ظهور الله في الجسد
الباب الثاني
ظهور الله في الجسد
في هذا الباب نرى
1 - نبوات العهد القديم، والأدلة على صدقها
2- شهادة العهد الجديد، والأدلة على صدقها
3 - كيفية اتحاد اللاهوت بالناسوت.
الفصل الأول
نبوات العهد القديم، والأدلة على صدقها
أولاً - النبوات
لما كان ظهور الله في الجسد، مع توافقه مع كماله، ومع حاجة البشرية الماسة إليه، يسمو فوق العقل والإدراك، رأى الله بحكمته أن يوحي إلى أنبيائه للتنبؤ عنه قبل حدوثه بمئات السنين، ليمهد للذين يشاهدون ظهوره في الجسد، أو يسمعون أنه ظهر فيه، سبيل الإيمان به والإفادة منه، دون تردد أو تأخّر. وفيما يلي أهم نبوات هؤلاء الأنبياء، وتعليق رسل العهد الجديد بالوحي عليها:
1 - سجَّل داود النبي سنة 1000 ق. م في مزمور 40: 6-8 خطاباً وجَّهه الابن بصفته الناسوتية التي كان عتيداً أن يظهر بها في العالم، إلى الله، جاء فيه: بذبيحة وتقدمة لم تُسرّ. أذنيَّ فتحْتَ. محرقة وذبيحة خطية لم تطلب. حينئذ قلت هأنذا جئت، (لأنه) بدرج الكتاب مكتوب عني: أن أفعل مشيئتك يا إلهي سُررت . وقد اقتبس هذه الآية كاتب الرسالة إلى العبرانيين سنة 70 م، فقال بالوحي: لا يمكن أن دم ثيران وتيوس يرفع خطايا. لذلك عند دخوله (المسيح) إلى العالم، يقول: ذبيحة وقرباناً لم ترد، لكن هيّأت لي جسداً، لأنه بمحرقات وذبائح للخطية لم تُسرّ. ثم قلت هأنذا أجيء، (لأنه) في درج الكتاب مكتوب عني، لأفعل مشيئتك يا الله (عبرانيين 10: 4-9).
إن الذبائح الحيوانية لا تصلح كفّارة عن الإنسان، إذ أن الكفّارة يجب ألا تقلّ قيمتها عن قيمة ما تكفّر عنه، وهذه الذبائح أقلّ في قيمتها من قيمة الإنسان كثيراً . كما أن جميع الأعمال الصالحة التي يمكن أن يقوم بها الإنسان، لا تصلح كفّارة عنه، لأنها مهما كثرت وعظمت فهي محدودة، والإساءة التي نتجت من خطاياه هي إساءة إلى حقوق غير محدودة، لأنها حقوق الله ذاته. و لا يمكن أن أشياء محدودة تكون كفّارة عن أمور غير محدودة. ولذلك فإن الله وحده هو الذي يستطيع أن يكفّر عن الإنسان، لأنه هو وحده الذي يعرف حقوقه غير المحدودة. (لزيادة الايضاح اقرأ كتاب قضية الغفران).
والعبارة أذنيَّ فتحت أو ثقبت ، هي اصطلاح ديني يُقصد به إعلان الطاعة الاختيارية الكاملة، ويرجع استعماله بين البشر بهذا المعنى إلى عصر موسى النبي. فقد جاء في سفر الخروج 21 أنه إذا اشترى يهوديٌ عبداً يهودياً، فست سنين يخدم، وفي السابعة يخرج حراً مجّاناً. لكن إن قال هذا العبد: أُحبّ سيدي، لا أخرج حراً ، يقرّبه سيده إلى قائمة الباب، ويثقب أذنه، فيخدمه العبد المذكور إلى الأبد. ولذلك فقول السيد المسيح، بصفته الناسوتية، لله: أذنيَّ ثقبت ، يدل على اتخاذه بمحض اختياره صورة العبد الكامل، الذي يحب الله محبة لا حدَّ لها، والذي ليست له رغبة سوى أن يحقق مقاصده تحقيقاً كاملاً. وهذه المقاصد هي إعلان محبته المطلقة للبشر، وتقريبهم إليه، وجَعْلهم في حالة التوافق معه إلى الأبد. ولا جدال في أنه لا يستطيع القيام بتحقيق المقاصد المذكورة سوى المسيح لأنه بوصفه أقنوم الكلمة الأزلي هو في ذاته المعلِن لله ولكل مقاصده. أما كل من عداه فمخلوق، والمخلوق محدود، والمحدود لا يستطيع أن يحقق أمراً من أمور غير المحدود. ولا جدال أيضاً في أن الوسيلة الوحيدة التي بها يحقق المسيح هذه المقاصد هي بالظهور في جسد مثل أجسادنا، أو بتعبير آخر في صورة عبد مثلنا، لأنه بدون هذه الوسيلة لا نستطيع نحن العبيد المحدودين أن ندرك محبة الله غير المحدودة، وبالتالي لا نستطيع التمتع بها أو الإفادة منها. ومما تجدر ملاحظته في هذه المناسبة، أننا إذا رجعنا إلى فلسفة ابن العربي وجدنا أن الاصطلاح العبد الكامل يرد فيها وصفاً للكائن الذي يدعى كلمة الله كما ذكر الكتاب المقدس من قبل في إشعياء 42: 1 و 19 وفيلبي 2: 6-8. وسنتحدث عن هذا الموضوع بالتفصيل في الباب الرابع.
