونجد نموذجاً لهذا في الملوك الأول 17 و18 عندما تنبأ النبي إيليا للملك أخآب أن المطر سيتوقف فقال: حيٌّ هو الرب إله إسرائيل الذي وقفتُ أمامه، أنه لا يكون طل ولا مطرٌ في هذه السنين إلا عند قولي .
وانتظر الشعب ليروا ما سيحدث. وربما لما امتنع المطر لبضعة شهور ظنّوا أن هذا أمر غير عادي. ولكن المطر انقطع لثلاث سنوات ونصف السنة. بعدها قال إيليا للملك: اشدُد وانزل لئلا يمنعك المطر . فانهمر المطر، وعرف الشعب كله أن إيليا هو حقاً نبي الله العلي القدير الذي وحده يجب أن يُعبَد.
وهناك امتحان آخر يوضح صدق نبوة النبي، فقد جاء في التثنية 13:1-4:
إِذَا قَامَ فِي وَسَطِكَ نَبِيٌّ أَوْ حَالِمٌ حُلْماً، وَأَعْطَاكَ آيَةً أَوْ أُعْجُوبَةً، وَلَوْ حَدَثَتِ الآيَةُ أَوِ الأُعْجُوبَةُ التِي كَلَّمَكَ عَنْهَا قَائِلاً: لِنَذْهَبْ وَرَاءَ آلِهَةٍ أُخْرَى لَمْ تَعْرِفْهَا وَنَعْبُدْهَا، فَلَا تَسْمَعْ لِكَلَامِ ذ لِكَ النَّبِيِّ أَوِ الحَالِمِ ذ لِكَ الحُلْمَ. وَرَاءَ الرَّبِّ إِلهكُمْ (يهوه إلوهيم) تَسِيرُونَ، وَإِيَّاهُ تَتَّقُونَ، وَوَصَايَاهُ تَحْفَظُونَ، وَصَوْتَهُ تَسْمَعُونَ، وَإِيَّاهُ تَعْبُدُونَ، وَبِهِ تَلْتَصِقُونَ .
ومن هذه الآيات يتضح أن المعجزات وحدها لا تكفي لبرهنة صحة رسالة النبي، بل يجب أن تتَّفق رسالته مع وحي من سبقوه من أنبياء الله الصادقين. ونقدم مثلاً من رجلين قال كلٌّ منهما إنه نبي للرب، ولكنهما قدَّما رسالتين متناقضتين. أولهما النبي إرميا الذي أعلن أن الملك نبوخذ نصر البابلي قادم ليخرب أورشليم ويسبي أهلها لأنهم انحرفوا عن عبادة الله وعبدوا الأوثان. وأمر الرب إرميا أن يضع على عنقه نير الثيران ويذهب لمقابلة الملك صدقيا (ملك أورشليم) ويقول له: هك ذَا قَالَ الرَّبُّ لِي. ا صْنَعْ لِنَفْسِكَ رُبُطاً وَأَنْيَاراً وَاجْعَلْهَا عَلَى عُنْقِكَ.. وَكَلَّمْتُ صِدْقِيَّا مَلِكَ يَهُوذَا بِكُلِّ هذَا الكَلَامِ، قَائِلاً: أَدْخِلُوا أَعْنَاقَكُمْ تَحْتَ نِيرِ مَلِكِ بَابِلَ وَاخْدِمُوهُ وَشَعْبَهُ وَاحْيَوْا. لِمَاذَا تَمُوتُونَ أَنْتَ وَشَعْبُكَ بِالسَّيْفِ بِالجُوعِ وَالوَبَإِ كَمَا تَكَلَّمَ الرَّبُّ عَنِ الأُمَّةِ التِي لَا تَخْدِمُ مَلِكَ بَابَِلَ؟ فَلَا تَسْمَعُوا لِكَلَامِ الأَنْبِيَاءِ الذِينَ يَقُولُونَ لَكُمْ: لَا تَخْدِمُوا مَلِكَ بَابِلَ، لِأَنَّهُمْ إِنَّمَا يَتَنَبَّأُونَ لَكُمْ بِالكَذِبِ (إرميا 27:2 و12-14).
