السؤال الأول - تأثير وجهة النظر التي يعتنقها الإنسان عن الله
تأثير وجهة النظر التي يعتنقها الإنسان عن الله
لوجهة النظر التي يعتنقها الإنسان عن الله تأثير فعال على كيانه وصفاته وحياته، وهذا التأثير يكيّف ويصيغ الحياة كلها. فإن كانت صورة الله كمنتقم جبار راسخة في اعتقاد إنسان، يُخشى أن يصبح شعار حياته القسوة والمحسوبية، واضطهاد من هم أضعف منه, فإذا أردت أن أرقى بحياتي إلى أجمل وأكمل مظاهرها، وجَب أن أفكر في ذلك الإله الذي أعلنه لي المسيح، أبينا الذي في السموات، بكل ما في الأبّوة السماوية من حب غني في الحنان والرحمة.
وكمسيحي أود أن أذكر لك بعض الصفات التي عرفتها في إلهي الذي أعبده بروحي:
1 - عرفتُ في إلهي القدرة على كل شيء: والفكرة عن قدرة الله في المسيحية قائمة على فكرتنا نحو مقصده الأسمى. وقد أعلن لي ولغيري أن قصده في الخليقة هو الإخاء والمحبة، وجعل كل الخلائق البشرية عائلة واحدة. وتنفيذ مثل هذا القصد يتطلب نوعاً من المقدرة وهي المحبة. وإذ أؤمن بأن الله قادر على كل شيء لا أتصور أن الله الذي جعل الإنسان حراً في اختياره يمكن أن يعود فيقيِّد هذه الحرية بحسب الهوى، فيفعل الإنسان ما لا يريده...
إنّ قدرة الله تتوازى مع محبته للإنسان والمحبة لا تتوفر عن طريق القهر والإرغام، بل عن طريق الأناة الطويلة، ولا عجب في ذلك فقد وُصف الله بطول الأناة والرأفة.
2 - عرفتُ في إلهي الحكمة: وإني أقرأ في كل صفحة من صفحات الطبيعة آيات حكمة الله المتناهية، فإن التلسكوب بما يكشف لي من النجوم والكواكب والس يارات الدائرة في الفلك والسائرة بسرعة مدهشة في فضاء لا نهائي، لا تحيد عن خط مدارها، تنبئني بحكمة الله. وكذلك المكروسكوب (المجهر( الذي يكشف لي الدقائق الصغيرة والذرات الدقيقة جداً، والتي لا تراها العين المجردة تنبئني بحكمة الله. وكذلك تعاقب الليل والنهار والفصول وما يجري خلالها ينبئني بحكمة الله. والمبادئ التي تتخلل الطبيعة مثل قدرة الحيوان والنبات على التكيف بالوسط الذي يعيش فيه تعلن لي إلهاً عظيماً هو مصدر الحكمة.
3 - عرفتُ في إلهي العدالة: لأني أشعر في داخلي بوازع يشاطرني فيه كل بني البشر، يتحداني ويؤنبني عند فعل الخطأ، ويحبّذ لي فعل الصواب. وبسبب هذا الوازع الداخلي، الذي يُسمى الضمير، أعرف أن الخالق الذي وهب الإنسان هذا الضمير، لا بد أن يكون عادلاً إلى منتهى حدود العدالة. وبهذا الضمير أصدّق إعلان الله عن يوم الدينونة الذي هو مقياس أبدي للعدالة، فيه يُثاب البر، ويُعاقب الإثم. وهذا الضمير يؤكد لي أن الله قدوس كامل يكره الخطية التي يبغضها ويحتقرها العنصر الطيب في نفسي، كما يؤكد لي أن الله مستعد أن يفعل كل شيء لمساعدة الإنسان وإعطائه الغلبة على الخطية عدوه الشرير الذي تسلل إلى الحياة البشرية بسبب إساءة استعمال الإنسان لحريته الأدبية واختياره الحر.
4 - عرفتُ في إلهي الرحمة: وقد ظهرت رحمته في يسوع المسيح الذي بذل نفسه فدية عن كثيرين. وقد عرفت من شهادة روحه القدوس في ضميري أن رحمته ليست الرحمة المنبعثة عن هوى في النفس، والتي تبدو من قاهر إزاء نخبة من محاسيبه، لأن المحسوبية والمحاباة من عمل الشيطان، وليست من عمل الله، فليس عند الله محاباة. بل رحمته منبعثة عن محبته لكل إنسان، وفقاً لقول الإنجيل: لِأَنَّهُ ه كَذَا أَحَبَّ اللّ هُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لَا يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الْأَبَدِيَّةُ (يوحنا 3:16(.
إنّ الله يحب كل إنسان خلقه، ومحبته تصبر على كل إنسان بلا استثناء حتى يصل الكل إلى كمال الغرض الذي خلقهم لأجله. وهذا الغرض في اعتقادي هو الشركة معه.
ورحمة الله تميّز بين الخاطئ وخطيته، فبقدر ما يكره الله الخطية يحب الخاطي ويديم له المراحم، وفقاً لقوله: مَحَبَّةً أَبَدِيَّةً أَحْبَبْتُكِ، مِنْ أَجْلِ ذ لِكَ أَدَمْتُ لَكِ الرَّحْمَةَ (إرميا 31:3(.
5 - عرفتُ في إلهي أباً حنوناً كثير الرأفة. فلأن عقولنا محدودة وبشرية لا يسعنا ابتكار اسم واحد نطلقه على الله. وليس أمامنا إلا أن نفكر فيه بحسب الاصطلاحات والتشبيهات البشرية وأسمائه المذكورة في الأسفار المقدسة. وأحَبُّ أسماء الله في المسيحية الآب لأن هذه اللفظة تنطوي على كل معاني المحبة.
وقد ظهر أروع مثال لهذه المحبة الأبوية في مَثَل الابن الضال الذي تكلم به الرب يسوع، والذي أوجزه بهذه العبارات: كان لإنسان ابنان، اجترأ أصغرهما بدافع الحرية المعطاة له أن يطالب بنصيبه في الميراث، ويذهب إلى كورة بعيدة. ولكن محبة الآب لم تضعُف أمام هذا العقوق ونكران الجميل، لأن الابن الضال كان محبوباً لديه. ومحبته قد تزايدت من جراء الآلام التي تجرَّعها ابنه في الغربة حيث عانى من الفاقة والذل بعد أن نفدت أمواله.
وكان قلب الآب خلواً من كل نقمة على الولد العاق، وكان ينتظر عودته بفارغ الصبر ليتخذ مكانته في الأسرة. ولهذا الغرض تحملت المحبة كل مدى الصبر وكل مدى الألم.
وخلاصة القول، إن الله في المسيحية هو الإله المحب لجميع البشر، ليس لاستحقاق فيهم،ولا لبر في أعمال عملوها بل بمقتضى محبته، التي حين تأمل الرسول الملهم يوحنا في أبعادها، قال: اَللّ هُ مَحَبَّةٌ، وَمَنْ يَثْبُتْ فِي الْمَحَبَّةِ يَثْبُتْ فِي اللّ هِ وَاللّ هُ فِيهِ (1 يوحنا 4:16(.
- عدد الزيارات: 17170