ظهور الله للبشر - كيفية ظهور الله للأنبياء، في العهد القديم
الفصل الثاني
كيفية ظهور الله للأنبياء، في العهد القديم
أولاً - ظهوره بهيئة غير منظورة
بما أن الله منزَّه عن الزمان والمكان، ولا يُرى في ذاته على الإطلاق، لأنه ليس له شكل أو أعضاء، كان من البديهي أنه عندما يعلن لنا ذاته أو مقاصده، أن يكون ذلك بطريقة غير منظورة، فيُسمعنا صوتاً دون أن نرى منه شيئاً. لذلك إذا رجعنا إلى الكتاب المقدس، وجدنا أنه كان يظهر في صوت دون شكل، كما ظهر لآدم (تكوين 3: 8) وصموئيل (1صموئيل 3: 4) وإشعياء وإرميا وغيرهما من الأنبياء. فقد قال موسى النبي لبني إسرائيل: وكلّمكم الرب من وسط النار، وأنتم سامعون صوت كلام، ولكن لم تروا صورة بل صوتاً... فاحتفظوا جداً لأنفسكم، فإنكم لم تروا صورة ما، يوم كلّمكم الرب في حوريب من وسط النار لئلا تفسدوا وتعملوا لأنفسكم تمثالاً منحوتاً، صورة مثال ما (تثنية 4: 12-16).
و النار رمز لقداسة الله، لأنه من هذه الناحية لا يستطيع الخاطئ أن يتوافق مع الله على الإطلاق (عبرانيين 10: 29)، وهي أيضاً رمز لقوته المطهّرة التي تقضي على كل شر في الناس وغير الناس (1كورنثوس 3: 13)، وهي كذلك رمز للآلام والضيقات، كما سيتبين فيما يلي من هذا الفصل.
والآن وقد عرفنا أن الله كان يظهر لبني اسرائيل في صوت أو كلام، لنسأل أنفسنا:
1 - هل كان من الممكن لبني إسرائيل أن يصدّقوا أن الله هو الذي كان يتكلّم أمامهم، لو أنه كان يُسمعهم صوتاً عادياً، في ظروف عادية، بدلاً من النار المرعبة التي كان يتكلم معهم منها؟
الجواب: أكبر الظن أنهم لم يكونوا ليصدقوا، لأنه ليس كل صوت لا يُعرف مصدره، يكون صادراً من الله.
2 - هل يتوافق مع عطف الله على البشر من جهة، وضعف البشر وقصورهم من جهة أخرى، أن يظهر لهم في نار، كلما أراد أن يعلن لهم ذاته أو مقاصده؟
الجواب: أكبر الظن أنه لا يفعل ذلك، لأن النار مرعبة ومخيفة، فقد استولى بسببها الفزع على بني إسرائيل، حتى أنهم لم يطيقوا أن تُزاد لهم كلمة خشية أن يموتوا، كما هال منظرها موسى النبي نفسه، حتى أنه ارتعب وارتعد (عبرانيين 12: 19-21، تثنية 18: 16). وبما أن الله لكماله لا يريد أن يرعبنا أو يخيفنا، بل أن يمنحنا سلاماً واطمئناناً، كان من البديهي أن يكلّمنا في جو هادئ لا يُرعب أو يُخيف.
3 - قد يسأل سائل: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا كان الله يظهر في نار لبني إسرائيل؟
الجواب: أكبر الظن أنه كان يظهر لهم في نار، لأنهم كانوا وقتئذ شعباً بدائياً، والشعب البدائي لا يفهم الواجب عليه بصوت النعمة بقدر ما يفهمه بصوت القوة. ولكن عندما يسمو روحياً، يستطيع أن يفهم النعمة ويفيد منها، إذا وجد نفسه عاجزاً عن القيام بالواجب عليه من تلقاء نفسه. فالنعمة لا تتجلى للذين لا يعرفون الواجب عليهم، بل للذين يعرفونه، ويشعرون بعجزهم عن أدائه، من تلقاء أنفسهم.