ولكن جاء نبي آخر قال عكس ما قاله إرميا. ويقول النبي إرميا في أصحاح 28:1-9 من سفره:
وَحَدَثَ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي ابتِدَاءِ مُلْكِ صِدْقِيَّا مَلِكِ يَهُوذَا، فِي السَّنَةِ الرَّابِعَةِ فِي الشَّهْرِ الخَامِسِ، أَنَّ حَنَنِيَّا بْنَ عَزُورَ النَّبِيَّ الذِي مِنْ جِبْعُونَ قَالَ لِي فِي بَيْتِ الرَّبِّ أَمَامَ الكَهَنَةِ وَكُلِّ الشَّعْبِ: هكَذا قَالَ رَبُّ الجُنُودِ إِله إِسْرَائِيلَ: قَدْ كَسَرْتُ نِيرَ مَلِكِ بَابِلَ. فِي سَنَتَيْنِ مِنَ الزَّمَانِ أَرُدُّ إِلَى هذَا المَوْضِعِ كُلَّ آنِيَةِ بَيْتِ الرَّبِّ التِي أَخَذَهَا نَبُوخَذْنَصَّرُ مَلِكُ بَابِلَ مِنْ هذَا المَوْضِعِ وَذَهَبَ بِهَا إِلَى بَابِلَ.. لِأَنِّي أَكْسِرُ نِيرَ مَلِكِ بَابِلَ .
فَكَلَّمَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ حَنَنِيَّا النَّبِيَّ أَمَامَ الكَهَنَةِ وَأَمَامَ كُلِّ الشَّعْبِ الوَاقِفِينَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ وَقَالَ: آمِينَ. هك ذَا لِيَصْنَعِ الرَّبُّ. لِيُقِمِ الرَّبُّ كَلَامَكَ الذِي تَنَبَّأْتَ بِهِ فَيَرُدَّ آنِيَةَ بَيْتِ الرَّبِّ وَكُلَّ السَّبْيِ مِنْ بَابِلَ إِلَى هذَا المَوْضِعِ. وَل كِنِ ا سْمَعْ هذِهِ الكَلِمَةَ التِي أَتَكَلَّمُ أَنَا بِهَا فِي أُذُنَيْكَ وَفِي آذَانِ كُلِّ الشَّعْبِ. إِنَّ الأَنْبِيَاءَ الذِينَ كَانُوا قَبْلِي وَقَبْلَكَ مُنْذُ القَدِيمِ وَتَنَبَّأُوا عَلَى أَرَاضٍ كَثِيرَةٍ وَعَلَى مَمَالِكَ عَظِيمَةٍ بِالحَرْبِ وَالشَّرِّ وَالوَبَإِ. النَّبِيُّ الذِي تَنَبَّأَ بِالسَّلَامِ، فَعِنْدَ حُصُولِ كَلِمَةِ النَّبِيِّ عُرِفَ ذ لِكَ النَّبِيُّ أَنَّ الرَّبَّ قَدْ أَرْسَلَهُ حَقّاً .
هنا يطبّق النبي إرميا امتحانين ليبرهن صحة نبوة النبي: أولاً: ذكَّر سامعيه أن رسالته تتوافق مع وحي من سبقه من الأنبياء، وثانياً: أنهم سيعرفون النبي الصادق من الكذاب عندما تتحقق نبوة النبي الصادق.
وأخذ النبي الكاذب حننيا النير عن عنق النبي إرميا وكسره!