ومجيء الكلمة إلى العالم، أو بالحري ظهوره فيه، لا يكون مدركاً إلا إذا كان في جسد يمكننا إدراكه، لأن الكلمة موجود بلاهوته في الكون منذ الأزل، ومع ذلك لم يستطع واحد من البشر أن يدرك به محبة الله المطلقة، قبل ظهوره في الجسد. ويقول جئتُ بصيغة الماضي، مع أنه لم يكن قد جاء بعد، لأن مجيئه إلى العالم كان مقرراً حدوثه في الأزل.
والدَّرْج هو ما يُكتب فيه، ويُراد ب- درج الكتاب التوراة، فقد أنبأت في كل سفر من أسفارها تقريباً أن المسيح سيظهر لإتمام مشيئة الله التي لم يستطع أحد إتمامها، وأنبأت بذلك قبل ظهوره على الأرض بمئات السنين. وقد جاء المسيح - الكلمة - ليعلن مشيئة الله وهي إعلان محبته المطلقة للناس، وإنقاذهم من خطاياهم وقصورهم الذاتي، ليستطيعوا التوافق مع الله والتمتع به.
ويخاطب المسيح الآب هنا بقوله: لأفعل مشيئتك يا الله . ولا يعتبر الله إله المسيح من جهة أقنوميته، لأن المسيح من هذه الجهة هو الله (إذ هو واحد مع الأقنومين الآخَريْن في اللاهوت). (أقرأ كتاب: الله ذاته ونوع وحدانيته)، بل من جهة ناسوته الذي كان عتيداً أن يأخذه، لأن المسيح من هذه الجهة، كان قد ارتضى أن يصير في شبه الناس (فيلبي 2: 7) لإتمام مقاصد الله الأزلية، كما ذكرنا.
وقيام الكلمة أو الابن بصفته الناسوتية بإتمام مشيئة الله، لم يكن رغماً عنه بل كان برضاه، ولم يكن برضاه فحسب، بل كان بسرور منه أيضاً، وهذا ما يتوافق مع كماله كل التوافق، وهذا ما يجعل لأعمال محبته الفدائية قيمة ثمينة في نظر العارفين بها.
2 - وقال إشعياء النبي قبل ظهور المسيح بسبعمائة وخمسين سنة: ها العذراء تحبل وتلد ابناً، وتدعو اسمه عمَّانوئيل (اشعياء 7: 14)، وقد اقتبس متى الرسول هذه الآية بالوحي، بعد المسيح بأربعين سنة تقريباً، فقال بعد تسجيله لحديث الملاك مع العذراء: وهذا كله ليتم ما قيل بالنبي القائل، هوذا العذراء تحبل وتلد ابناً وتدعو اسمه عمَّانوئيل، الذي تفسيره الله معنا (متى 1: 22 و 23).
وقد ادّعى دافيد ستروس أحد الملحدين في القرن التاسع عشر، أن الكلمة المترجمة العذراء في هذه الآية، معناها المرأة . فدفع ادعاءه جيمس أور العلامة البريطاني، والأستاذ دشيان أستاذ اللغة العبرية في جامعة أكسفورد، بأن هذه الكلمة هي في الأصل العبري علما أي غُلامة ، أو فتاة في سن الزواج ، أو بالحري عذراء .
