Skip to main content

الله طرق إعلانه عن ذاته

الاعتراضات والرد عليها - الاعتراضات الدينية والرد عليها

الصفحة 3 من 3: الاعتراضات الدينية والرد عليها

الفصل الثاني
الاعتراضات الدينية والرد عليها

1 - لم يكن المسيح نبيّاً من أنبياء الله، حلّ فيه كما كان يحل بروحه في غيره من الأنبياء، لأنه ليس من المعقول أن يتجسّد الله بذاته .

الرد: (أ) لو كان المسيح مجرد نبي لكان قد وُلد مثل الأنبياء وعاش مثلهم، لكنه وُلد من عذراء، وعاش بلا خطيئة على الإطلاق، وبعد موته قام من بين الأموات وصعد إلى السموات، مخالفاً في ذلك جميع الأنبياء وغيرهم من الناس وسائر المخلوقات. ولذلك لا يعقل أنه كان نبيّاً من الأنبياء أو واحداً من الناس أو سائر المخلوقات.

(ب) أما عن تجسّد الله بذاته، وإن كان يفوق العقل والإدراك، لكنه لا يدعونا للشك من جهته، لأنه فضلاً عن توافقه مع محبة الله لنا وحاجتنا نحن البشر إليه، فقد أنبأت التوراة عنه قبل حدوثه بمئات السنين، كما شهد الإنجيل عنه بآيات واضحة كل الوضوح، وتدل جميع القرائن على أن نبوات التوراة وشهادة الإنجيل صادقة كل الصدق. أما من جهة قدرة الله على اتخاذ جسد له فليس موضع اعتراض، لأن الذي خلق العالم من لا شيء يستطيع أن يتّخذ لنفسه جسداً من عذراء لإتمام مقاصده السامية من نحو العالم الذي خلقه، لا سيما وأنه باتخاذه هذا الجسد لم يتحيَّز بحيِّز، أو ينحصر في مكان، الأمر الذي يتوافق مع كماله كل التوافق.

2 - لم تُكتب التوراة بالوحي، إنما كتبها أناس مجتهدون في حدود ثقافات وعقائد قديمة، فلم يكونوا إلا معبِّرين عن أمانيهم أو أماني غيرهم. وإذا سلَّمنا بأن التوراة كُتبت بالوحي، فإنها مع الإنجيل قد أصابهما التحريف من زمن بعيد، ولذلك لا يصح الاعتماد عليهما .

الرد: الأدلّة على صدق شهادة الكتاب المقدس لا تدع مجالاً للظن بأنه كُتب بوحي من خواطر الناس. أما الادعاء بأنه قد أصابه التحريف فلا يستند إلى أساس تاريخي أو ديني، فالتاريخ لا يذكر لنا في أي عصر من عصوره أنه قد حدث تحريف في الكتاب المقدس. والدين يشهد أن أقوال هذا الكتاب ثابتة إلى الأبد، فقد جاء به أن السماء والأرض تزولان، ولكن كلمة واحدة منه لا تزول (متى 5: 18).

فضلاً عن ذلك، فإن الإسلام مع اختلافه عن المسيحية في كثير من الموضوعات، قد شهد كثير من رجاله أن الكتاب المقدس لم يصبه تحريف ما، فقد قال البخاري: ليس أحد يزيل لفظ كتاب من كتب الله تعالى، ولكنهم (أي اليهود) يتأولونه على غير تأويله (نقلاً عن ضحى الإسلام ج1 ص328) أي أن الكتاب المقدس لم يعتره تحريف في ذاته. كل ما في الامر أن اليهود كانوا يفسرون آياته تفسيراً رأى أئمة المسلمين أنه لا يتفق مع المعنى الذي يفهمونه منها. وقال الإمام الرازي: إن التوراة قد طبقت مشارق الأرض ومغاربها ولا يعلم عدد نسخها إلا الله، ومن الممتنع أن يقع التواطؤ على التبديل والتغيير في جميع تلك النسخ، بحيث لا تبقى في الأرض نسخة إلا مبدَّلة مغيَّرة ، فبناءً على قولهما، يكون الإيمان والعقل معاً، يشهدان أن التوراة لم يصبها تحريف ما.

أما الخلاف الموجود بين القرآن والكتاب المقدس فلا يقوم دليلاً على أن الأخير قد أصابه التحريف، لأن هذا الخلاف كان موجوداً أثناء ظهور الاسلام، وقد أشار إليه القرآن ووقف إزاءه موقف المسالمة والاتفاق مع المسيحيين على الإيمان بإله واحد، فقد قال في سورة العنكبوت 46: ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن، إلا الذين ظلموا منهم، وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل اليكم، وإلهنا وإلهكم واحد، ونحن له مسلمون . وقال الزمخشري في تفسيره لهذه الآية: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ما حدّثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، وقولوا آمنا بالله وكتبه ورسله. فإن كان باطلاً لم تصدقوهم، وإن كان حقاً لم تكذبوهم (ج3 ص7) - وهذا دليل على أن الكتاب المقدس يحوي إعلانات لا يستطيع العقل أن يحكم فيها، هي الاعلانات الخاصة بذات الله. ولكن شكراً له، لأنه وإن كان العقل لا يستطيع أن يحكم فيها إلا أنه لا يستطيع أن ينقضها، لأنها ليست ضده بل أسمى من إدراكه، الأمر الذي يتوافق مع ذات الله كل التوافق، لأن هذه لا يمكن للعقل أن يضعها موضع الفحص والبحث.

3 - كان الأنبياء يقومون بإعلان الله للبشر وهدايتهم إليه، ولذلك لم يكن هناك داعٍ لأن يقوم تعالى بمهمة كان يقوم بها نفر من عبيده .

الرد: لم يعلن الأنبياء للبشر ذات الله بل قاموا فقط بتبليغ أقواله لهم. إذ فضلاً عن أنهم، مثل غيرهم من الناس، غير معصومين من الخطيئة، الأمر الذي لا يجعلهم أهلاً لإعلان ذات الله، فهم أيضاً مثلهم محدودون في ذواتهم. والمحدودون لا يستطيعون أن يعلنوا غير المحدود. فإذا أضفنا إلى ذلك أن غرض الله من التجسّد لم يكن مجرَّد إعلان ذاته للبشر، بل الظهور بينهم بحالة مُدرَكةً لهم، ليستطيعوا معرفته والاقتراب منه والتوافق معه، اتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له إطلاقاً.

4 - ما الفائدة التي تعود علينا من ظهور الله مستتراً وراء الجسد؟ ألا يتساوى هذا مع عدم ظهوره لنا إطلاقاً، إذ أننا في كلتا الحالتين لا نستطيع أن نراه كما هو؟ .

الرد: مرّ بنا أن الإنسان لا يستطيع أن يرى الله أو يتصل به، لأنه فضلاً عن كونه محدوداً، ولا يستطيع من تلقاء ذاته أن يتصل بغير المحدود، فإنه أيضاً بسبب ضعفه ونقائصه، يعجز كل العجز عن مشاهدة الله.

وقد شهدت الأحاديث القدسية أيضاً بهذه الحقيقة، فقد جاء بها: قال الله تعالى يا موسى لن تراني. إنه لن يراني حي إلا مات (الاتحافات السنية في الأحاديث القدسية ص 14)، وجاء في كتاب الاسراء معجزة كبرى ص 62 قال رسول الله صلى الله وعليه وسلم لن يرى أحد ربه حتى يموت . وهذا يتفق مع الكتاب المقدس، فقد قال قبل ظهور الإسلام بأكثر من 1800 سنة: الإنسان لا يراني ويعيش (خروج 33: 20) فالإنسان من هذه الناحية يشبه الخفّاش الذي يعجز بطبيعته عن رؤية النور، فإذا أحسّ به هرب من مكانه بكل ما لديه من سرعة. فكان من البديهي ألا يظهر الله ذاته للناس في جلاله ومجده، بل أن يظهر ذاته لهم في الهيئة المألوفة لديهم ليستطيعوا الإفادة منه والتوافق معه، وهذه الهيئة هي الهيئة البشرية.