4 - هل يتوافق مع محبة الله للبشر، أن يقتصر في معاملته معهم على الظهور لهم في كلام يُسمعهم إياه؟
الجواب: أكبر الظن أنه لا يقتصر على ذلك، لأنه من شأن المحب أن يُفسح المجال أمام من يحبهم، ليقتربوا منه ويتوافقوا معه. وإذا كان الأمر كذلك، كان من البديهي أن يظهر لهم في هيئة واضحة يمكنهم إدراكها، وعن طريقها يمكنهم الاتصال به والتوافق معه. وبما أننا لا نستطيع أن نتصل أو نتوافق إلا مع إنسان نظيرنا، لأننا لم نألف العيش إلا معه، ولا نفهم إلا لغته، كان من البديهي أن يتنازل الله ويظهر لنا، أو لأكثر الناس استعداداً منا للاتصال به، في هيئة إنسانية أو قريبة من الإنسانية. لذلك لا غرابة إذا طالعنا الكتاب المقدس في مواضع أخرى منه، بأنه كان يظهر أيضاً للأنبياء والقديسين، تارة في هيئة ملاك، و أخرى في هيئة إنسان، كما يتضح فيما يلي:
ثانياً - ظهوره بهيئة منظورة
1 - عندما كانت هاجر في البرية، قيل بالوحي إنه ظهر لها ملاك الله، وقال لها: تكثيراً أُكثِّر نسلك فدعت اسم الرب الذي تكلّم معها أنت إيل رئي أي أنت إله رؤية أو بتعبير آخر أنت إله حقيقي يمكن رؤيته (تكوين 16: 10-13).
وكلمة الرب هنا، ترد في الأصل العبري يهوه أي الكائن بذاته وهو اسم الجلالة الذي يتفرد به، ولذلك قال لهاجر: تكثيراً أكثّر نسلك بينما لو كان ملاكاً عادياً، لكان قد قال لها مثلاً: الرب يكثر نسلك تكثيراً .
2 - وعندما كان إبراهيم الخليل جالساً مرة عند باب خيمته، رأى ثلاثة رجال واقفين، فركض إليهم وتحدَّث معهم. فاتضح له أثناء الحديث أن اثنين منهما كانا ملاكين، وأن الثالث كان هو الرب نفسه. وقد تحقق ابراهيم من شخصية الثالث هذا تحقّقاً كاملاً، ولذلك كان يدعوه تارة المولى وتارة أخرى ديَّان كل الأرض (تكوين 18: 25 و 27). كما قيل بالوحي عن هذا الشخص في خمس آيات متتالية إنه الرب يهوه (تكوين 18: 13، 17، 20، 26، 33). وعندما أمسك ابراهيم السكين بعد ذلك ببضع سنين، ليذبح ابنه اسحق، قيل بالوحي إن ملاك الرب ناداه: لا تفعل به شيئاً... فدعا ابراهيم اسم ذلك الموضع يهوه يرأه ، أي الرب يرى (تكوين 22: 11-14).
3 - وعندما كان يعقوب في بيت خاله لابان، قيل بالوحي إن ملاك الله قال له: ... أنا إله بيت إيل (تكوين 31: 11-13). وبعد ثلاث عشرة سنة بنى يعقوب مذبحاً للرب، وقيل بالوحي إنه دعا المكان إيل بيت إيل، لأن هناك ظهر له الله (تكوين 35: 7). وإيل كلمة عبرية معناها الله .
4 - وعندما كان موسى يرعى غنماً في البرية، قيل بالوحي إن ملاك الرب ظهر له بلهيب نار من وسط عليّقة. ولما دنا موسى إليها ليراها، قيل بالوحي: فلما رأى الرب أنه مال لينظر، ناداه الله: أنا إله أبيك، إله ابراهيم وإله اسحق وإله يعقوب (خروج 3: 4، 6، 15).
والعلّيقة نبات متسلق أو متعلق، يعتمد في نموه أو تمدده على الأشجار أو الجدران التي يتسلق عليها أو يتعلق بها، وهي لذلك أنسب رمز لضعف اليهود في أرض الفراعنة، وحاجتهم الماسة وقتئذ إلى معونة الرب لهم. وعدم احتراق العلّيقة التي رآها موسى، على الرغم من النيران التي كانت تحيط بها، إشارة إلى حفظ الله لبني إسرائيل من الفناء بيد فرعون.