وقد شهد علماء اللغة العبرية أن الكلمة المترجمة عذراء هنا هي نفس الكلمة المترجمة فتاة، للدلالة على بكورية رفقة، ومريم أخت موسى (تكوين 24: 43، خروج 2: 8). كما أن جمعها هو المترجم العذارى في (مزمور 68: 25، نشيد 1: 3، 6: 8). فضلاً عن ذلك فإن هذه الكلمة تُرجمت، بواسطة علماء اليهود أنفسهم، في الترجمة السبعينية بارثينوس أي عذراء اث هقلهى *هقفا ب اقهسفو؛ز 10 - والغُلامة والعذراء واحد في البكورية، والفرق الوحيد بينهما أن الأولى تكون صغيرة السن، أما الثانية فقد تكون صغيرة السن وقد تكون كبيرة. ولما كانت العذراء مريم، كما يتضح من التاريخ الديني صغيرة السن، كان من البديهي أن يصفها الوحي بكلمة غُلامة .
كما ادّعى بعض الناس أن هذه النبوة يقصد بها الإشارة إلى أن النبي إشعياء سينجب ولداً، لكن هذا الادعاء لا نصيب له من الصواب، للأسباب الآتية: (1) إن التي ستلد هذا الشخص عذراء، والشخص الوحيد الذي وُلد من عذراء هو المسيح، كما هو معلوم لدينا. (ب) ان اسم ابن إشعياء لم يكن عمَّانوئيل ، بل كان مهير شلال حاش بز ، كما يتضح من (اشعياء 8: 3). (ج) ان اسم عمَّانوئيل ينطبق على المسيح وحده، لأن معناه الله معنا أو الله الظاهر لنا ، والمسيح هو الله معنا، والله الظاهر لنا.
3 - وقال على لسان اشعياء النبي أيضاً: لأنه يولد لنا ولد، ونُعطى ابناً، وتكون الرياسة على كتفه، ويُدعى اسمه عجيباً، مشيراً، إلهاً قديراً، أباً أبدياً، رئيس السلام (اشعياء 9: 6 و 7). وقد تحققت هذه النبوة بحذافيرها في المسيح. فقبل ولادته كان الملاك قد قال للعذراء عنه: .... وابن العلي يُدعى، ولا يكون لملكه نهاية (لوقا 1: 32 و 33). وعند ولادته جاء ملاك وخاطب جمهوراً من الناس قائلاً: لا تخافوا فها أنا أبشّركم بفرح عظيم يكون لجميع الشعب، إنه وُلد لكم اليوم في مدينة داود، مخلّص هو المسيح الرب (لوقا 2: 11) وظهر بغتة مع هذا الملاك جمهور من الجند السماوي مسبحين الله وقائلين: المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرّة (لو 2: 13 و 14).
ومما تجدر الإشارة إليه في هذه المناسبة أن المسيح يُدعى ابن الله قبل الولادة من العذراء، وبعد الولادة منها. فيُدعى بهذا الاسم قبل ولادته منها، بوصفه الذي كان يعلن الله منذ الأزل، ويُدعى به بعد ولادته منها، بوصفه الذي يعلن الله للبشر في الزمان.
والصفات الواردة في إشعياء 9: 6، 7 تنطبق على المسيح وحده، فهو الذي له الرياسة المطلقة (رؤيا 19: 16)، وهو الذي له المشورة والتدبير (أمثال 8: 14)، وهو القادر على كل شيء (رؤيا 1: 8)، وهو أبو الأبدية الذي ليس لملكه نهاية (لوقا 1: 33)، وهو رئيس السلام، لأنه هو الذي يمنحنا السلام مع الله والسلام مع أنفسنا أيضاً، حتى وسط الشدائد والضيقات (يوحنا 14: 27، أفسس 2: 7-14، فيلبي 4: 7).
وتسبيحة الملائكة في لوقا 2: 14 تتوافق مع ميلاد المسيح كل التوافق، لأنه بظهوره أعلن محبة الله لنا وسروره بنا، على الرغم من عدم استحقاقنا لأي عطف أو محبة، فامتلأنا ابتهاجاً وسلاماً وانطلقنا تبعاً لذلك إلى تمجيده وإكرامه، كما انطلقت الملائكة من قبل إلى ذلك.
ثانياً - الأدلة على صدقها
وبالتأمل في نبوات التوراة السابق ذكرها، يتضح لنا أنه فضلاً عن كونها مدوَّنة بالوحي الإلهي، وقد أُشير إليها وعُلِّق عليها بواسطة رسل العهد الجديد بالوحي الإلهي كذلك، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها، فإن الأدلة العقلية أيضاً تثبت صدقها، أو بالحري صدق ظهور أقنوم الابن في الجسد، كما يتضح مما يلي:
1 - بما أن هذه النبوات ليست مسجَّلة في الإنجيل، بل مسجَّلة في التوراة التي يحتفظ بها اليهود إلى الوقت الحاضر من قبل الميلاد بمئات السنين، إذن لا سبيل للظن بأن رسل المسيح ابتدعوا موضوع ظهور الله في الجسد من عندياتهم. كما أنه لا سبيل للظن بأن شهادتهم عن ظهوره كانت نتيجة لاطلاعهم على التوراة واقتباسهم الآيات الخاصة به منها، لأنهم كيهود كانوا لا يصدقون أن المسيح يأتي في حالة التواضع، وأنه يُرفض ويُصلب. فليس هناك شك في أن شهادتهم عنه هي التي جاءت مطابقة للآيات السابق تسجيلها في التوراة عنه.