5 - لا يتوقف التوافق مع الله على رؤيته بالعين، بل على إدراك النفس لمحبته وكماله وجماله. ولذلك لم يكن هناك داع لأن يتجسد الله، إذ أنه موجود في كل مكان، وفي أقواله لنا ما يكفي نفوسنا لإدراك كل شيء عنه، وبالتالي للتوافق معه .

الرد: حقاً إن التوافق مع الله لا يتوقف على رؤيته بالعين، بل على إدراك النفس لمحبته وكماله وجماله، لكن هل تستطيع النفس أن تدرك شيئاً عن الله من مجرد السمع أو القراءة عنه؟ الجواب: طبعاً لا، لأن النفس محدودة، والله غير محدود، والمحدود لا يدرك من تلقاء ذاته شيئاً عن غير المحدود. لذلك كان من البديهي أنه عندما أراد الله أن يجعلنا ندرك ذاته ظهر لنا بهيئة محسوسة نستطيع عن طريقها الاتصال به، وهذه هي الهيئة التي تنازل واتّخذها.

ولإيضاح هذه الحقيقة للذين يميلون إلى التمثيل بالمحسوسات نقول إن بخار الماء موجود في كل مكان، لكننا لا نستطيع أن نرتوي إلا إذا استحال هذا البخار ماءً نراه ونشربه. والكهرباء موجودة في الجو، لكننا لا نستطيع الافادة منها إلا إذا تجمّعت طاقاتها واستطعنا استثمارها في الاضاءة أو توليد الحرارة. وهكذا لو لم يتجسّد الله، لما استطعنا أن نعرفه أو نفيد منه الفائدة الحقيقية.

6 - لا يتفق تجسّد الله مع ما هو خليق به من التصرف العلوي السامي، لأنه يحطّ من كرامته وجلاله، ويحد من سموّه وبهائه .

الرد: هَبْ أن ملكاً ترك قصره وارتدى لباس عامة الناس ثم عاش بينهم كواحد منهم، ليواسيهم ويطيّب نفوسهم ويخلّصهم من متاعبهم وآلامهم، فهل يعتبر هذا التصرف حطاً منكرامته وجلاله؟ الجواب: طبعاً لا. وعلى هذا القياس نقول إن تجسّد الله لا يحط من كرامته أو جلاله، ولا يحد من سموه أو بهائه، بل يزيده مجداً وجلالاً في أعيننا، لأننا بالتجسّد قد عرفنا أنه يحبنا ويعطف علينا ويهتم بنا بدرجة لم تكن عقولنا لتقوى على إدراك أو تصوّر شيء عنها. ولذلك استطعنا بالتجسّد أن نحب الله ونتوق إليه، وأن نكرمه ونمجده، بدرجة لم نكن لنبلغها لو لم يكن قد تجسّد كما فعل.

7 - إن كان ولا بد من تجسُّد الله، فلماذا لم يظهر بالهيئة التي تليق بمجده وبهائه، حتى تهابه الناس وتخضع له؟ .

الرد: (أ) إن غرض الله من التجسد، لم يكن إظهار عظمته أو إثارة إعجاب الناس به (لأن تصرّفاً مثل هذا لا يصدر إلا من الناقص، الراغب في تعظيم الناس له)، بل هو جمعهم من حوله ليمتِّعهم بحبه وعطفه، ويخلِّصهم من خطاياهم وضعفاتهم، حتى تكون لهم معه حياة روحية سعيدة. وبما أنه لو كان قد ظهر بهيئة تتناسب مع مجده الأزلي لارْتعب الناس منه، وما استطاع واحد منهم أن يدنو إليه، كان البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، وهي الهيئة البشرية، لتتحقق أغراضه هذه. كما أنه لو كان قد تجنّب الظهور بمجده الخاص الذي يرعب الناس، وظهر فقط بإحدى مظاهر العظمة الأرضية، لحُرم متوسطو الحال والفقراء من التمتع به، وهم السواد الأعظم من البشر، وهم في جملتهم أكثر من الأغنياء استعداداً لمعرفته والسير في سبيله. لذلك كان من البديهي أيضاً ألا يظهر بأي مظهر من مظاهر العظمة الدنيوية، بل بالمظهر العادي الذي ظهر به فعلاً، لأنه هو الذي يفسح المجال أمام جميع الناس للاقتراب إليه والاتصال به والإفادة منه.

ويبدو لي أن المسلمين يعتقدون في الحقيقة المحمدية ما نعتقده نحن في أقنوم الابن من حيث تجسّده. جاء في (كتاب الدين والشهادة ص 187) لو أن الحقيقة المحمدية قد صاغها الله على شكل ملائكي، او قد لبست ثوباً ملائكياً، ثم كان داعياً إلى الله، لكان للناس أن يقولوا إنه مَلَك، إنه من غير جنسنا، ومن غير طينتنا وطبيعتنا، وهكذا يرون أعماله وصفاته وكمالاته، وينصرفون عن كل ذلك بداعي المخالفة .

أما إساءة بعض الناس إلى المسيح بسبب وجوده في هيئة الوداعة والتواضع التي ظهر بها، فلا يقوم دليلاً على أنه كان من الواجب أن يظهر بمظهر القوة والجبروت، لأن القوة وإن أخضعت الناس حسب الظاهر ردحاً من الزمن، لا تستطيع أن تصلح اعوجاجهم أو تهذّب أخلاقهم. والدليل على ذلك أنه عندما يضعف تأثيرها عليهم، يعودون إلى الحالة التي كانوا عليها من قبل، فتثور ثورتهم ويطلقون العنان لشهوتهم، كما نعلم بالاختبار. أما المحبة فهي الوسيلة الوحيدة لإصلاح النفس وتهذيبها. ومتى صلحت النفس وتهذّبت. أطاعت الله وسلكت في سبيله من تلقاء ذاتها. ولذلك إذا رجعنا إلى تاريخ المسيح وجدنا أنه بسبب احتماله إساءة المسيئين إليه ومعاملته إياهم بالمحبة والعطف، قد شعروا بكماله ونقصهم، ولذلك ثارت ضمائرهم ضدهم، فقرع بعضهم على صدره متألماً نادماً، وبكى البعض الآخر بكاءً مراً. أما من غلبه اليأس على أمره، عندما تبيَّنت له شناعة خطيئته إزاء محبة المسيح الكاملة له، فقد انطلق وخنق نفسه شاهداً بنفسه عليها، أنها لا تستحق الحياة بعد أن أساءت إلى من غمرها بالعطف والاحسان (متى 27: 5).

(ب) لا ننكر أنه لو كان المسيح قد ظهر بمجده الخاص لكان الناس قد قدَّموا له السجود والإكرام، واعترفوا به رباً وإلهاً. لكن بما أنه لا يريد إكراماً أو سجوداً منهم، بقدر ما يريد إنقاذهم من خطاياهم وضعفاتهم، وإعطائهم حياة روحية أبدية، كان من البديهي أن يظهر لهم بالهيئة المألوفة لديهم، ليستطيعوا الاتصال به والحصول على هذه الحياة منه.

لقد كان المسيح بعيداً كل البعد عن الاهتمام بمظاهر الحفاوة التي يميل إليها الناس، كما أن إقناعه إياهم بلاهوته مع انحراف قلوبهم عنه لا يُرضي كماله ولا يعود عليهم بفائدة ما. فما أكثر الذين يؤمنون بالله في كل دين من الأديان، ومع ذلك يحيون حياة تتعارض مع كمال الله، الأمر الذي يجعلهم في نظره اكثر شراً واسوأ حالاً من الوثنيين الذين لا يعرفون شيئاً عنه. وإذا أضفنا إلى ذلك أن معظم الذين شاهدوا بأعينهم عظمة الله وتعهدوا بالطاعة الكاملة له (كاليهود وغيرهم من الشعوب القديمة) ونقضوا العهود التي قطعوها على أنفسهم، وعادوا إلى شرورهم وآثامهم بعد مرور ساعات قليلة على هذه العهود (اقرأ مثلا خروج 32: 4) اتضح لنا أن إيمان الناس بالله إيماناً حقيقياً لا يتوقف على ظهوره لهم بمظهر العظمة، بل على مقدار تأثُّر قلوبهم بنعمته ومحبته. ولذلك كان من البديهي ألا يظهر في تجسُّده بحالة تبهر عقول الناس وتخطف أبصارهم، وترغمهم على الإذعان لحقه وسلطانه، بل أن يظهر بحالة تؤثر على ضمائرهم وقلوبهم، وتجعلهم يميلون للاقتراب إليه والتوافق معه من تلقاء أنفسهم. وهذه هي الحالة التي ظهر بها لهم في تجسده.