5 - وعند خروج بني إسرائيل من مصر، قيل بالوحي وكان الرب يهوه يسير أمامهم (خروج 13: 21)، ولما اقترب فرعون بجيوشه منهم قيل بالوحي: فانتقل ملاك الله السائر أمام عسكر اسرائيل، وسار وراءهم (خروج 14: 19).
6 - ولما ذهب منوح مع زوجته مرة إلى حقله، رأى إنساناً، فسأله عن اسمه، فأجابه: لماذا تسأل عن اسمي وهو عجيب! . ويتبيَّن في الفصل التالي أنه كان أقنوم الابن قبل ظهوره للعالم. وهذا الأقنوم، كما نعلم، عجيب في كل شيء: فهو غير المنظور والمنظور، وهو غير المتحيّز بحيزٍ ويظهر في حيزٍ، وهو الله وابن الله معاً، وهو ابن الله وابن الإنسان أيضاً. فضلاً عن ذلك فهو عجيب في تجسده، وعجيب في حياته على الأرض، وعجيب في موته، وعجيب في قيامته، وعجيب ... وعجيب ... كما ذكرنا في الباب الثالث من كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته .
وعندما تجلَّت لمنوح حقيقة هذا الإنسان، أثناء صعوده إلى السماء، سقط هو وزوجته على وجهيهما إلى الأرض، ثم قال لها: نموت موتاً، لأننا قد رأينا الله (قضاة 13).
(منوح هو أبو شمشون، وقد ظهر له الرب قبل ولادة ابنه هذا لينبئه بولادته، ويعطيه بعض التعليمات الخاصة بتربيته، ومن أهمها عدم إعطائه مسكراً).
مما تقدم، يتضح لنا أن الذي كان يظهر للأنبياء، في هيئة ملاك تارة، وفي هيئة إنسان تارة أخرى، ليعلن لهم في شخصه ذات الله ومقاصده، وكان يُدعى الملاك بال التعريف، أو ملاك العهد . ولم يكن في الواقع ملاكاً أو إنساناً، بل كان هو الرب يهوه نفسه، متنازلاً في هيئة منظورة، هذا طبعاً ما لم يكن قد اتضح من حديثه، أنه ميخائيل أو جبرائيل، أو ملاك آخر. وذلك للأسباب الآتية:
1 - إنه كان يعلن لمن يظهر لهم، أنه يهوه والله ، وان الأنبياء أيضاً كانوا يعلنون أنه يهوه والله كما كانوا يعلنون في مواضع أخرى أنه حضرة الله و وجه الرب . و حضرة الله و وجه الرب ، ليسا شيئاً سوى ذات الله أو الرب ، أو بتعبير أدق ليسا شيئاً سوى الله أو الرب في حالة الظهور. (تثنية 4: 37، خروج 14: 24 و33: 14 و16، عدد 6: 24 و 25، مزمور 139: 7).
2 - إن الأعمال التي كان يقوم بها كالرعاية والهداية والخلاص، ومنح النعم والبركات، تدل على أنه كان هو الله بعينه. لأنه لا يمكن أن يقوم بهذه الأعمال كائن سواه.
3 - إن كلمة الملاك أو ملاك الرب ، وردت في الكتاب المقدس مرادفاً لاسم الرب أو الله . فقد قال زكريا النبي: مثل الله، مثل ملاك الرب (زكريا 12: 8)، وقال الوحي عن يعقوب: جاهد مع الله، جاهد مع الملاك (هوشع 12: 3 و 4). وقال يعقوب عندما بارك ابني يوسف: الله الذي رعاني، الملاك الذي خلصني، يبارك الغلامين (تكوين 48: 15 و16) لأنه لم يكن في ذاته ملاكاً من ملائكة الله، بل كان، كما سبقت الإشارة، هو أقنوم الابن. ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن الترجوم اليهودي قد أطلق على ملاك يهوه أو ملاك الرب اسم شكينا ، وهي إحدى الكلمات العزيزة لدى المؤمنين قاطبة، ومعناها سكنى الله أو حضوره . ويستنتج من الترجوم أن شكينا ، مثل ممرا أو كلمة الله ، لا يراد بها مجرد معنى بل ذات. وكانت تُطلق في الأصل على حلول مجد الرب بين الكروبين (وهما تمثالا الملاكين، اللذان كانا على غطاء التابوت في قدس الأقداس - خروج 37: 6-9). وهذا الحلول، كان في الواقع مثالاً لما كان عتيداً أن يقوم به أقنوم الابن في الجسد على الأرض وقتاً ما، وفي الروح لجميع المؤمنين الحقيقيين إلى الأبد. فقد قال الوحي عن هذا الأقنوم: والكلمة صار جسداً وحلّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب، مملوءاً نعمة وحقاً (يوحنا 1: 14، إقرأ أيضاً يوحنا 14: 23، ومتى 18: 19).