2 - وبما أن هذه النبوات لم تُكتب بواسطة أشخاص مجهولين، بل بواسطة داود وإشعياء، اللذين كانا من أشهر أنبياء الله المتمسكين بوحدانيته وتنزُّهه عن الزمان والمكان والجسم والصورة، وغير ذلك من الأعراض، إذن فمن المؤكد أنهما لم يكتباها بوحي من خواطرهم أو عواطفهم، بل كتباها بوحي من الله وحده.
3 - أخيراً، بما أن معنى هذه النبوات ليس عاماً، لأنه لا ينطبق إلا على شخص واحد يكون هو الله وإنساناً معاً، إذن لا شك في أنها قيلت عن المسيح وحده، كما يتضح من النبوات السابق ذكرها، وتعليق رسل العهد الجديد بالوحي عليها.
الفصل الثاني
شهادة العهد الجديد والأدلة على صدقها
أولاً - شهادته
فضلاً عن شهادة المسيح عن نفسه بأنه ابن الله (يوحنا 9: 35)، أو بالحري بأنه هو الله ظاهراً (أقرأ الباب الثالث من كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته ) فقد شهد رسله بالوحي، بعشرات الآيات عن هذه الحقيقة. وللاختصار نكتفي بما يأتي:
1 - قال بولس الرسول: ولكن لما جاء ملء الزمان أرسل الله ابنه مولوداً من امرأة، مولوداً تحت الناموس، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبنّي (غلاطية 4: 4 و5). وملء الزمان اصطلاح ديني، يُراد به الزمن المعيَّن عند الله، الذي تتم فيه مقاصده الأزلية. فالمسيح هو ابن الله قبل مجيئه إلى العالم، أو قبل ولادته من العذراء. ومع أنه فوق الناموس، إلا أنه رضي أن يُولد تحت الناموس، ليفتدينا نحن الذين بحكم مركزنا، كنا تحت الناموس، لأن مهمّة الفادي هي أن يضع نفسه موضع الذين يريد أن يفديهم، حتى تكون فديته حقيقية.
2 - وقال أيضاً: وبالإجماع عظيم هو سرّ التقوى، الله ظهر في الجسد، تبرر في الروح، تراءى لملائكة، كُرز به بين الأمم، أُومن به في العالم، رُفع في المجد (1تيموثاوس 3: 16).
3 - وقال كذلك: وإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم، اشترك هو أيضاً (أي الابن) كذلك فيهما، لكي يبيد بالموت، ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس (العبرانيين 2: 14) والأولاد هنا، هم المؤمنون بالله في العهد القديم.
ويُقصد بالموت هنا، موت المسيح فدية عن البشر، إتماماً لمقاصد اللاهوت الأزلية. وإبليس هو الذي بإغوائه حواء على ارتكاب الخطيئة، جلب عليها وعلى نسلها قضاء الموت، لأن أجرة الخطيئة هي الموت (رومية 6: 23)، ومن ثم قيل عنه إنه سلطان الموت .
4 - وقال يوحنا الرسول: والكلمة صار جسداً، وحلَّ بيننا، ورأينا مجده، مجداً كما لوحيد من الآب مملوءاً نعمة وحقاً (يوحنا 1: 14).
5 - وقال أيضاً: بهذا تعرفون روح الله: كل روح يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد، فهو من الله. وكل روح لا يعترف بيسوع المسيح أنه قد جاء في الجسد، فليس من الله (1يوحنا 4: 2 و 3).
ثانياً - الأدلة على صدقها:
بالتأمل في هذه الشهادات، يتضح لنا أنه فضلاً عن كونها مدوّنة بالوحي الإلهي، الأمر الذي لا يدع مجالاً للشك في صدقها، فإن الأدلة العقلية كذلك تثبت صدقها، كما يتبين مما يلي:
1 - بما أن رسل المسيح لم يكونوا من الوثنيين، الذين كانوا يؤمنون بتعدد الآلهة وتجسدها، بل كانوا من أتقياء اليهود، الذين يؤمنون إيماناً صادقاً بوحدانية الله وتنزّهه عن الزمان والمكان والجسم والصورة، وغير ذلك من الأعراض، إذن لا يمكن أن يكونوا قد سجَّلوا شهاداتهم هذه بوحي من خواطرهم أو عواطفهم، بل سجَّلوها بوحي من الله وحده. ولذلك ليس في تسجيل شهادتهم شُبهة التأثّر بالعقائد الوثنية إطلاقاً.