ومع ذلك فقد ظهر من خلال حياة المسيح الناسوتية كمال ومجد أدبييْن لا يقلَّان في شيء عن ذاك الذي يُنتظر ظهوره من الله نفسه.

وكان من الطبيعي ألا يختفي كمال الله الأدبي أثناء تجسّده لحظة واحدة، بل أن يظهر بكل وضوح وجلاء لجميع الناس في كل الظروف والأحوال، لأن هذا الكمال هو من خصائص كيانه، بل هو عين خصائصه. ولا يمكن أن يخفي كائن خصائص كيانه. كما أن اختفاء مجده الظاهري عن الناس أثناء تجسّده يرجع إلى رغبته السامية في تقريبهم إليه. ولذلك فإنه بإخفائه هذا المجد عنهم، قد تصرف أيضاً بحسب الكمال الذي يتميز به، لأن من خصائص هذا الكمال العطف على الناس والنزول إلى مستواهم والأخذ بناصرهم، ليستطيعوا الاقتراب منه والتمتّع به. ومع كل فقد أعلن المسيح مرة شيئاً من مجده الظاهري عندما وجد أن الحاجة تستدعي ذلك. فمثلاً عندما أراد أن يزيد بعض تلاميذه إيماناً به أخذ ثلاثة منهم وصعد بهم إلى جبل عال، وهناك تغيَّرت هيئته قدامهم وضاء وجهه كالشمس، وصارت ثيابه بيضاء كالنور (متى 17: 1-2)، فاستطاع أحدهم أن يشهد للناس قائلاً: لأننا لم نتبع خرافات مصنعة... بل قد كنا معاينين عظمته... في الجبل المقدس (2بطرس 1: 16-18). و استطاع المخلصون من تلاميذه وغير تلاميذه أن يؤمنوا أنه ابن الله أو الله معلناً ، فقد قال له نثنائيل: أنت ابن الله (يوحنا 1: 49)، وقالت له مرثا: آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الآتي إلى العالم (يوحنا 11: 27)، وقال له التلاميذ: بالحقيقة أنت ابن الله (متى 14: 33)، وقال له بطرس: آمنا وعرفنا أنك أنت المسيح ابن الله الحي (يوحنا 6: 69)، وقال له توما: ربي وإلهي (يوحنا 20: 28). وقال أتباع كهنة اليهود عنه: لم يتكلّم قط إنسان مثل هذاالإنسان (يوحنا 7: 46)، وقال له أحد اللصين اللذين صُلبا معه: أذكرني يارب متى جئت في ملكوتك (لوقا 23: 42)، وأخيراً قال قائد المئة والجند الذين صلبوا المسيح: حقاً كان هذا ابن الله (متى 27: 54)، وبذلك تحققّت كل مقاصد الله من التجسّد.

8 - إذا كان المسيح هو الله، فلماذا لم يعلن ذلك صراحة أمام الناس حتى يؤمنوا جميعاً به؟ .

الرد: لا يخفى لدى العاقل أنه لو كان المسيح قد أعلن للناس عن حقيقة ذاته قبل أن يختبروها بأنفسهم لكانوا قد اعتبروه مجدِّفاً ومدعياً، ولما كانوا قد آمنوا به إطلاقاً. لكنه شاء أن يستنتجوا هم حقيقة ذاته من حياته وأعماله، لكيلا يكون إيمانهم به نظرياً أو سماعياً، بل اختبارياً عملياً. فمثلاً، عندما أرسل يوحنا المعمدان، وهو في السجن إثنين من تلاميذه إليه يسأله: أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر؟ ، لم يجبه له المجد على هذا السؤال، بل قال لتلميذيه: إذهبا وأخبرا يوحنا بما تسمعان وتنظران: العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يُطهَّرون، والصم يسمعون، والموتى يقومون، والمساكين يُبشَّرون، وطوبى لمن لا يعثر فيّ (متى 11: 2-6) وذلك ليدرك يوحنا عملياً، من هو المسيح.

لقد أعلن المسيح عن حقيقة ذاته بكل صراحة للذين كانوا يشكُّون في شخصيته، أو لا يستطيعون اكتشافها. قال مرة لأعمى شفاه: أتؤمن بابن الله؟ فلما سأله: من هو يا سيد لأؤمن به؟ أجابه: قد رأيتَهُ، والذي يتكلم معك هو هو . فقال له الأعمى: أؤمن يا سيد وسجد له (يوحنا 9: 37-38). ولما قال رئيس الكهنة الذي كان يحاكمه: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا: هل أنت المسيح ابن الله؟ أجابه: أنت قلت. وأيضاً أقول لكم من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء (متى 26: 63، 64).

والقوة اسم من الأسماء التي كانت تُستعمل عوضاً عن اسم الجلالة في المحادثات العادية، صوناً لهذا الاسم العظيم من الجري على الألسنة في غير أماكن العبادة، حتى يظل محتفظاً بين الناس بالهيبة اللائقة به.

وعندما اعترف توما(الذي شكَّ في قيامة المسيح من بين الأموات) بأنه الرب والإله صادَقَ له المجد على هذا الاعتراف، وقال: لأنك رأيتني يا توما آمنت! طوبى للذين آمنوا ولم يروا (يوحنا 20: 28، 29). فضلاً عن ذلك فانه كان يعلن لليهود بين الفينة والفينة أنه ابن الله، فقد قال لهم مرة: الذي قدّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له إنك تجدّف، لأني قلت إني ابن الله؟ (يوحنا 10: 36-38)، ولذلك فلا مجال أيضاً لهذا الاعتراض.

9 - تُطلق كلمة الله في الكتاب المقدس على الملاك (مزمور 82: 6) وهو ليس إلهاً، وتطلق على النبي (خروج 7: 1) وهو ليس إلهاً أيضاً. بل وتُطلق على إبليس (2كورنثوس 4: 4) مع أنه ليس هو الله. فمن المؤكد أن يكون المسيح قد دُعي ابن الله أو الله، مجازاً. لأنه لا يوجد إلا إله واحد، وهو الله .

الرد: لا يطلق الكتاب المقدس على ملاك أو إنسان أو مخلوق ما اسم الله بصيغة التعريف، كما يقول المعترض، بل يطلق على بعض الملائكة والأنبياء وغيرهم كلمة آلهة بصيغة النكرة، كما يتضح من النص الكتابي للآيات المعترَض بها. وتُستعمل كلمة إله النكرة كثيراً بمعنى سيد أو رئيس أو حاكم ، فنحن نقول عن الغنى المقتِّر مثلاً، إن إلهه المال، وعن البَطِن أن إلهه بطنه، لأن المال هو الذي يسود الأول، والبِطْنة هي التي تسود الثاني. وعلى هذا القياس دُعي بعض الملائكة والأنبياء آلهة، لأن الله خوَّلهم السلطة في فترة خاصة تنفيذ قصد من مقاصده. أما المسيح فلم يُذكر عنه في الكتاب المقدس أنه إله بصيغة النكرة، بل ذُكر عنه أنه الله بصيغة التعريف، ولذلك لا يصح أن تُعتبر تسميته بهذا الاسم من باب المجاز.

10 - إذا كانت ولادة المسيح من عذراء دليلاً على أنه ابن الله أو الله، فإن ملكي صادق المكتوب عنه أنه بلا أب بلا أم، بلا نسب، لا بداءة أيام له ولا نهاية حياة (عبرانيين 7: 3)، يكون أحق من المسيح بالألوهية .