وكان العرب يعرفون شيئاً عن شكينا ، وكانوا ينطقونها سكينة (كما هو الحال في جميع الكلمات العبرية، التي بها حرف ش ). والسكينة، وإن كانت لغة هي الهدوء والطمأنينة، إلا انها أيضاً كما جاء في (قاموس المحيط ج4 ص 237)، شيء كان له رأس من زبرجد وياقوت، وله جناحان . وهذا الوصف ينطبق إلى حد كبير على الكروب أو الملاك. وقد وردت هذه الكلمة عينها في (سورة البقرة 248)، فقيل إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة . وقد ذهب علماء الدين، كما يقول الطبري إلى أن السكينة لها وجه إنسان ثم هي ريح هفافة ، وهذا الوصف يمكن أن ينطبق على الكروب أو الملاك. أو أنها الرحمة والوقار . والرحمة يمكن أن تكون اسم غطاء التابوت، الذي كان يوجد عليه الكروبان، والوقار يمكن أن يكون وصفاً للحالة التي كانا يبدوان بها (إقرأ مثلاً سفر الخروج 25: 1-22). ومما تجدر ملاحظته أن القديس أثناسيوس، الذي عاش في القرن الرابع، قد وصف التابوت بأنه تابوت السكينة قاصداً بذلك أن التابوت هو رمز لسكنى الله مع شعبه (1صم 5: 6، 2صم 6). وهذا التابوت، كما يتضح لكل من درس التوراة ورموزها، كان رمزاً للمسيح، ليس فقط من جهة حلوله بلاهوته وسط المؤمنين به، بل أيضاً من جهات كثيرة خاصة بذاته وصفاته وأعماله.
وقد يسأل بعض الناس: إذا كان الأمر كذلك، فلماذا يبدو من بعض الآيات الأخرى أن ملاك يهوه هو كائن غير يهوه ؟
الجواب: مرّ بنا أن ملاك يهوه هو أقنوم الابن، الذي إذا نظرنا إليه من حيث الأقنومية، هو غير الآب والروح القدس. ولكن إذ نظرنا إليه من حيث الجوهر، فهو واحد مع هذين الأقنومين في اللاهوت بكل خصائصه وصفاته، كما يتضح من الآيات المذكورة أعلاه. ولذلك فهو من الناحية الواحدة ملاك يهوه ، ومن الناحية الأخرى هو يهوه بعينه. كما أنه من جهة الناسوت، الذي اتخذه في العهد الجديد، (والذي كان الوحي يعلن في العهد القديم أنه مزمع أن يتخذه) هو ابن الإنسان . ومن جهة اللاهوت هو ابن الله الواحد مع الأقنومين الآخرين في اللاهوت - ونظراً لأننا سنتحدث عن هذه الحقيقة بالتفصيل في الفصول المقبلة، نكتفي هنا بهذه الملاحظة.
4 - كلمة ملاك ليست في الأصل اسماً للمخلوق الذي يُعرف بهذا الاسم، بل إنها اسم للمهمة التي يقوم بها، وهي تبليغ الرسائل . فالاصطلاح ملاك الرب معناه حسب الأصل المبلِّغ لرسائل الرب . ولما كان الرب هو خير من يقوم بتبليغ رسائله (لأن كل ما عداه محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن إعلاناً كاملاً، ذات أو مقاصد غير المحدود) لذلك يحق أن يسمَّى الرب من جهة ظهوره لتبليغ رسائله ب- ملاك الرب بمعنى المعلن لمقاصده أو المعلن لذاته ، أو بالحري بمعنى ذاته معلناً أو متجلياً لأنه لا يعلن ذات الله سوى الله، إذ أن كل ما عداه محدود، والمحدود لا يستطيع أن يعلن غير المحدود، كما ذكرنا.
- عدد الزيارات: 30062