2 - وبما أنهم كانوا يختلفون فيما بينهم اختلافاً عظيماً، من جهة نشأتهم وعقلياتهم وظروفهم ومراكزهم الاجتماعية، إذن لا سبيل للظن بأنهم اتفقوا على ابتكار موضوع ظهور الله في الجسد، بل من المؤكد أنهم تلقّوه بإعلان من الله رأساً، لأن أسباب الاتفاق بينهم غير متوافرة.
3 - وبما أنهم بسبب مناداتهم بحقيقة ظهور الله في المسيح، كانوا يعرِّضون أنفسهم للاضطهادات والانتقادات القاسية، وبما أنه كلما كانت تُوجَّه ضدهم هذه وتلك، كانوا يزدادون مجاهرة بالمناداة بالحقيقة المذكورة، وبما أنه ليس من المعقول أن يخرج إنسان على العالم بموضوع يعلم قبل غيره أن لا نصيب له من الصواب، ورغم ما يحتمله في سبيله من الاضطهادات والانتقادات، يستمر في إذاعته والمجاهرة به، إذن لا سبيل للظن بأنهم ابتدعوا هذا الموضوع، بل من المؤكد أنهم تلقوه، بإعلان من الله رأساً، بل ودُفعوا أيضاً بقوته لإعلانه، لأنهم استطاعوا أن يستهينوا بكل ما كان يُوجَّه ضدهم من وسائل القهر الإيجابية والسلبية، لا بل واستطاعوا أن يرحّبوا بها ويطربوا لها (اعمال 5: 41)، الأمر الذي لم يكن من الممكن حدوثه، لو أنهم كانوا قد ابتدعوا هذا الموضوع، أو نقلوه عن دين من الأديان.
وقد شهد الأستاذ عباس محمود العقاد بصدق أقوال الرسل، فقال: ومن بدع (أهل) القرن العشرين، سهولة الاتهام كلما نظروا في تواريخ الأقدمين فوجدوا في كلامهم أنباء لا يسيغونها وصفات لا يشاهدونها ولا يعقلونها. ومن ذلك اتهامهم الرسل بالكذب فيما كانوا يثبتونه من أعاجيب العيان أو أعاجيب النقل. ولكننا نعتقد أن التاريخ الصحيح يأبى هذا الاتهام، لأنه أصعب تصديقاً من القول بأن أولئك الدعاة أبرياء من تعمّد الكذب والاختلاق. فشتّان ما بين عمل المؤمن الذي لا يبالي الموت تصديقاً لعقيدته وعمل المحتال الذي يكذب ويعلم أنه يكذب وأنه يدعو الناس إلى الأكاذيب. مثل هذا لا يُقْدم على الموت في سبيل عقيدة مدخولة، وهو أول من يعلم زيفها وخداعها. وهيهات أن يوجد بين الكذبة العامدين من يستبسل في نشر دينه كما استبسل الرسل المسيحيون. فاذا كان المؤلف الصادق من يأخذ بأقرب القولين إلى التصديق، فأقرب القولين إلى التصديق أن الرسل لم يكذبوا فيما رووه، وفيما قالوا إنهم رأوه، أو سمعوا ممن رآه (عبقرية المسيح ص 118 و119).
4 - أخيراً نقول إننا إذا رجعنا إلى تاريخ علاقة الرسل بالمسيح، وجدنا أنهم لم يجرؤوا في أول الأمر على الاعتراف بأنه هو الله، لأنهم كيهود كانوا يعلمون تمام العلم أن الاعتراف بأن إنساناً هو الله يُعتبر تجديفاً يستحق الرجم في الحال (تثنية 13: 10). ولأنهم كيهود أيضاً، كانوا يستبعدون أن يظهر الله في هيئة إنسان. نعم كانوا ينتظرون المسيّا ، لكن المسيّا بالنسبة إلى أفكارهم التي توارثوها عن أجدادهم، لم يكن سوى رسول ممتاز يأتيهم من عند الله، وليس هو ذات الله.