الرد: وُصف ملكي صادق بهذا الوصف ليس من جهة ذاته، بل من جهة عمله الكهنوتي، لأنه لم يتسلَّم هذا العمل عن أب أو أم أو نسب، أو لمدة محدودة من الزمن يجب عليه الابتداء به عند أولها والاعتزال عنه عند نهايتها، كما كانت الحال مع بني هرون، الذين كانوا يتوارثون خدمتهم الكهنوتية عن آبائهم في سن خاصة، ويعتزلونها في سن خاصة أيضاً. بل أن ملكي صادق تسلَّم كهنوته من الله مباشرة، وظل يمارسه حتى نهاية حياته على الأرض. فضلاً عن ذلك، فإننا لا نقول إن المسيح هو ابن الله لأنه وُلد من عذراء، بل نقول: لأنه في ذاته هو ابن الله، وُلد من عذراء - وهو ابن الله قبل ولادته من العذراء، لأنه هو الذي يعلن اللاهوت منذ الأزل الذي لا بدء له.

11 - لا يدل قول المسيح أنا والآب واحد (يوحنا 10: 30) على أنه واحد مع الآب في الذاتية أو الجوهر، بل يدل على أنه كان في حالة التوافق معه، لأنه قال في موضع آخر للآب عن تلاميذه: ليكونوا واحداً كما نحن (يوحنا 17: 11)، ومن المعلوم أن الغرض من أن يكون التلاميذ واحداً، ليس أن يكونوا واحداً في الجوهر أو الذاتية، بل واحداً من جهة المحبة والوفاق .

الرد: المشبَّه لا يكون مثل المشبَّه به من كل الوجوه، فإذا قلنا مثلاً عن إنسان إنه أسد فليس معنى ذلك أنه أسد حقيقي، بل معناه أن يشبه الأسد في الشجاعة. وعندما قال المسيح: أنا والآب واحد تناول رؤساء اليهود حجارة ليرجموه، فأجابهم: أعمالاً كثيرة حسنة أريتكم من عند أبي، بسبب أي عمل منها ترجمونني؟ قالوا له: لسنا نرجمك لأجل عمل حسن، بل لأجل تجديف. فإنك وأنت إنسان تجعل نفسك إلهاً . وبسبب هذه الشهادة عن نفسه طلبوا أن يقتلوه (يوحنا 10: 31-39)، وعندما قال له فيلبس: يا سيد أَرِنَا الآب وكفانا ، أجابه: الذي رآني فقد رأى الآب. فكيف تقول أنت أرنا الآب. ألست تؤمن أني في الآب والآب فيَّ! (يوحنا 14: 9، 10) ومن هذا يتضح لنا أنه لا يقصد بوحدته مع الآب مجرد التوافق معه، بل وحدته معه في الجوهر أو الذاتية. أما الوحدة التي أراد المسيح أن تكون بين تلاميذه، فهي كما ذكر الوحي في مكان آخر وحدانية في الروح (أفسس 4: 3)، لأنهم جميعاً سُقوا روحاً واحداً (1كورنثوس 12: 13). ولذلك كان عليهم أن يفتكروا فكراً واحداً (فيلبي 2: 2) وأن يعيشوا معاً كشخص واحد في المحبة والوفاق.

أما قوله لرؤساء اليهود بعد ذلك: أليس مكتوباً في ناموسكم أنا قلت إنكم آلهة ؟ فمعنى آلهة هنا، رؤساء أو سادة أو حكام. وقوله هذا هو الرد الطبيعي لاقناع اليهود الذين يأبون الاقتناع.

12 - لا يدل قول المسيح: أما أنا فلست من هذا العالم (يوحنا 8: 23) على أنه ليس من جنسنا، بل يدل فقط على أنه كان منفصلاً عن الأشرار، لأنه قال مرة لتلاميذه: إنكم لستم من العالم (يوحنا 15: 19)، وعدم كون التلاميذ من العالم ليس معناه أنهم ليسوا من الجنس البشري، بل معناه أنهم انفصلوا عن الأشرار .

الرد: لا يكون المشبَّه مثل المشبَّه به من كل الوجوه. وقد علمنا أن المسيح لم يولد مثل الناس، ولا عاش مثلهم، ولا كانت نهايته على الأرض مثل نهايتهم، بل وُلد من عذراء، وعاش حياة الكمال الذي ليس بعده كمال، وأخيراً صعد بإرادته إلى السماء. وهذا يوضح لنا عملياً أن تلاميذه لا يشاركونه في أنه ليس من هذا العالم، بل ولا يشاركه فيه أحد من الناس على الاطلاق.

13 - أليست شهادة المسيح عن نفسه أنه ابن الإنسان ، تدل على أنه كان إنساناً عادياً ؟

الرد: قال المسيح عن نفسه إنه ابن الإنسان ليس لأنه كان إنساناً عادياً، فقد أوضحنا أنه ابن الله أو الله معلَناً، ولكنه قال عن نفسه إنه ابن الإنسان لأنه اتخذ جسد إنسان، وكان في هذا الجسد رفيقاً للإنسان ومحباً ومعلّماً له، كما سيكون فيما بعد ملكاً على الإنسان. ومما يدل على أن ابن الإنسان هو ابن الله الأزلي، أننا إذا رجعنا إلى التوراة، وجدنا أن المسيح لم يُعرف كابن الإنسان أثناء وجوده على الأرض فقط، بل كان يُعرف بهذا الاسم أيضاً قبل ظهوره عليها. فقد ظهر لدانيال النبي في هيئة ابن الإنسان سنة 500 ق.م. فقال دانيال: كنت أرى في رؤى الليل، وإذا مع سُحب السماء مثل ابن إنسان، أتى وجاء إلى قديم الأيام، فقرَّبوه قدامه، فأُعطي سلطاناً ومجداً وملكوتاً لتتعبَّد له كل الشعوب والأمم والألسنة. سلطانه سلطان أبدي ما لن يزول، وملكوته ما لا ينقرض (دانيال 7: 13-14).

قال دانيال النبي عن المسيح إنه ابن إنسان ، ولم يقل إنه ابن الإنسان بأل التعريف، لأن النبي لم ينظر إلى المسيح في علاقته مع الناس، بل كان ينظر إليه من حيث المظهر العام الذي كان يبدو به في الرؤيا، والذي كان عتيداً أن يبدو به بالتجسد، في يوم من الأيام.

وقوله قديم الأيام هو الله في أزليته، وابن الإنسان هو أقنوم الابن في المركز الناسوتي الذي كان عتيداً أن يأخذه، ولذلك اقتضى الأمر، وهذا هو مركزه أن يُقال عنه إنه اقترب إلى قديم الأيام للتمييز بين الابن في ناسوته الحادث، والله أو اللاهوت في أزليته التي لا بدء لها. وهذه نبوّة عن مجيء المسيح في آخر الدهور، لتسلُّم زمام الملك في العالم. ومن البديهي أنه وحده هو الذي يحقّ له أن يقوم بهذه المهمّة، لأن الذي خلق البشر وصنع لهم خلاصاً من خطاياهم، هو الذي يتولى الملك عليهم ومحاسبتهم على أعمالهم. ومن البديهي أيضاً أنه سيقوم بهذه المهمّة، ليس بوصفه ابن الله، بل بوصفه ابن الإنسان الظاهر في الجسد، لأنه بهذا الوصف هو القائم بإتمام مشيئة الله بين الناس (كما سيتبين بالتفصيل فيما يلي)، ولأن محاسبة الله (في جوهره غير المدرَك) للناس، تكون موضع اعتراض منهم، لأنه تعالى من هذه الناحية لم يشاركهم في طبيعتهم البشرية التي يتعرضون بسببها للخطأ، لكن لا يكون هناك اعتراض إذا قام بهذه المهمة الله المتأنس أو ابن الإنسان. وقد أشار له المجد إلى هذه الحقيقة فقال: لأن الآب لا يدين أحداً، بل قد أعطى كل الدينونة للابن، وأعطاه سلطاناً أن يدين أيضاً، لأنه ابن الإنسان (يوحنا 5: 22-27).