ولنتخيَّل ما حدث وقتها في أورشليم: قال إرميا إن الله سيدمر العاصمة ويُميت أهل البلاد بالجوع والوبأ والسيف، إلا إذا استسلموا للغازي نبوخذ نصر ملك بابل، فيسبيهم إلى بابل، ولكنه سيتركهم أحياء. وبعد 70 سنة سيُعيد الرب أولادهم إلى بلادهم الأصلية (إرميا 29:10). وواضح أن هذه الرسالة (في نظر ملك بني إسرائيل) خيانة عظمى للوطن! إنها رسالة استسلام.. ولكن من يريد أن يموت بسبب عصيانه لله؟
وفي الجانب الآخر نرى النبي الكاذب حننيا يقول إن الله سينجي بني إسرائيل، وعليه فمن الأفضل أن يبقوا في بلادهم سادةً أحراراً. فمن يريد أن يصبح عبداً! ثم أنهم لو استسلموا لبابل فربما يقتلهم ملك بني إسرائيل باعتبارهم خونة.
واختيار الشعب أن يتبعوا رسالة إرميا أو رسالة حننيا هو اختيار بين حياة أو موت. حرية أو عبودية. فكيف يقررون؟ إنهم لن يعرفوا إن كانوا سيموتون أو يحيون إلا بعد معركة ملكهم مع بابل: ينتصر فيها أو ينهزم. فإذا انهزم سيكون إرميا صادقاً، ولكن احتمال نجاتهم يكون قد انتهى. ولذلك أرسل الرب عن طريق إرميا النبي مزيداً من الوحي:
ثُمَّ صَارَ كَلَامُ الرَّبِّ إِلَى إِرْمِيَا النَّبِيِّ، بَعْدَ مَا كَسَرَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ النِّيرَ عَنْ عُنُقِ إِرْمِيَا النَّبِيِّ: ا ذْهَبْ وَقُلْ لِحَنَنِيَّا: هك ذَا قَالَ الرَّبُّ: قَدْ كَسَرْتَ أَنْيَارَ الخَشَبِ وَعَمِلْتَ عِوَضاً عَنْهَا أَنْيَاراً مِنْ حَدِيدٍ.. قَدْ جَعَلْتُ نِيراً مِنْ حَدِيدٍ عَلَى عُنُقِ كُلِّ هـ ؤُلَاءِ الشُّعُوبِ لِيَخْدِمُوا نَبُوخَذْنَصَّرَ مَلِكَ بَابِلَ، فَيَخْدِمُونَهُ.. . فَقَالَ إِرْمِيَا النَّبِيُّ لِحَنَنِيَّا النَّبِيِّ: ا سْمَعْ يَا حَنَنِيَّا. إِنَّ الرَّبَّ لَمْ يُرْسِلْكَ، وَأَنْتَ قَدْ جَعَلْتَ هذَا الشَّعْبَ يَتَّكِلُ عَلَى الكَذِبِ. لِذ لِكَ هك ذَا قَالَ الرَّبُّ: هَئَنَذَا طَارِدُكَ عَنْ وَجْهِ الأَرْضِ. هذِهِ السَّنَةَ تَمُوتُ لِأَنَّكَ تَكَلَّمْتَ بِعِصْيَانٍ عَلَى الرَّبِّ . فَمَاتَ حَنَنِيَّا النَّبِيُّ فِي تِلْكَ السَّنَةِ فِي الشَّهْرِ السَّابِعِ (إرميا 28:12-17).
وهكذا لم يطُل انتظار أهل أورشليم حتى عرفوا إجابة تساؤلهم، فقد تنبأ حننيا في الشهر الخامس ومات في الشهر السابع، كما قال إرميا النبي. وكان على الشعب أن يثق في نبوة إرميا ويستسلم لملك بابل.
وبعد خمس سنوات سقطت أورشليم في يد ملك بابل، وتحققت نبوة إرميا، ويقول في إرميا 39:6 و7:
فَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ بَنِي صِدْقِيَّا فِي رَبْلَةَ أَمَامَ عَيْنَيْهِ، وَقَتَلَ مَلِكُ بَابِلَ كُلَّ أَشْرَافِ يَهُوذَا. وَأَعْمَى عَيْنَيْ صِدْقِيَّا وَقَيَّدَهُ بِسَلَاسِلِ نُحَاسٍ لِيَأْتِيَ بِهِ إِلَى بَابِلَ .
- عدد الزيارات: 8064