الإعلان عن صلب يهوذا عوضاً عن يسوع
قال كاتب الإنجيل المنسوب إلى برنابا في فصول 112: 13-17 و216-220 و221: 24 إن يسوع لم يُصلب، لأن الله ألقى صورته على يهوذا الذي كان يريد تسليمه لليهود، فصلبوه عوضاً عن يسوع. أما يسوع فقد رفعه الله إلى السماء. وهذا ما يقوله بعض المسلمين، بينما يقول غيرهم إن اليهود صلبوا يهوذا عوضاً عن المسيح لعدم تحقّقهم من هيئة كلٍ منهما، ويقول آخرون إن المسيح هو الذي صُلب، أو مات (لفترة اختلفوا في تحديد مداها)، ولذلك رأينا من الواجب أن ندرس فيما يلي هذه الآراء.
1 - آراء القائلين بإلقاء صورة المسيح على آخر، فصُلب بدله:
أ - لو فرضنا أن الله أراد أن ينقذ المسيح من أيدي اليهود، لأنقذه بوسيلةٍ تجعلهم يعرفون عظمته وسلطانه المطلق عليهم وعلى غيرهم. فكان (مثلاً) يرفعه حياً أمام عيونهم، أو يأخذه قسراً من بين أيديهم، أو يصيبهم بالعمى أو الشلل حتى لا يتمكنوا من القبض عليه .. ولكن إنقاذ الله للمسيح بإلقاء صورته على غيره لا يُشعر اليهود بشيء من عظمة الله أو سلطانه، بل بالعكس يجعلهم يعتقدون أنهم تمكنوا بحيلتهم وقوتهم من القبض على المسيح وصلبه. وبما أن الله لا يمكن أن يعمل عملاً يؤدّي إلى عكس الغرض منه، لذلك لا يمكن أن يكون قد رفع المسيح سراً إلى السماء، أو ألقى صورته على آخر ليُصلب عوضاً عنه.
ب - لو ألقى الله صورة المسيح على إنسان ما ليُصلب عوضاً عنه لكان هذا غشاً وخداعاً لا يلجأ إليهما إلا الضعيف المحتال الذي لا يستطيع القيام بأعماله جهراً. فلا يمكن أن يكون الله قد قام بهذا العمل على الإطلاق، لأنه بالإضافة إلى عظمته وقدرته اللتين لا حدَّ لهما، هو نور (1يوحنا 1: 5) والنور لا يعرف خداعاً أو مكراً.
2 - آراء القائلين بصلب يهوذا عوضاً عن المسيح لعدم التحقُّق من هيئة كلٍ منهما:
أ - كان المسيح معروفاً جيد المعرفة لكهنة اليهود الذين حاكموه وحكموا عليه، فلم يكن يعيش في كهف أو مغارة، بل وسط الناس، يسير معهم في الشوارع والحقول، ويذهب معهم إلى الهيكل والمجامع، وينادي بتعاليم ويقوم بمعجزات جذبت أنظارهم جميعاً. ثم إن الكهنة كانوا يلتفّون حوله من وقتٍ لآخر ليجادلوه في أمور الدين والدنيا، فكان يُجاوبهم (متى 23: 17-20) كما كان يوبخهم على ريائهم وشرورهم (متى 15: 17-20 و16: 1-4 ولوقا 11: 43 و44). فإذا أضفنا إلى ما تقدم أن شَعره كان مسترسلاً على كتفيه لأنه (بوصفه ابن الإِنسان) كان نذيراً للّه من بطن أمه (العدد 6: 17-20) اتضح لنا أنه لا يمكن أن يكون قد اختلط الأمر عليهم فصلبوا شخصاً عوضاً عنه، حتى لو كان هذا الشخص له وجهٌ يشبه وجه المسيح. لأن الناس وإن تشابهوا أحياناً في وجوههم، فإنهم يختلفون في قامتهم وبِنيتهم، وطريقة حديثهم، وغير ذلك من الأمور.