فضلاً عن ذلك، فقد أطلق السيد المسيح على نفسه لقب ابن الإنسان بمعنى ابن الله مرات متعددة أمام رؤساء اليهود الذين اجتمعوا لمحاكمته، فقد قال لهم: مِنَ الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء (متى 26: 64) مشيراً بذلك إلى أنه المقصود بابن الإنسان الذي تتعبد له كل الشعوب، والذي تنبأ عنه دانيال النبي من قبل. ومما يدل على أن رؤساء الكهنة فهموا قَصْد المسيح من إطلاق لقب ابن الإنسان على نفسه، أنهم عندما سمعوا قوله هذا، مزَّق رئيس الكهنة ثيابه قائلاً: قد جدّف . وهذا دليل واضح على أن المراد ب- ابن الانسان هو ابن الله بعينه.

ويُقصد بالاصطلاح ابن الله الله مُعلَناً في كمال ذاته وصفاته. والاصطلاح ابن الإنسان يراد به الإنسان معلَناً في كمال الصفات التي خلقه بها أولاً. وبما أن الإنسان خُلق في أول الأمر على صورة الله، لذلك فإن ابن الإنسان أو الإنسان الكامل أو المسيح يكون هو صورة الله في الإنسان، او هو الله ظاهراً في الإنسان، لأن صورة الله ليست في الواقع سوى ذاته، إذ أنه ليست له صورة بعيداً عنها. وقد تبدو هذه الحقيقة غريبة في نظر بعض الناس، لكنها تتفق مع الحق الإلهي كل الاتفاق. ويُراد بالاصطلاح ابن الله أقنوم الابن في علاقته مع الله أو اللاهوت، كما يُراد بالاصطلاح ابن الإنسان أقنوم الابن في علاقته مع الإنسان. فإذا ذكرنا أن الإنسان في نظرنا ليس هو الهيكل البشري الخارجي، بل هو مجموعة صفات الإنسانية السامية (لأننا نقول عمَّن تتوافر فيه هذه الصفات إنه إنسان أو الإنسان ، وعمَّن لا تتوافر فيه هذه الصفات إنه ليس إنساناً )، اتضح لنا أن الشخص الجدير بأن يُدعى الإنسان أو الإنسان الكامل، او ابن الإنسان ، هو المسيح وحده، لأنه هو الذي أعلن الله، الذي يجب أن يعرفه الانسان، بوصفه مخلوقاً على صورته. وقد عرف ابن العربي الشيء الكثير عن هذه الحقيقة فقال: الكائن الذي يطلق عليه اسم الإنسان الكامل يُدعى الله لأنه جمع في عينٍ واحدةٍ الحضرة الإلهية بكل صفاتها . أما الذين لم يعرفوا هذه الحقيقة فقد ظنّوا أن الاصطلاح ابن الإنسان هو نفس الاصطلاح ابن آدم الذي يُطلق على كل إنسان. لكن هذا الظن ليس له نصيب من الصواب للأسباب الآتية:

(أ) لم يُولد المسيح بالتناسل الطبيعي مثل الناس، بل وُلد من عذراء، فلا يصحّ أن يُقال عنه إنه ابن آدم مثل أحد الناس. وإن كان لا بد من إسناد شخصه من جهة الناسوت إلى بشر كابن، فإنه لا يُدعى ابن آدم بل ابن مريم أو نسل المرأة (تكوين 3: 15).

(ب) لا يُقصد بكلمة الإنسان الرجل وحده، بل يُقصد بها الرجل والمرأة على السواء، لأنها تدل على الإنسان عامة. فتسمية المسيح ب- ابن الإنسان لا يُفهم منها أنه ابن آدم بل أنه ابن الإنسان عامة، أو ابن الإنسانية وممثّلها، بوصفه المتأنس منها لأجل الأخذ بناصرها.

(ج) أخيراً نقول: كما أن هناك أبناء كثيرين لله، ولكن المسيح وحده هو ابن الله ، كذلك هناك أبناء كثيرون للناس، لكن المسيح وحده هو ابن الإنسان . ولذلك هو وحده أطلق هذا اللقب على نفسه. وتدل كل القرائن على أنه قصد به المعِلن لله أو الله معلَناً ، لأنه أعلن أنه بوصفه ابن الإنسان يغفر الخطايا (مرقس 2: 7) ويمنح الخلاص والسلام (لوقا 7: 50) ويعطي الأموات بالخطيئة حياة روحية أبدية (يوحنا 5: 25) ويجازي كل واحد حسب أعماله (متى 16: 27) وغير ذلك من الأعمال التي لا يقوم بها إلا الله. ومما يثبت صدق هذه الحقيقة أن اليهود استنتجوا من كلام المسيح أن للقب ابن الإنسان معنى غير المعنى الذي يتبادر إلى الذهن، فسألوه مرة في حيرة: منَ هو هذا ابن الانسان!؟ (يوحنا 12: 34). وما كان للحيرة أن تجد مجالاً إلى نفوسهم، لو كانوا قد علموا أن ابن الإنسان هو بعينه ابن الله .

ونقول أيضاً إن الكتاب المقدس وإن كان لا يطلق على المسيح اسم ابن آدم ، لكن يطلق عليه اسم آدم الأخير ، (وذلك ليس بالنسبة إلى مركزه كالأقنوم الأزلي، بل بالنسبة إلى مركزه كابن الإنسان، المقام في الزمان من بين الأموات رأساً لجميع الذين يؤمنون به إيماناً حقيقياً)، وهذا بالمقابلة مع آدم الأول من حيث الرياسة والنيابة العامة، فآدم الأول هو رأس البشر الجسدي ونائبهم، أما المسيح أو آدم الأخير فهو رأس البشر الروحي ونائبهم. ولكن شتّان ما بين آدم الأول وآدم الأخير من حيث نتائج الرياسة والنيابة، فالأول بخطيئته أورث الخطيئة لنسله وجلب عليهم جميعاً قضاء الموت الأبدي، ولذلك قيل بالوحي: في آدم يموت الجميع . أما المسيح فببرّه، كابن الإنسان الكامل يبرر جميع الذين يرتبطون به بالإيمان القلبي، ولذلك قيل بالوحي: في المسيح سيُحيا الجميع (1كورنثوس 15: 22). أما من حيث مركز المسيح الأزلي، فإنه سابق في وجوده لآدم الأول، لأنه خالقه وجابله، ولذلك فمن التجنّي على الحقيقة أن يُقال إن لقب ابن الإنسان الذي أطلقه المسيح على نفسه، قصد به أنه ابنٌ من أبناء آدم.

14 - إن كان المسيح هو ابن الله بمعنى الله أو الله معلَناً ، فلماذا قيل عنه (أ) إنه سيَخضع للذي أخضع له الكل، كي يكون الله الكل في الكل (1كورنثوس 15: 28) (ب) ولماذا قال للناموسي: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله (متى 19: 16) (ج) ولماذا قيل إنه رجل (أعمال 2: 22) (د) ولماذا قال بنفسه عن ساعة انتهاء العالم: وأما تلك الساعة فلا يعلم بها أحد، ولا الملائكة الذين في السماء، ولا الابن، إلا الآب (مرقس 13: 32) (ه-) ولماذا قال: لا أقدر أن أعمل من نفسي شيئاً.. وقد نزلتُ من السماء ليس لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الذي أرسلني (يوحنا 5: 30، يوحنا 6: 8) (و) ولماذا قال للآب: هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته (يوحنا 17: 3)؟ .

