خطية لوط
الفصل السادس
أنكر المعترض الغير مؤمن وقوع الخطأ من ابنتي لوط، لما أسكرتا أباهما واضطجعتا معه، ولم يعلم باضطجاعهما ولا بقيامهما، وقال: إنها دسيسة في الكتب السماوية, وطلب الاستفهام عن الغرض من ذكر هذه القصة
وللرد نقول: لنوضح ظروف لوط وابنتيه:
كان لوط في الجبل، فتوهمت ابنتاه أنه سينقطع نسلهما لأن الله أهلك سدوم وعمورة بأهلهما، ففعلتا ما فعلتاه فالسُّكر هو سبب هذا الشر الفظيع، والرب أراد أن ينفرنا منه بالأمثلة التي تقشعر منها الأبدان والمعروف أنه إذا سكر الإنسان تاه عن الصواب، وكان والمجنون واحداً, قال أبو حنيفة: حدّ السُّكر أن يصير الإنسان لا يعرف السماء من الأرض، ولا الطول من العرض، ولا المرأة من الرجل , فلا عجب إذا لم يدر لوط بما فعله في حالة سكره لأنه لم يشعر بعمله ولا بشرِّه,
1 - ولقد أوقع السُّكر الصحابة في الكفر، وفي ضرب بعضهم بعضاً، فقد كانت الخمر جائزة أولًا يشربها أصحاب محمد في صدر الإسلام، فورد في البقرة 219 : يسألونك عن الخمر والميسر وقال المفسرون: نزلت هذه العبارة في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وجماعة من الأنصار أتوا محمداً فقالوا: يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر، فإنهما مَذْهبة للعقل مسلبَةً للمال, فنزلت هذه العبارة (الكشاف في تفسير البقرة 219), وقالوا إن أصل الخمر في اللغة الستر والتغطية، وسُمّيت الخمر لأنها تخامر العقل أي تخالطه، وقيل لأنها تستره وتغطيه وجملة القول إن المسلمين كانوا يشربونها في أول الإسلام وهي حلال لهم وصنع عبد الرحمن بن عوف طعاماً ودعى إليه ناساً من أصحاب محمد، فأطعمهم وسقاهم الخمر وحضرت صلاة المغرب فقدموا علي بن أبي طالب ليصلي لهم، فقرأ: قل يا أيها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف حرف لا , فكان ذلك سبباً في نزول: يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون فحرم محمد السُّكر في أوقات الصلوات, فكان الرجل يشربها بعد صلاة العِشاء فيُصبح وقد زال سكره، فيصلي الصبح, ويشربها بعد صلاة الصبح ، فيصحو وقت صلاة الظهر (الكشاف في تفسير البقرة 219 وأسباب النزول للسيوطي سبب نزول النساء 4:34),
2 - مما يدل على أن السكر كان السبب في كفاحهم ووقوع البغضاء بينهم، هو أن عتبان بن مالك أَقام وليمة ودعا رجالًا من المسلمين وفيهم سعد بن أبي وقاص، وكان قد شوى لهم رأس بعير، فأكلوا وشربوا الخمر حتى أخذت منهم، فافتخروا عند ذلك وانتسبوا وتناشدوا الأشعار، فأنشد سعد قصيدة فيها فخر قومه وهجاء الأنصار, فأخذ رجل من الأنصار لحْيَ البعير فضرب به رأس سعد فشجَّه, فانطلق سعد إلى النبي وشكى إليه الأنصاري، فقال عمر: اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ويُروى أيضاً أن حمزة بن عبد المطلب شرب الخمر يوماً وخرج فلقى رجلًا من الأنصار وبيده ناضح له، والأنصاري يتمثل ببيتين لكعب بن مالك يمدح قومه وهما:
جمعنا مع الإيواء نصراً وهجرة فلم يُر حيٌّ مثلنا في العشائر
فأحياؤنا من خير أحياء من مضى وأمواتنا من خيرِ أهلِ المقابر
فقال حمزة: أولئك المهاجرون وقال الأنصاري: بل نحن الأنصار فتنازعا، فجرد حمزة سيفه وعدا على الأنصاري، فهرب الأنصاري وترك ناضحه فقطعه حمزة, فجاءه الأنصاري مستعدياً إلى محمد، فأخبره بفعل حمزة، فغرم له محمد ناضحاً فقال عمر: بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت: يا أيها الذين آمنوا، إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة (المائدة 5:90 ، 91), ورووا أن قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا حتى ثملوا وعبث بعضهم ببعض، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول: فعل بي هذا فلان أخي , وكانوا إخوة ليست في قلوبهم ضغائن، فكان ذلك سبب تحريمها (الطبري في تفسير المائدة 90),
3 - حرمت التوراة السُّكر بالخمر من أول الأمر, قال سليمان الحكيم : لمن الويل، لمن الشقاوة، لمن المخاصمات، لمن الكرب، لمن الجروح بلا سبب، لمن ازمهرار العينين؟ للذين يدمنون الخمر، الذين يدخلون في طلب الشراب الممزوج, لا تنظر إلى الخمر إذا احمرَّت، حين تظهر حُبابها في الكأس وساغت مرقرقة, في الآخر تلسع كالحية وتلدغ كالأفعوان, عيناك تنظران الأجنبيات، وقلبك ينطق بأمور ملتوية، وتكون كمضطجع في قلب البحر، أو كمضطجع على رأس سارية, يقول: ضربوني ولم أتوجع، لقد لكأوني ولم أعرف! (الأمثال 23:29-35),
4 - فاذا وقع لوط في أقبح الخطايا، كان ذلك نتيجة السُّكر, على أن الأعمال بالنيات, والكتاب المقدس ناطق بأنه لم يدر بما فعل، والسكران يؤاخذ على سكره ولا يؤاخذ على ما يقترفه وهو سكران، فإن التكليف يسقط عنه,
فالسكران لا يدري ما فعل، ولكن إذا استفاق وجب عليه التوبة ولوط فعل ما فعله وهو لا يدري، ولما استفاق تاب وندم، وشهد له الكتاب المقدس بأنه كان باراً تقياً والمؤمن إذا وقع في خطيئة لا يهدأ باله إلا إذا تخلَّص منها، فخطيئته تكون مثل غبار أو قذى في عينه لا يرتاح إلا إذا خرج منها، بخلاف الشرير الذي يجد ارتياحاً ولذة في فجوره مثل قوم لوط، فلما أنذرهم المرة بعد الأخرى لم يكترثوا بنصيحته، ولم تؤثر فيهم مواعظه، فعاقبهم الله، وحافظ على هذا البار, وعلَّمنا بهذا المثال الامتناع عن السكر فانه يجرّس وينجس ويفلس ويوقع في الإشراك والهلاك,
5 - وقد نسب القرآن إلى لوطٍ عدم الاعتماد على الله، فقال إنه لما أتت الملائكة لوطاً بصورة رجال جمال الصورة، أراد قومه التعرُّض لهم، فقدم لهم بناته فلم يرضوا، فقال في عدد 80: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد (هود 11:80), وجواب لو محذوف، أي لقاتلتكم عن أبي هريرة قال رسول الله : يرحم الله لوطاً كان يأوي إلى ركن شديد يعني أن الركن الشديد هو الله، فنسبوا إليه عدم الاعتماد على الله (ابن كثير في تفسير هود 80),
- عدد الزيارات: 10173