ب - التقى يهوذا بكهنة اليهود مرات متعددة، وكان يمكث معهم في كل مرة فترة طويلة، يتحدث معهم عن حقده على المسيح، ويساومهم على المبلغ الذي كان يريد أن يتقاضاه منهم لقاء تسليمه إليهم (متى 26: 15). وعندما قام بتنفيذ خطته هذه، أخذ معه إلى المسيح جنوداً يرافقهم بعض الكهنة والشيوخ. (وليس من المعقول أن هؤلاء جميعاً كانوا مصابين بالعمى، بل لا بد أنه كان بينهم أشخاص لهم عيون تبصر!) ثم سار بهم مسافة طويلة حتى خارج المدينة، حيث يقع البستان الذي اعتاد المسيح الذهاب إليه. الأمر الذي يدل على أن بعض هؤلاء الأشخاص، إن لم يكن كلهم، لا بد عرفوا على الأقل شيئاً عن قامة يهوذا وملامحه العامة، وطريقة حديثه ومشيته، وغير ذلك من الخصائص البارزة له، لا سيما وقد كانت معهم مصابيح ومشاعل، أضواؤها لا تلعب بها الرياح، ونورها قوي وهاج. والأولى كانت تُستعمل في إضاءة الميادين والموانئ، والثانية كانت تضيء ساحات السباق والمعسكرات. فإذا أضفنا إلى ذلك أن القمر وقتئذ كان بدراً، لأن عيد الفصح الذي قُبض فيه على المسيح يقع دائماً في يوم 14 من الشهر القمري (الخروج 12: 6) فيُستطاع التمييز بين شخص وآخر بسهولة، اتضح لنا أنه لا مجال للظن بأن اليهود قبضوا على يهوذا باعتبار أنه المسيح، حتى لو فرضنا جدلاً أنهم لم يكونوا على بيِّنة من هيئة المسيح وهيئة يهوذا من قبل، كما يقول أصحاب هذا الرأي.
ج - لم يُحاكم الشخص الذي قبض اليهود عليه أمام كهنتهم مرةً واحدةً في الليل، أو نُفذِّ فيه الصلب وقتئذ حتى كان يجوز الظن بأنه لم تكن لديهم فرصة كافية للتحقُّق من شخصيته، بل حوكم أمامهم ثلاث مرات، من بينها مرة في الصباح. وعدا ذلك حوكم في سبعة مواقف أمام بيلاطس في أورشليم (يوحنا 18: 28-19: 16) كما حوكم أمام هيرودس الملك في الجليل (لوقا 23: 8). والمحاكمتان الأخيرتان كانتا بحضور شيوخ اليهود، كما كانتا بعد المحاكمات التي قاموا بها بأنفسهم، وكانتا فيما بين الساعة السادسة والتاسعة صباحاً حسب التوقيت المعروف عندنا. ولذلك فهذا الشخص عُرض في ضوء النهار على كثيرٍ من الناس مرات متعددة وفي أماكن مختلفة، كما سار بينهم مسافات طويلة، فكان من الميسور لكهنة اليهود أن يتحقّقوا من شخصيته، إن كانوا في شك من جهتها من قبل.
د - أثناء القبض على المسيح ضرب بطرسُ ملخسَ، عبدَ رئيس الكهنة، بسيفه فقطع أذنه . فشفى المسيح الأذن المقطوعة، وأمر بطرس أن يردّ سيفه إلى غمده لأن الذين يأخذون السيف بالسيف يهلكون (متى 26: 52 ولوقا 22: 51). ولا يمكن لشبيه المسيح أن يجري مثل هذه المعجزة في مثل هذا الموقف.