الرد: (أ) المسيح كابن الإنسان هو الوسيط بين الله والعالم، ولذلك قام ويقوم وسيقوم بجميع الأعمال التي تتطلب الوساطة بين الله والعالم. وعندما ينتهي العالم، وتنتهي تبعاً لذلك جميع الأعمال التي تتطلب الوساطة، لا يبقى للوساطة مجال بعد، ولذلك يتخلّى المسيح حينئذ عنها ويَتبوّأ فقط مركزه الأزلي الذي كان يشغله بالنسبة إلى اللاهوت قبل خلق العالم، وبذلك يكون الله (أو اللاهوت) هو الكل في الكل، أي دون أن يكون في الوجود بعد خلائق تخالف مشيئته، وتحتاج إلى قيام أقنوم الابن بدور الوساطة فيشفع فيها أو يكفّر عنها. ومن هذا يتضح لنا أن خضوع الابن للآب في نهاية الدهور سيكون فقط بوصفه ابن الإنسان الوسيط بين اللاهوت والعالم. أما بوصفه الابن الأزلي، فهو والآب واحد، والكرامة التي تليق بالآب هي بعينها التي تليق به، كما ذكرنا في الباب الرابع من كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته . ومما يثبت صحة ذلك أن الآية لا تقول: كي يكون الآب الكل في الكل بل تقول: كي يكون الله الكل في الكل ممّا يدل على أنه لا فرق بين أقنوم وآخر في اللاهوت على الإطلاق.

(ب) لم يَنْفِ المسيح بقوله للناموسي: لماذا تدعوني صالحاً؟ ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله الصلاح أو اللاهوت عن نفسه، بل خاطب الناموسي على أساس اعتقاده فيه، لأن الناموسي لم يكن يعتقد أن المسيح هو الله، بل كان يعتقد أنه معلم من معلمي الدين (الذين اعتاد اليهود أن يُسندوا إليهم الصلاح والفضيلة جزافاً). فانتهز المسيح هذه الفرصة، كما انتهز غيرها، وأجاب سائله بالإجابة التي تصحّح اعتقاده في هؤلاء المعلّمين. وكأنه يقول له: إن كنت تظن أني مجرد معلّم، فاعلم أنه ليس هناك معلم صالح على الإطلاق، إذ أن جميع الناس إن لم يكونوا خطاة بأفعالهم، فهم خطاة بطبيعتهم وأفكارهم. فليس هناك كائن يستحق أن يُقال عنه إنه صالح سوى الله وحده. أما المسيح، من جهة ما هو في ذاته، فهو صالح كل الصلاح. وقد شهد له المجد بهذه الحقيقة فقد قال عن نفسه: أنا الراعي الصالح (يوحنا 10: 11)، كما شهد بها تلاميذه الذين عاشوا معه وعرفوه. فقال بطرس عنه إنه: لم يفعل خطيئة، ولا وُجد في فمه مكر (1بطرس 2: 22)، وقال بولس عنه إنه قدوس بلا شر ولا دنس، قد انفصل عن الخطاة وصار أعلى من السموات (عبرانيين 7: 26). لا بل إن أعداءه أيضاً لم يجدوا فيه علّة واحدة، فعندما سألهم مرة: من منكم يبكتني على خطيئة؟ (يوحنا 8: 46) لم يستطع واحد منهم أن يذكر له خطيئة واحدة، أما عن مقابلته إساءة الناس بالاحسان (الذي هو عين الصلاح)، فحدِّث ولا حرج.

(ج) كُتب عن المسيح أنه رجل من جهة كونه ابن الإنسان . أما من جهة كونه ابن الله فقد كُتب عنه أنه الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد (رومية 9: 5)، وانه الله الظاهر في الجسد (1تيموثاوس 3: 16).

(د) لم يكن المسيح بوصفه ابن الإنسان يعلم زمان انقضاء العالم، لأنه من هذه الناحية كان قد أخلى نفسه وعاش على الأرض كإنسان محدود. أما بوصفه ابن الله فقد كان يعلم زمن انقضاء العالم، ويعلمه أزلاً، والدليل على ذلك أنه ذكر علاماته واحدة فواحدة. (اقرأ متى 24: 4-41). فإخلاء المسيح نفسه، لا يُراد به تجرُّده من لاهوته (لأن اللاهوت هو ذاتيته، ولا يمكن أن يتجرد أحد من ذاتيته) بل يُراد به فقط تنازله عن امتيازات اللاهوت الجليلة الباهرة، ليستطيع الناس أن يدنوا منه ويتوافقوا معه.

(ه-) لم يكن المسيح بوصفه ابن الإنسان يقدر أن يعمل من نفسه شيئاً، أما بوصفه ابن الله فكان يعمل كل شيء بإرادته الذاتية، التي هي بعينها إرادة الأقنومين الآخرين. فمثلاً عندما جاءه مرة أبرص قائلاً: يا سيد إن أردت تقدر أن تطهّرني أجابه على الفور: أريد فاطهر ، وللوقت ذهب عنه برصه (متى 8: 3).

(و) قال المسيح للآب: أنت الإله الحقيقي وحدك ليس بوصفه ابن الله، بل بوصفه ابن الإنسان. وقوله هذا هو عين الصدق والصواب، لأنه ليس هناك إلا إله واحد، وهو الله أو اللاهوت. والله أو اللاهوت لا يُدرَك في ذاته بل يُدرك في تعيُّنه، وتعيّنه هو الآب والابن والروح القدس. ونظراً لأن اللاهوت واحد ووحيد ولا يتجزّأ أو يتفكك على الإطلاق، فكل أقنوم من الأقانيم (إن جاز هذا التعبير) قائم بكل ملء اللاهوت، وإذن فكلٌّ منهم هو الإله الحقيقي. فالآب هو الإله الحقيقي، والابن هو الإله الحقيقي، والروح القدس هو الإله الحقيقي، وكلهم الإله الحقيقي. ولذلك أعلن الكتاب المقدس أن الآب هو الله، والابن هو الله، والروح القدس هو الله، كما ذكرنا بالتفصيل في كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته .

وقوله الإله الحقيقي ، بالمقابلة مع الإله الخيالي أو الله المحاط بالغموض والإبهام الذي كان في عقول اليهود وعقول الفلاسفة الذين كانوا يقولون إنهم يؤمنون بالله. لأن الذي لا يعرف الله كالآب الذي يحب المؤمنين به كما يحب الأب أبناءه، يظل الله بالنسبة له كائناً خيالياً محاطاً بالغموض والابهام.

ومما يدل على وحدة الأقانيم في اللاهوت، وعدم وجود أي تمايز بين أحدهم والآخر، أن المسيح أعلن في قوله السابق ذكره أن الحياة الأبدية ليست متوقفة على معرفة الآب على انفراد، بل على معرفته بالارتباط مع معرفته هو (أي معرفة المسيح). فقد قال وهذه هي الحياة الأبدية، أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته . وهذا ما يتفق مع الحقائق الإلهية الخاصة بوحدة الابن مع الآب في اللاهوت كل الاتفاق. لأن الحياة الأبدية هي في معرفة الله، ولا يمكن معرفة الله إلا في المسيح لأن الله الذي قال أن يشرق نور من ظلمة، هو الذي أشرق في قلوبنا، لإنارة معرفة مجد الله في وجه يسوع المسيح (2كورنثوس 4: 6).

وقد تبدو هذه الحقيقة ضد العقل، لكنها في الواقع ليست ضده، بل أسمى من إدراكه، إذ أنها تتفق مع خصائص ذات الله كل الاتفاق. لأن وحدانيته جامعة، وجامعيتها أقانيم، والأقانيم وإن كان أحدهم غير الآخر إلا أنهم واحد في اللاهوت، واللاهوت لا يتجزأ أو يتفكك على الاطلاق. ولزيادة الايضاح إقرأ كتاب الله - ذاته ونوع وحدانيته .

إن الحياة الأبدية هي بمعرفة الله، لأنه مصدر الحياة، بل هو الحياة عينها. ولما كان الله هو الآب والابن والروح والقدس، فقد أعلن الوحي أن الآب هو الحياة الأبدية (1يوحنا 5: 20)، وأن الابن هو الحياة الأبدية (1يوحنا 1: 2) وأن الروح القدس هو روح الحياة (رومية 8: 20).