ولكن بعد ما عاشوا مع المسيح زمناً طويلاً، شاهدوا فيه تصرفاته وأعماله في كل ناحية من نواحي الحياة، أدركوا أنه لم يكن إنساناً عادياً، فأخذوا يفكرون في شخصيته ويجتهدون في الكشف عن حقيقتها. فقالوا مرة إنه ملك إسرائيل مع أنه كان فقيراً وبعيداً عن أسباب السياسة والمُلك. وقالوا مرة أخرى إنه المسيح أو المسيّا ، مع أنه كان موضع استهزاء رجال الدين، الذين كانوا يُعتبرون أكثر الناس معرفة بصفات المسيح أو المسيّا. وقالوا مرة غيرها إنه ابن الله الحي قاصدين بذلك أنه الكائن الذي يشبه الله كل الشبه، مع أنه حسب الظاهر كان إنساناً فقيراً محتقراً من الناس ومرذولاً (اشعياء 53: 3).
وهكذا استمرّوا في الارتقاء بأفكارهم من مرتبة إلى مرتبة أعلى، ليروا أية مرتبة تتناسب مع ذاته وصفاته، حتى مات على الصليب موت العار، وحينئذ خامرهم الشك في حقيقته، واعتقدوا أنهم كانوا مخدوعين في الاعتراف بأنه ملك إسرائيل والمسيّا، وابن الله الحي. ولكن عندما رأوا أنه قام بعد ذلك من القبر، تبدّدت كل شكوكهم، وتحوّلت إلى يقين ما بعده يقين، من جهة شخصيته أو حقيقة ذاته. ولذلك صاح من كان اكثرهم شكاً فيه، مخاطباً إياه بالقول: ربي وإلهي وقد صادق المسيح على هذه الشهادة كل المصادقة، إذ أجابه بالقول: لأنك رأيتني يا توما آمنت. طوبى للذين آمنوا ولم يروا (يوحنا 20: 29). كما سجد باقي التلاميذ له، و قبل له المجد سجودهم، دون أن يبدي تردّداً أو نفوراً (لوقا 24: 52)، مما يدل على أنه اعتبر سجودهم له، أمراً يجب عليهم القيام به من نحوه، وأمراً يليق به قبوله منهم، ومن غيرهم أيضاً. أما الملاك أو الرسول، فلا يستطيع أن يقبل سجوداً من أحد. فجبرائيل رفض أن يسجد له يوحنا الرسول (رؤيا 19: 10، 22: 8)، وبطرس الرسول رفض أن يسجد له كرنيليوس قائد المئة (أعمال 10: 26).
أما قول توما إلهي فقد ورد في الأصل اليوناني مسبوقاً بأداة التعريف، مما يدلّ على أنه لا يُقصد بها ان المسيح إله فقط، كما يقول بعض الخوارج عن المسيحية، بل انه هو الله بعينه. وهذا هو عين الصواب، لأنه ليس هناك إله مع الله.
مما تقدم يتضح لنا أن الآيات الكتابية الخاصة بظهور الله في الجسد، ليست صادقة فحسب، وأن التلاميذ لم يُساقوا إلى كتابتها رغماً عنهم، لأن المسيح لم يفرض عليهم الاعتقاد بها فرضاً، ولا هم كتبوها دون فهم أو إدراك، لأن المسيح وإن كان قد أعلن لهم أنه ابن الله أو الله ظاهراً ، فقد ترك لهم الحرية ليختبروا هذه الحقيقة بأنفسهم. كما يتضح لنا كذلك أن التلاميذ لم يكونوا متسرّعين أو مخدوعين عندما دعوا المسيح الرب والإله، أو قدّموا له السجود الذي لا يصح تقديمه إلا لله، بل بالعكس كانوا حذرين كل الحذر ومدققين كل التدقيق، لأنهم لم يفعلوا ذلك إلا بعد اختبار طويل، لا سبيل إلى الشك في صدقه على الإطلاق. ولذلك استطاع بطرس أن يقول للمؤمنين في رسالته: لأننا لم نتبع خرافات مصنَّعة، إذ عرَّفْناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنّا معاينين عظمته (2بطرس 1: 16-18). واستطاع يوحنا الرسول أن يقول: الذي كان من البدء. الذي سمعناه. الذي رأيناه بعيوننا. الذي شاهدناه ولمسته أيدينا من جهة كلمة الحياة. فإن الحياة أُظهرت، وقد رأينا ونشهد ونخبركم بالحياة الأبدية التي كانت عند الآب، وأُظهرت لنا (1يوحنا 1: 1-3).