ه - عندما كان الشخص المذكور معلّقاً على الصليب، طلب الغفران لصالبيه قائلا: يا أبتاه، اغفر لهم لأنهم لا يعلمون ماذا يفعلون (لوقا 23: 34). وقال للص الذي ندم على خطاياه: اليوم تكون معي في الفردوس (لوقا 23: 43). وبعد ذلك قال للعذراء مريم عن يوحنا الرسول: يا امرأة، هوذا ابنك . ثم قال ليوحنا: هوذا أمك ليعتني بها ويرعاها (يوحنا 19: 26 و27). وعباراتٌ مثل هذه لا يمكن أن تكون قد صدرت من شخص غير المسيح، كما لا يمكن أن يكون أتباعه قد أسندوها إليه ليثبتوا أنه هو الذي صُلب، لأنه لم يكن هناك وقتئذ شخص يشك في صلبه.
و - كانت العذراء مريم نفسها وبعض النساء قريباتها، ونساء أخريات كان المسيح قد شفاهنّ، مع يوحنا الرسول (أقرب التلاميذ إلى المسيح) بجوار الصليب، حتى أُنزل الشخص الذي كان معلّقاً عليه ودُفن في القبر. كما أن يوسف الرامي ونيقوديموس (اللذين كانا على صلة بالمسيح) هما اللذان كفَّنا هذا الشخص بأغلى العطور والأطياب، ووضعاه بعد ذلك بكل احترام في قبرٍ جديد محاط ببستان. وطبعاً لو لم يكونا على يقين تام من أنه المسيح بعينه، لكانوا قد تركوه لليهود والرومان ليتولّوا دفنه، كما كانوا يفعلون مع المحكوم عليهم بالقتل.
ز - أخيراً نقول إن الشخص الذي صُلب ومات قام من الأموات في اليوم الثالث، ورآه كثيرون وتحققوا من شخصيته بأدلة كثيرة. ولو كان هناك أي مجال للشك في خبر قيامته، لكان الرومان وكهنة اليهود قد بذلوا كل ما في وسعهم للقضاء عليه، لأنه كان يهدّد مراكزهم بالانهيار. بل ولَمَا قامت للمسيحية أية قائمة، إذ لا يمكن أن يقوم دين من الأديان على شخصٍ أعلن أنه سيقوم بعد موته، ولكنه لم يقُم. وبما أنه لو كان الشخص الذي صُلب هو يهوذا أو غيره من الناس، لكان قد ظل في قبره. إذاً فالشخص الذي صلبه اليهود كان هو المسيح بعينه، لأنه هو وحده رئيس الحياة (أعمال 3: 15) الذي لا يمكن أن يسود عليه الموت (أعمال 2: 26 ورومية 6: 9). أما الموت الذي وافاه فكان بإرادته وحده ليكون كفارة عن البشر. وطالما أنه كفّر عنهم، لم يكن من الممكن أن يظل في قبره مثل الناس.
3 - آراء المسلمين القائلين بصلب المسيح أو موته لفترة ما، وأسبابها:
(أ) آراء القائلين بصلب المسيح:
(1) قال الربيع بن أنس: إن الله توفى المسيح حين رفعه إلى السماء . وقال وهب: المسيح تُوفي ثلاث ساعات . وقال ابن إسحق: المسيح تُوفي سبع ساعات، ثم أحياه الله ورفعه (تفسير الإمام الرازي ج 2 ص457-458).
(2) وقال مالك: من المحتمل أن يكون المسيح قد مات حقيقةً وأنه سيحيا في آخر الزمان ويقتل الدجال (شرح الآبي والسنوسي ج 1 ص295).
(3) وقال إدريس: الله أمات المسيح ثلاثة أيام، ثم بعثه ورفعه (تفسير ابن كثير لآل عمران 3: 55).
(4) وقال أيضاً بصلب المسيح وموته: ابن حزم، وأبو علي الجباتي المعتزلي، وأتباع قاديان المنتشرون في إيران والهند وباكستان (نظرة عابرة على مزاعم من ينكر نزول عيسى ص 8 و30 و32). أما مرزا غلام أحمد رئيس طائفة الأحمدية (التي ينتمي إليها الداعية الإسلامي أحمد ديدات من جنوب أفريقيا) فقال: إن المسيح صُلب، لكن أتباعه أنزلوه عن الصليب قبل أن يموت .