ولقد ذكرنا فيما سلف، أن إرسال الآب للابن، ليس معناه أن الآب أفضل من الابن، بل معناه اتحاده معه في العطف على البشر. وكل ما في الأمر أن الابن لكونه المعلِن للَّاهوت منذ الأزل، هو وحده الذي يقوم بإعلانه للبشر.

15 - هل تتحقق ولادة الله من امرأة، مع قداسته تعالى؟

الرد: خلق الله المرأة كما خلق الرجل، وبما أن الله طاهر ولا يصدر عن الطاهر إلا كل طهارة، إذن فلا نجاسة في المرأة أو الرجل من حيث تكوينهما الجسدي الذي خلقهما الله عليه. فضلاً عن ذلك، فإن الله كان قد تدّخل بصفة خاصة في ولادة المسيح من العذراء، فقد حلَّ عليها بروحه وظللّها بقوته (لوقا 1: 35)، فلا مجال لهذا الاعتراض على الإطلاق.

16 - إن كان ولا بد من تجسّد الله، فلماذا لم يظهر في العالم رجلاً كامل النمو بدلاً من ولادته من إمرأة، ومروره في أدوار الطفولة والصبوّة التي لم يفعل فيها شيئاً مذكوراً؟ .

الرد: (أ) النمو والتقدم هما السُّنة التي وضعها الله للأفراد والمجتمعات، فكان من البديهي أن يظهر المسيح (وقد رضي أن يكون إنساناً) طفلاً يتدرج في النمو قامة وعقلاً، وتتدرج معه الجماعة المحيطة به يقظة ووعياً، تتهيّأ بسببهما لقبول المسيح والاستماع إليه. وقد أشار الكتاب المقدس إلى هذه الحقيقة، فقال عنه بوصفه ابن الإنسان: وأما يسوع فكان يتقدَّم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس (لوقا 2: 52).

(ب) فإذا عرفنا أن غرض الله من التجسّد لم يكن مجرَّد إعلان ذاته لنا، بل الاتحاد الجوهري بنا، ليكون الرأس الفعلي أو الحقيقي لجنسنا (عوضاً عن آدم الأرضي الذي بانتسابنا إليه وتوالدنا منه، قد ورَّثنا الطبيعة الخاطئة، وورثنا معها قضاء الموت الأبدي)، حتى نستطيع بدورنا أن نتحّد بالله اتحاداً عملياً حقيقياً، اتضح لنا أنه لو كان قد ظهر في العالم رجلاً كامل النمو، أو بتعبير آخر ظهر فيه دون أن يأخذ جسداً من جنسنا، لكان قد ظل غريباً عنا ومفارقاً لنا، وبالتبعية لما كان رأساً لنا، ولما كان لنا نحن صلة فعلية به. لكن بتفضُّله بالولادة من جنسنا اتحد بنا، وبحكم مركزه صار رأسنا ووليَّنا، وأصبح لنا بدورنا أن نتحد به اتحاد الأغصان بالكرمة، وبذلك تحققت أغراضه السامية من التجسّد.

17 - أليس تجسّد الله من جنس خاص من الناس يفيد تحيُّزه لشعب خاص، وهذا ما لا يتناسب مع محبته للبشر أجمعين؟ .

الرد: (أ) لو لم يتّخذ الله لنفسه جسداً من اليهود، لكان قد اتّخذ لنفسه جسداً من شعب آخر، وفي هذه الحالة يكون قد تجسّد أيضاً من جنس خاص دون غيره من الأجناس، ولذلك فإن هذا الاعتراض لا مجال له إطلاقاً. كما أن الادِّعاء بأن تجسُّد الله من جنس خاص لا يتناسب مع محبته للبشر أجمعين، قد دلّت الحقيقة الواقعة على عدم صدقه، لأننا إذا تطلعنا إلى حياة المسيح على الأرض وجدنا أنه كان يحب الجميع على السواء. فقد شمل بإحسانه جميع الناس على اختلاف أجناسهم (لوقا 17: 16)، وكان يناديهم: تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال (بدون استثناء) وأنا أريحكم (متى 11: 28). وقال: لي خراف أُخر ليست من هذه الحظيرة (أي حظيرة اليهود). ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي، وتكون رعية واحدة وراعٍ واحد (يو 10: 16). ولذلك قال الوحي عنه إنه جعل الاثنين (أي اليهود والأمم) واحداً، ونقض حائط السياج المتوسط، مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض، لكي يخلق الاثنين في نفسه إنساناً واحداً جديداً (أفسس 2: 14). وقال أيضاً: فإن فيه ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة، بربري سكيثي، عبد حر بل الجميع واحد (كولوسي 3: 11). وقد أدرك هذه الحقيقة الأستاذ سافير اليهودي، فقال: كان يسوع يهودياً، ومع ذلك كان من جنس البشر جميعاً . وقال غيره: المسيح هو ابن الإنسان وهو ليس لعصر خاص أو لجماعة خاصة، بل لجميع الناس وجميع العصور . وقال آخر: المسيح حقاً الإنسان العالمي لأنه لم ينحصر ضمن هيئة خاصة، بل تخطّى كل الحواجز التقليدية والاجتماعية والسياسية والجنسية، وأحب كل الناس بلا استثناء . ولا غرابة في ذلك فقد كان ابن الإنسان أو ابن الإنسانية .

(ب) فضلاً عن ذلك فإن التعليم الذي أتى به المسيح، ليس تعليماً لا يتيسّر تنفيذه بواسطة جماعة دون غيرها، أو في أزمنة دون سواها، بل يتيسّر تنفيذه بواسطة كل الناس في كل البلاد والأوقات. فمثلاً لم يأمر الناس بالصلاة في أوقات خاصة، مرتبطة بساعات النهار أو الليل، ولم يحلل لهم تناول بعض الأطعمة دون الأخرى، ولم يحدِّد لهم مواعيد للمواسم والأعياد، مرتبطة بأوقات الحصاد وأوجه القمر، كما كانت الحال مع اليهود الذين عاشوا في منطقة جغرافية محددة، بل أمرهم أن يصلّوا في كل حين (لوقا 18: 1) وأن ما يدخل الفم لا ينجِّس الإنسان، بل ما يخرج منه، لأن من الفم تخرج أقوال الشر التي هي النجاسة (متى 12: 35). وطلب منهم على لسان رسوله، أن تكون حياتهم كلها أعياداً روحية، تتجلى فيها القداسة والطهارة والصلة الحقيقية مع الله (1كورنثوس 5: 8). ولذلك فإن تعليمه لا يمكن تنفيذه في بلاد فلسطين وحدها، بل يمكن تنفيذه أيضاً في الجهات القطبية التي تغيب عنها الشمس نصف العام، ويغيب عنها القمر النصف الآخر، كما يمكن تنفيذه في الجهات القاحلة التي لا زرع فيها ولا حصاد.

18 - لماذا اختار المسيح أن يتجسَّد من اليهود، دون غيرهم من البشر؟

الرد: طبعاً ليس هناك فضل لجنس على الآخر عند الله. وإن كان هناك فضل لأحد على الآخر عنده، فأتقى الناس أفضلهم، لأنه ليس لدى الله محاباة (غلاطية 2: 6). وقد شهد الوحي بهذه الحقيقة فقال إن كل من يصنع البر في أي أمة مقبول عنده (أعمال 10: 35).ولما وجد أن إبراهيم أتقى الناس الذين عاشوا في جيله، اختاره ودعاه خليلاً له (يعقوب 2: 23)، ثم اتّخذه وسيلة لإعلان اسمه بين الناس، ووعده بأن في نسله ستتبارك كل أمم الأرض (تكوين 12: 3). ونظراً لأن الله لا يلغي ولا ينسى وعداً من وعوده مهما طال عليه الزمن، اصطفى من ذرية إبراهيم في الوقت الذي استحسنه، فتاة، أقل ما يُقال عنها إنها أطهر الفتيات ليتجسّد منها ويبارك كل أمم الأرض كما وعد من قبل.

