سر التثليث
ترشيح: ينقسم الموجود إلى ثلاثة أقسام لا رابع لها: فهو إمّا حي ناطق كالإنسان، وإمّا حي غير ناطق كالحيوان والنبات، وإمّا غير حي وغير ناطق كالجماد، وأولها أشرفها من غير شك.
وكلنا يؤمن أن الله موجود، وأنه مبدع جميع هذه العوالم المختلفة. فيتحتم إذاً ما دام أن أشرف الموجود هو الحي الناطق أن يكون الله بجانب وجوده حياً ناطقاً. وإلا لكان الموجود الحي الناطق، وهو مخلوق الله، أفضل منه تعالى، فيما هو نفسه قد فضَّله به على المخلوقات. ولا بد أن تكون حياة الله ونطقه منه لا من غيره، وأن يكونا أزليين بأزليته، وإلا لكان مخلوقاً وهو الخالق وهذا محال. فالله موجود بذاته، حي بروحه، ناطق بكلمته.
وهذه الصفات جوهرية روحية في الله، وإلا لزم أن تلحقه الأعراض، وهذا أيضاً محال.
وهذا الإله، الأزلي الوجود والحياة والنطق، هو ما يعبَّر عنه في الديانة المسيحية بالثالوث الإلهي الأقدس، الواحد الذات والجوهر، غير المنقسم بوجه من الوجوه الفرضية، لأن وقوع القسمة في الروحي البسيط منفي منطقياً، فلا يتصور وجودها في أبسط الموجودات الروحية المجردة وأشرفها، وإنما تكون هذه القسمة في الخواص الإلهية، التي هي صفات الآب والابن والروح القدس. فوجوده عبارة عن صفة الأبوّة، ونطقه عبارة عن صفة البنوّة، وحياته عبارة عن صفة الانبثاق.
وهذه الصفات لا تقتضي ولادة جسدية يسبق بها الآب الابن، بل هي ولادة روحية، أزلية أبدية. فولادة الابن العجيبة من الآب وانبثاق الروح القدس، كمثل صدور الحرارة وانبثاق النور من لهب النار، فحيثما وُجد اللهب كان النور وكانت الحرارة. ولعل البعض يظنون أن اللهب هو علة وجود النور والحرارة، وظنهم هذا كان يمسي حقيقياً لو كان اللهب بمفرده ناراً، وكانت الحرارة بمفردها ناراً، وكان النور بمفرده ناراً. أما وأن اللهب والحرارة والنور نار واحدة فلن يستقيم القول، لأنها نار بجوهر واحد وخواص ثلاث، ولن يمكن إطلاق كلمة نار على أحد هذه الخواص إلا بشرط وجود الخاصتين الأخريين. فإذا قلنا إن أحد الأقانيم الإلهية هو الله، فإننا نقصد أن الأقنومين الآخرين ملازمان له، وأن كلا منهم مساوٍ للآخر في جوهره، له كل ما له في كل شيء، خلا الخاصية المتميّز بها: فالآب آب أبداً، والابن ابن منذ الأزل، والروح القدس منبثق انبثاقاً سرمدياً. فالقول بثلاثة أقانيم لا يعني القول بثلاثة آلهة، لأن تعدد الخواص والصفات لا يستلزم تعدد الذات، وإلا قلنا في المثل السابق بثلاثة نيران، وهذا محال.
ولزيادة الإيضاح نقول: هب أن لديك مثلثاً متساوي الأضلاع، نُقِشَ على كل ضلع منه حرف معيّن، وليكن ا، ب ، ج. فلو نظرت إلى هذا المثلث لوجدته واحداً، ولكنك إذا ميّزته بما نُقش على أضلاعه لما وسعك إلا أن تطلق على كل منها اسمه الخاص المتميّز به عن الضلعين الآخرين.
فنحن المسيحيّين نؤمن بإله واحد ضابط الكل خالق السموات والأرض، جوهر واحد، كلي الكمال، في ثلاث خواص ذاتية، أبانها المسيح وكشف عنها القناع.
ولسنا باعتقادنا أن الله تعالى جوهر نجعله كسائر الجواهر الموجودة عرضة للعرض، وهو تبارك وتعالى ليس مثله شيء، وإنما نعتقد أنه جل شأنه قائم بذاته فحسب، لأن الموجود نقيض المعدوم، وهو ما أدركته إحدى حواسنا أو ما تصورناه بالعقل وأمكن الإخبار عنه، وهو ينقسم إلى قسمين: جوهر وعرض.
فالجوهر كل قائم بذاته، غير مفتقر في قيامه إلى غيره، ولو أنه واقع تحت العوامل العرضية. فالإنسان مثلاً جوهر قابل للعرض لأنه واقع تحت نواميس التغيّر والتطور، فقد يكون جاهلاً ثم ينقلب عالماً. فإذا قلنا إن الله تعالى جوهر، لا نقصد أنّه جوهر كالجواهر المخلوقة، القابلة للعرض، بل نعني أنه قائم بذاته، لأن لله من معاني الأسماء ومدلول الصفات كمالاتها المطلقة، كما أن للمخلوق نقائصها.
وأما العرض فبعكس الجوهر، أعني أنّه الذي لا يقوم بذاته، بل يحتاج في قيامه إلى غيره كالعلم، فهو لا يقوم إلا بوجود العالم. وأنه سبحانه وتعالى منزّه عن أن يفتقر إلى غيره، وهو موجد الموجودات جميعها وعلى كل الجواهر والأعراض.
- عدد الزيارات: 12743