(5) وقال إخوان الصفا في القرن الرابع للهجرة عن المسيح: وخرج في الغد وظهر للناس وجعل يدعوهم ويعظهم حتى أُخذ وحُمل إلى ملك إسرائيل، فأمر بصلبه. فصُلب وسُمِّرت يداه على خشبة الصليب، وبقي مصلوباً من ضحوة النهار إلى العصر. وطلب الماء، فسُقي الخل. وبعد ذلك طُعن بالحربة ودُفن مكان الخشبة، ووُكل بالقبر أربعون نفراً، وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه. ثم اجتمع هؤلاء بعد ثلاثة أيام في الموضع الذي وعدهم أن يتراءى لهم فيه (أي بعد قيامته من الأموات) فرأوا تلك العلامة التي كانت بينه وبينهم. وفشا الخبر في بني إسرائيل أن المسيح لم يُقتل (رسائل إخوان الصفا ج 4 ص30). والسبب في هذا الخبر هو (طبعاً) أن من يُقتل يموت ولا يقوم، أما المسيح فقام بعد موته.
(6) وقال الشيخ أحمد بن يعقوب في القرن الثالث للهجرة في كتابه (تاريخ اليعقوبي ج 1 ص64) نقلاً عن إنجيل المسيحيين إنه لما طلب اليهود من بيلاطس أن يصلب المسيح، قال لهم: خذوه أنتم واصلبوه، وأما أنا فلا أجد عليه علة . فقالوا قد وجب عليه القتل لأنه قال إنه ابن الله . فأخرجه بيلاطس وقال لهم: خذوه أنتم واصلبوه . فأخذوا المسيح وأخرجوه وحمّلوه الخشبة التي صلبوه عليها.
(7) وقال الإمام محسن فاني في كتابه الدابستاني في القرن التاسع للهجرة: إنهعندما قبض اليهود على عيسى بصقوا على وجهه المبارك ولطموه. ثم أن بيلاطس، حاكم اليهود، جَلَده حتى أن جسمه من رأسه إلى قدمه صار واحداً... ولما رأى بيلاطس إصرار اليهود على صلب عيسى وقتله، قال: إني بريء من دم هذا الرجل، وأغسل يديَّ من دمه . فأجاب اليهود: دمه علينا وعلى أولادنا . ثم وضعوا الصليب على كتف عيسى، وساقوه للصلب (عن كتاب المسيح كما يراه المسلمون لصموئيل زويمر ص82).
(8) وقال شوقي (أمير الشعراء) مخاطباً المسيح في قصيدته الأندلس الجديدة :
عيسى! سبيلك رحمةٌ ومحبةٌ
في العالمين، وعصمةٌ وسلامُ
ما كنتَ سفَّاك الدماءِ، ولا امرأً
هان الضِّعافُ عليه والأيتامُ
يا حاملَ الآلامِ عن هذا الورى
كثُرت عليهِ باسمِك الآلامُ
خلطوا صليبَك والخناجرَ والمُدَى
كلٌّ أداةٌ للأذى وحِمامُ
(9) وقال الأستاذ علي محمود طه مخاطباً المسيح:
نسيَ القومُ وصاياك وضلّوا وأساءوا
وكما باعوك يا منقذُ، بِيعَ الأبرياءُ
يا قوياً لم يهنْ يوماً عليه الضعفاءُ
وضعيفاً، واسمُه يُصرَعُ منه الأقوياءُ
وأنا المسلم لا يُجحَدُ عندي الأنبياءُ
أنت في القرآنِ حبٌّ وجمالٌ ونقاءُ
عَجَبٌ فِديتك المُثلى وفي القولِ عزاءُ
ألهذا العالمِ الشرّيرِ؟ قد ضاع الفداءُ!
(جريدة الأهرام القاهرية - 25 ديسمبر 1942).