الفصل الثالث
كيفية اتحاد اللاهوت بالناسوت
اتحاد اللاهوت بالناسوت أمر يفوق العقل والإدراك، ونحن نؤمن بأنّ الكتاب المقدّس أعلن بآيات واضحة أن الله ظهر في الجسد. وهذه الآيات فضلاً عن كونها صادقة كل الصدق، فإن ظهور الله في الجسد، يتوافق مع ذات الله وصفاته كل التوافق، كما يتناسب مع حاجتنا نحن البشر كل التناسب. لكن لمجرد تقريب حقيقة إتحاد اللاهوت بالناسوت إلى عقول الذين يميلون إلى التشبيه بالمحسوسات، نأتي فيما يلي بما نعلمه عن كيفية إتحاد روح الإنسان بجسده، ثم نذكر بالمقابلة مع ذلك، الكيفية التي يمكن أن يكون قد تمَّ بها اتحاد اللاهوت بالناسوت، ولذلك نقول:
1 - روح الإنسان، مع أنها مختلفة عن جسده اختلافاً كلياً من جهة الجوهر والصفات والخصائص، ليست منفصلة عنه بل متحدة به.
2 - هذه الروح مع اتحادها بالجسد، يحتفظ كلٌّ منهما بخصائصه الطبيعية، فالروح هي الروح بكل خصائصها الروحية، والجسد هو الجسد بكل خصائصه الجسدية.
3 - مع احتفاظ كلٍّ منهما بخصائصه الطبيعية، تتكوّن من اتحادهما معاً ذات واحدة هي الإنسان.
4 - الإنسان وإن كان ذاتاً واحدة، له صفات وخصائص عنصرين مختلفين هما الروح والجسد.
وعلى ضوء هذه الحقائق نقول، إن اتحاد اللاهوت بالناسوت، كما تستطيع عقولنا أن تستنتج من الكتاب المقدَّس، يمكن أن يكون قد تمّ على النحو الآتي:
1 - اتخذ الابن لنفسه ناسوتاً خالياً من الخطيئة خلواً تاماً، لكن باتخاذه إياه:
(أ) لم يتقيَّد به كما تتقيَّد الروح البشرية بالجسد الخاص بها، بل ظل كما هو المنزَّه عن المكان والزمان، لأن الابن بصفته الأقنومية غير محدود، والنفس البشرية محدودة. وقد أظهر السيد المسيح بيان هذه الحقيقة، فأعلن أثناء وجوده بالجسد على الأرض أنه كان في نفس الوقت موجوداً (بلاهوته) في السماء، فقد قال لنيقوديموس أحد أئمة اليهود ليس أحد صعد إلى السماء، إلا الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في السماء (يوحنا 3: 13). أي أنه أثناء وجوده بالجسد على الأرض، كان في نفس هذا الوقت في السماء، وفي كل مكان أيضاً تبعاً لذلك. وهذا دليل على عدم تحيّزه بحيّز، ودليل أيضاً على وحدته الكاملة مع الأقنومين الآخرَيْن، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته . والإسلام يتفق معنا على أن وجود الله في مكان لا يمنع وجوده في مكان آخر في نفس الوقت، فقد جاء في سورة الزخرف 84 وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم .
(ب) لم ينفصل عن هذا الناسوت، كما تنفصل الروح البشرية عن الجسد المتحدة به وقتاً ما، بل ظل متحداً به أو بتعبير آخر واحداً معه. ولذلك فان اتحاد الابن بالناسوت، أو بتعبير آخر اتحاد اللاهوت بالناسوت، ليس مثل اتحاد الروح بالجسد، قابلاً للتفكك والانفصال، بل هو اتحاد كامل دائم، لا أثر للتفكك أو الانفصال فيه على الإطلاق.
2 - إنه مع اتحاد اللاهوت بالناسوت، قد احتفظ كلٌّ منهما بخصائصه، فلم يتحوَّل اللاهوت إلى ناسوت، ولم يتحوَّل الناسوت إلى لاهوت، ولم يتكوَّن من اتحادهما معاً كائن جديد تختلف خصائصه عن خصائص اللاهوت أو الناسوت، إذ أن اتحاد اللاهوت بالناسوت ليس هو امتزاج أحدهما بالآخر، بل هو وجودهما معاً في ذات واحدة بوحدة كاملة، دون اختلاط أو امتزاج أو تغيير، وذلك بعمل إلهي يفوق العقل والإدراك. ولذلك ظل اللاهوت هو اللاهوت بكل خصائصه، وظلَّ الناسوت هو الناسوت بكل خصائصه، دون أن يطرأ عليهما أو على أحدهما تغيير ما. ولذلك فإن اتحادهما معاً يختلف من هذه الناحية أيضاً عن اتحاد الروح بالجسد اختلافاً تاماً. لأن حالة الروح تؤثر على الجسد، وحالة الجسد تؤثر على الروح، فإذا ابتهجت الروح بأي خبر من الأخبار السارة شعر الجسد بالانتعاش والنشاط، وإذا أصابت الجسد علة من العلل، شعرت الروح بالخمول والاكتئاب.
