الكتاب المقدس لم يُنسخ
النسخ لغة الإزالة والنقل، فيُقال: نسخت الشمس الظل أي أزالته. ونسخ الكتاب أي نقله عن كتاب آخر حرفاً بحرف. واصطلاحاً رفع الحكم بعد ثبوته. وقد قال المسلمون بجوازه، وأنكره اليهود، ولهذا فإننا نرى عامة المسلمين يقولون: انه على افتراض أن الكتاب المقدس لم يعتره تحريف، وأنه لا يزال صحيحاً حافظاً لقداسة وحيه، فإنه نُسخ بالقرآن.
وهذا ولا شك قول لا يسنده دليل ولا يقوم على إثباته برهان.
فالكلام في الأسفار الإلهية نوعان: إخباري وإنشائي. والإنشائي نوعان أيضاً: عقلي ووضعي. فالنسخ لا يصح وقوعه في الإخباري لأنه يستلزم تكذيب رواية مطابقة للواقع, ولا يمكن وقوعه في الإنشائي العقلي، لأنه يستدعي نقض المبادئ الطبيعية التي لا تقبل التغيير كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وأما الإنشائي الوضعي فالنسخ جائز فيه لإمكان تغيير الفرض بتغيُّر أحوال الزمان والمكان والأشخاص، كالأمر بإقامة الشعائر الدينية في أماكن معيّنة، والنهي عن بعض الأطعمة في أزمنة معلومة. ومن هذا القبيل كان نسخ العهد القديم بالعهد الجديد، فإن هذا النسخ لم ينف أمراً واقعاً، ولا نقض مبدأ طبيعياً، كما قال المسيح: ما جئت لأنقض بل لأكمل .
والعمدة في النسخ عند المسلمين هو النقل الصحيح والتاريخ الصادق لا الرأي والاجتهاد. ولهذا فلسنا ندري على أي سند يستندون في دعواهم بنسخ الكتاب المقدس بالقرآن، مع أن القرآن والأحاديث خالية من الإشارة إلى هذا. صحيح أن القرآن قد ذكر نسخاً، ولكنه نسخ آياته بعضها البعض، لا نسخه هو للكتاب المقدس. فهم مثلاً يقولون إن آية إِنَّ الّذِينَ آمَنُوا وَالّذينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (سورة المائدة 5: 69) .منسوخة بآية : وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (سورة آل عمران 3: 85) .ولو صحَّ أن المائدة 69 منسوخة بآل عمران 85 كما يقولون، فإننا ننزّه الله تعالى عما يترتب على نسخها، لأنه وهو الذي وسع علمه كل شيء المنزّه عن الخطأ المستلزم التصحيح بالتغيير والتبديل قد وعد من آمن به وباليوم الآخر وعمل صالحاً أن يجزيهم الجزاء الحسن، وأنه لا خوف عليهم ولا هم يحزنون، والله غير مخلف وعده ولو كره المبطلون, فالقول بنسخ هذه الآية لا يأنس إليه العقل، ولا يثبته المنطق لأنه لو ثبت نسخها فقد أخلف الله وعده بالأجر لِمن آمن به وعمل صالحاً، والله عزّ وجلّ منزّه عن الوقوع في مثل هذا العمل المشين.
كما يقولون إن آية : لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ (سورة البقرة 2: 256) منسوخة بقوله: قَاتِلُوا الّذينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ (سورة التوبة 9: 29) وآية : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ (سورة البقرة 2: 219) .منسوخة بقوله: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ (سورة المائدة 5: 90) وهكذا.
- عدد الزيارات: 13902