(10) وقال الشاعر والفنان المصري محمد نجيب سرور في ديوانه لزوم ما يلزم يتخيل حديثاً دار بين المسيح وتلاميذه، جعل عنوانه العشاء الأخير :
- غداً أكون على الصليب، أنا العريس!!
- نفديك بالدم يا معلم 00 بالنفوس 00
- لا تكذبوا، فلسوف يُسْلمني الذي منكم يشاركني الغُموس!!
أأنا أخونُكَ؟
- أنت قلت!
- وأنا؟
- ستنكرُني ثُلاثاً قبلما الديكُ يصيحْ
- إنّا لنُقسِم يا مسيحْ
- لا تُقسِموا 00 فغداً أكونُ على الصليبْ
وَغَداً لناظِرِهِ قريبْ!!
ب - الأسباب التي بنى عليها الأشخاص المذكورون آراءهم:
إذا استثنينا الشيخ أحمد بن يعقوب، والأشخاص السابق ذكرهم، في بندي (1 و4) بوصفهم مخدوعين أو متأثرين بالعقيدة المسيحية من جهة صلب المسيح (كما يقول البعض) فإن الباقين، كلهم أو بعضهم، يكونون قد قالوا بصلب المسيح أو موته لعدم موافقتهم على الرأيين الخاصين بصلب أحد الناس عوضاً عن المسيح، للأسباب التي ذكرناها أو لأسباب غيرها.
4 - أسباب اعتقاد المسيحيين بصلب المسيح:
أما المسيحيون فيبنون اعتقادهم بصلب المسيح على الأدلة الآتية:
أ - الأدلة الكتابية:
أعلن الكتاب المقدس، الذي أثبتنا صدقه في الجزء الأول من هذا الكتاب، صلب المسيح بكل جلاء ووضوح. فقد سجّلت البشائر حادثة صلبه بالتفصيل، كما أشارت إليها الرسائل أكثر من مائتي مرة عند الحديث عن محبة الله للخطاة، وغير ذلك من الموضوعات. فضلاً عن ذلك فإن أنبياء العهد القديم تنبأوا عن صلب المسيح نبوّات متعدّدة في عصور متفاوتة. وتدل القرائن على صدق ما ذكروه جميعاً.
ب - الأدلة التاريخية:
(1) أشار تلمود اليهود وكتبهم التاريخية القديمة والحديثة، وكذلك الكتب التي ألفها مؤرخو اليونان والرومان في القرنين الأول والثاني، إلى محاكمة المسيح وصلبه.
(2) هناك مؤلفات كثيرة لكتَّاب مسيحيين عاشوا في القرون الثلاثة الأولى مثل أكليمندس وأغناطيوس وبوليكاربوس وترتوليان وبابياس ويوستينوس ومثوديوس، تعلن أن المسيح رضي بآلام الصلب ليكون كفارة عن البشر أجمعين. وهذه الكتب محفوظة إلى الآن في المتاحف ودور الكتب الأوربية.
(3) هناك كتب دينية كُتبت بعد ظهور الإسلام بقرن من الزمان تعلن أن المسيح مات مصلوباً، أقربها كتاب صلاة يرجع إلى القرن الثامن، عثر عليه أساتذة من جامعة شيكاغو في ديسمبر (ك1) 1965 بمنطقة قصر الوز في بلاد النوبة (السودان). وقد جاء فيه أن المسيح خاطب الصليب قائلاً: أيها الصليب المقدس! سوف أصعد إليك. سوف يشنقونني فوقك. وسوف تكون شاهدي . (عن جريدة الأهرام القاهرية 26 ديسمبر (ك1) 1965).