3 - إن الناسوت وإن كان يختلف عن اللاهوت اختلافاً جوهرياً، إلا أنه لاتحادهما معاً في المسيح اتحاداً كاملاً، كان له المجد ذاتاً واحدة لا اثنتين: فهو ابن الله، وهو بعينه أيضاً ابن الإنسان.
4 - إن السيد المسيح، وإن كان واحداً، إلاَّ أنه لقيامه باللاهوت والناسوت معاً، كانت له صفات وخصائص كل منهما. فكانت له صفات وخصائص اللاهوت، كما كانت له أيضاً صفات وخصائص الناسوت، وطبعاً الناسوت الخالي من الخطيئة. فمن جهة اللاهوت، كان هو الله بجوهره غير المدرَك، الذي لا يتحيَّز بحيِّزٍ، ولا يتأثر بعَرَض، والمستغني بذاته عن كل شيء في الوجود.. ومن جهة الناسوت كان هو الانسان ذا الجسد المادي، الذي لا يوجد إلاَّ في مكان واحد في وقت واحد، والذي يحتاج إلى ما يحتاج إليه الإنسان، من طعام وشراب. (هذا مع العلم أن احتياج المسيح إلى الطعام والشراب كان اختيارياً، لأنه كان قد اتخذ الناسوت بمحض اختياره).
مما تقدم يتضح لنا أن اتحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح، لم يترتب عليه تأثّر اللاهوت بأي مؤثِّر، وفي الوقت نفسه هو اتحاد حقيقي كامل دائم. ولذلك عندما كان المسيح في بطن العذراء، وعندما كان عائشاً على الأرض، وعندما كان مدفوناً في القبر، كان لاهوته واحداً مع ناسوته بوحدة إلهية تفوق العقل والإدراك، لا بل وهو في مجده الآن، لا يزال لاهوته واحداً مع ناسوته، بمثل هذه الوحدة العجيبة.
هذا والذي فارق جسد المسيح عندما مات على الصليب، لم يكن لاهوته بل روحه الإنسانية، التي كانت عنصراً من عناصر ناسوته. أما لاهوته فقد ظل متحداً بجسده الممات كما بروحه المستودعة منه للآب (لوقا 23: 46)، لأن اللاهوت لا يتحيّز بحيّز ولا يتأثر بعَرَض، فوجوده في مكان لا يمنع وجوده في كل مكان آخر، في نفس الوقت.
والإنسان وإن انتقل إلى عالم الروح، لا يستطيع من تلقاء ذاته أن يدرك الله إدراكاً صحيحاً، لأن الإنسان سواء أكان في عالم المادة أم في عالم الروح، هو كائن محدود، والمحدود لا يستطيع أن يدرك شيئاً عن غير المحدود. وإذا كان الأمر كذلك، فإن الإنسان إن لم يدرك الله (في العالم الحاضر والأبدية معاً) في الابن المتأنس ، فلا يستطيع إدراكه على الإطلاق - هذا مع العلم بأن ناسوت المسيح، وهو في المجد الآن، ليس هو الناسوت المادي، بل الناسوت الروحي، الذي لا يحتاج إلى طعام أو شراب، أو غير ذلك من الحاجيات (لأنه لا يوجد في السماء مجال يدعو إلى الأكل والشرب، أو إلى ممارسة أي عمل من الأعمال الجسدية)، وهكذا ستكون أجساد القديسين، عند قيامتهم من بين الأموات، أجساداً روحية لا تأكل ولا تشرب، ولا تتزوج ولا تلهو (1كورنثوس 15: 42-58).
وقد أطلق علماء المسيحيين على اتحاد اللاهوت بالناسوت، اسم التجسُّد ، فالتجسّد إذن ليس هو تحوّل اللاهوت إلى ناسوت، أو تحيُّزه بحيِّز، أو تعرّضه لأي تطوّر أو تغيُّر، بل هو فقط وجوده مع الناسوت الذي اتخذه، في وحدة حقيقية، بعمل إلهي يفوق كل العقل والإدراك. ووجود مثل هذا لايتعارض مع ذات الله أو صفاته، بل بالعكس يتوافق كل التوافق.
- عدد الزيارات: 20678