(4) فضلاً عن ذلك، فإن التاريخ يسجل لنا أنه في سنة 325م عُقد في نيقية عاصمة بيثينية في آسيا الصغرى مجمع بأمر قسطنطين الأكبر، حضره 318 أسقفاً من جميع أنحاء العالم، وكثير من القسوس والعلماء أيضاً، لوضع قانون للإيمان المسيحي بمناسبة انتشار بدع الغنوطسيين وغيرهم، فتمّ وضعه في هذه السنة. ويقول مطلعه: بالحقيقة نؤمن بالهٍ واحد . وجاء فيه يسوع المسيح تأنس وصُلب عنا في عهد بيلاطس البنطي وتألم وقُبر، وقام من الأموات في اليوم الثالث كما في الكتب المقدسة . ولا يزال هذا القانون معروفاً لدى جميع المسيحيين على اختلاف طوائفهم.
ج - الأدلة الأثرية:
(1) اكتشف علماء فرنسيون صورة الحكم الذي أصدره بيلاطس البنطي بصلب المسيح، أثناء مرافقتهم الجيش الفرنسي في زحفه إلى إيطاليا سنة 1280م.
(2) كما اكتشف العلماء الألمان الرسالة التي أرسلها بيلاطس إلى طيباريوس قيصر، مبيّناً فيها الأسباب التي دعت إلى صلب المسيح، في روما سنة 1390م.
(3) هناك آثار متعددة من صور بالزيت وحفر على قطع من الخشب والحجر الرخام، يرجع تاريخها إلى القرنين الأول والثاني، تدل على أن اليهود صلبوا المسيح. وقد نقل الصور الفوتوغرافية لها كثير من العلماء. اقرأ مثلاً كتاب الاكتشافات الحديثة وصدق وقائع العهد الجديد، للسير وليم رمزي .
(4) القبر الذي دُفن المسيح فيه، موجود إلى الآن في أورشليم خالياً من جسده، ويزوره كل عام ملايين المسيحيين منذ القرون الأولى، مما يدل على أن المسيح مات ودُفن، وأنه قام بعد ذلك من الأموات، كما سجل الكتاب المقدس.
د - الأدلة العقلية:
(1) كان الصليب مكروهاً من جميع الناس قبل ظهور المسيحية، لأنه كان آلة الإعدام التي يُقتل عليها أشر المجرمين. لكن المسيحيين اعتادوا منذ القرون الأولى للمسيحية أن ينقشوا رسمه على أيديهم ومعابدهم، وعلى منازلهم ومقابرهم أيضاً، كما اعتاد ملوكهم أن يزيّنوا به تيجانهم وعروشهم، وما زالت بعض الدول تزيِّن به أعلامها، مما يدل على أن الصليب حمل منذ ذلك العهد فكرةً مجيدةً وثقة أكيدة بأن المسيح الذي اعتادوا أن ينقشوا رسم صليبه في كل مكان، هو فاديهم ومخلصهم الكريم.
(2) لم يكن الذين نادوا بصلب المسيح أعداء له (حتى كان يجوز الظن أنهم أرادوا التشهير به) بل هم تلاميذه الذين أحبوه وتركوا كل شيء وتبعوه. وإذا كان التلاميذ المخْلصون يكرمون معلّمهم، ويحاولون أن يُبعِدوا عنه كل ما يهين سمعته أو يحقّر من شأنه، فلا بد أن ما قاله تلاميذ المسيح عن صلبه قد حدث فعلاً أمام عيونهم.
(3) لو أن هؤلاء التلاميذ نالوا من وراء المناداة بصلب المسيح مالاً أو جاهاً، لكان من الجائز أيضاً الطعن في تاريخية الصليب بدعوى السعي وراء هذا أو ذاك، لكنهم بالعكس، لم يُقابَلوا إلا الهزء والسخرية والتهكم والازدراء. وبما أنه ليس من المعقول أن تختلق جماعة من الناس (لا سيما إذا كانت متباينة في السن والثقافة والطباع) أمراً لا حقيقة له، يتحمّلون في سبيله الآلام والاضطهادات، ومع ذلك يواظبون على المناداة به، فلا بد أن كل ما قاله تلاميذ المسيح عنه قد حدث فعلاً أمام عيونهم كما ذكرنا.
- عدد الزيارات: 21198