فإذا تأملنا حياة المسيح على الأرض، وجدنا أنه وإن كان قد تجسّد من اليهود للسبب المذكور، إلا أنه كان متجرِّداً من الجنسية اليهودية، بل ومن الروابط العائلية التي هي من أقوى الروابط وأدقّها، فكل علاقاته كانت بين الله والناس بصفة عامة. فمثلاً عندما قال له مرة نفر من الناس: أمك وأخوتك يطلبونك أجابهم: من أمي وإخوتي! ثم نظر إلى المؤمنين الجالسين حوله وقال: ها أمي وأخوتي، لأن من يصنع مشيئة الله، هو أخي وأختي وأمي (مرقس 3: 35). ولما رفعت امرأة صوتها قائلة له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما أجابها بل طوبى للذين يسمعون كلام الله ويحفظونه (لوقا 11: 27). ولما اعترضته السامرية: كيف تطلب مني ماء لتشرب، وأنت يهودي وأنا امرأة سامرية، لأن اليهود لا يعاملون السامريين (يوحنا 4: 9) لم يتراجع عن الحديث معها، أو يوبخها وينتهرها، بل واصل حديثه معها ليخلّصها من الخطايا التي كانت غارقة فيها، ويقودها إلى حياة الطهر والعفاف. ولذلك قال الرسول: إذاً نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد. وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد، لكن الآن لا نعرفه بعد (حسب الجسد). إذاً إن كان أحد (أي أحد بلا استثناء) في المسيح، فهو خليقة جديدة (2كورنثوس 5: 16، 17). فهل بعد هذا الإيضاح، يوجد مجال للاعتراض المذكور؟!

19 - إذا كان المسيح هو الله، فلماذا ظهر في أماكن محدودة، ولم يظهر في جميع الأمكنة، حتى يراه جميع الناس ويؤمنوا به؟ .

الرد: إذا رجعنا إلى العصر الذي عاش فيه المسيح على الأرض، وجدنا أن الشعب الوحيد الذي كان يؤمن بالله إيماناً خالصاً من كل زيغ هو شعب اليهود، إذ أن الشعوب الأخرى كانت تعبد الكواكب والأوثان وغيرها، وإن كانت قد وُجدت لدى بعضها فكرة عن الله، فإن هذه الفكرة كانت غير صحيحة أو ناقصة، فكان من المتعذر على هذه الشعوب أن تقبل المسيح كالله المتأنس، لو كان قد ظهر بينها. ولذلك كان من البديهي أن يظهر المسيح بوصفه الله المتأنس بين اليهود، لأنهم أقرب الناس إلى الإيمان به، وكان من البديهي أيضاً أن يظل بينهم حتى يعرفوه حق المعرفة، ويؤمنوا به كل الإيمان. ولكن لما رفضوه (على الرغم من الأدلة الكتابية والاختبارية التي تثبت حقيقة ذاته) اختار من بينهم أشخاصاً كانوا أكثر استعداداً من غيرهم لمعرفته والتوافق معه، وقضى مدة طويلة في تدريبهم وتعليمهم، حتى عرفوا بعد قيامته من بين الأموات حقيقة ذاته كل المعرفة. ثم كلفهم بعد ذلك أن يحملوا رسالته ليس إلى اليهود وحدهم، بل وإلى كل الأمم أيضاً (متى 28: 19)، بعد أن أيَّدهم بمواهب معجزية، تثبت صدق الرسالة التي يحملونها. ولهذا السبب لم يمض القرن الأول حتى كانت معرفة المسيح قد انتشرت بمجرد المناداة باسمه في جميع أجزاء المعمورة، على الرغم من تعارض تعليمه مع طبائع الناس وأهوائهم، الأمر الذي لم يحدث نظيره على الإطلاق.

وإذا أضفنا إلى ذلك (1) أن فلسطين التي ظهر فيها المسيح، لم يره كل شخص من سكانها، بل أن كثيرين لم يروه إطلاقاً، وأنه لو كان قد انتقل إلى كل بلاد العالم، لكان كثيرون أيضاً من سكانها لا يرونه. و (2) أن معرفة الله في المسيح لا تتوقف على رؤيته بالعين بل على الإيمان به بالقلب. وفي هذه الحالة يستوي الذين رأوه والذين لم يروه إن كانوا قد آمنوا به أو لم يؤمنوا. فيتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له على الإطلاق، لأن معرفة المسيح كانت قد انتشرت بواسطة تلاميذه في جميع البلاد، في برهة وجيزة.

20 - إن تجسُّد الله، إما أن يظلّ إلى آخر الدهور فتدوم فوائده، وإما أن يكون هناك مبرّر لتمتُّع جيل خاص برؤيته في الجسد دون غيره من الأجيال .

الرد: بالرغم من ظهور الله في الجسد في العالم، ورؤية الناس لأعماله ومعجزاته، إلا أن معظمهم استمر في شرورهم وآثامهم. وبما أنه يريد أن يقترن الإيمان به بحياة القداسة (لأن الإيمان به بدون هذه الحياة أشر من عدم الإيمان)، وبما أن حياة القداسة لا تتأتى بواسطة الاقتناع النظري بحقيقة الله، بل بواسطة الاتصال الروحي به، وبما أن هذا الاتصال لا يتولد عن النظر إليه بعين الجسد الخارجية بل عن النظر إليه بعين الإيمان الباطنية، إذن كان من البديهي أن يقتصر الرب في أمر ظهوره بالجسد على المدة التي قضاها في العالم (وهذه والحمد لله كافية كل الكفاية، لإثبات شخصيته وإظهار محبته المطلقة للبشر أجمعين) حتى تكون علاقتهم به ليس العلاقة الجسدية بل العلاقة الروحية. فهو روح، والذين يريدون أن يتصلوا به فبالروح ينبغي أن يتصلوا، والذين يريدون أن يسجدوا له فبالروح ينبغي أن يسجدوا (يوحنا 4: 24).

ولذلك صرَّح له المجد بأفضلية انطلاقه من العالم على بقائه بالجسد فيه، فقد قال لتلاميذه: الحق أقول لكم، إنه خير لكم أن أنطلق، لأنه إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي (أي الروح القدس). لكن إن ذهبت أرسله لكم (يوحنا 16: 7). والروح القدس كما تبين لنا في الباب الثالث من كتاب (الله - ذاته ونوع وحدانيته) هو الذي يعلِّم نفوسنا ويهذِّبها ويسمو بها، ويحفظها في حالة الاتصال بالله والتوافق معه. وهذا هو غرض الله من التجسد.

21 - ناسوت المسيح خاضع لقانون الطبيعة العام، وهو أن المادة إلى الفناء، فليس من المعقول أن يظل إلى الأبد .

الرد: إن القول بأن المادة تفنى لا يزال موضع بحث العلماء، ففريق يعتقد أن ما يُقال عنه إنه فناء للمادة ليس إلا تغيُّر في شكلها الظاهرى، وفريق آخر يقول إنها بالإشعاع تفقد جزءاً فقط من خواصها. فإذا تأملنا الناسوت الذي ظهر به المسيح على الأرض، وجدنا أنه وإن كان بإرادة صاحبه، كان متوافقاً مع قانون الطبيعة العام (إذ أخضعه صاحبه لحكم هذا القانون، حتى كفَّر بنفسه عن الناس)، لكنه قام من بين الأموات بحالة تفوق القوانين الطبيعية: حالة حسب إرادة صاحبه تتوافق مع السماء، فأصبح ناسوتاً لا يأكل ولا يشرب، ولا يتعب ولا ينام، لأن السماء ليس فيها مجال للأكل أو الشرب أو التعب أو النوم، أو أي عمل آخر من الأعمال الجسدية.

فإذا أضفنا إلى ذلك أن أجساد الموتى ستُبعث يوماً من قبورها بأجساد غير قابلة للفناء، وأنها ستنال في هذه الأجساد جزاء ما كانت عليه في دنياها، لا يجوز لنا التشكك مطلقاً في أن ناسوت المسيح سيظل إلى الأبد، بالحالة الروحية التي تتوافق مع السماء.

وقد أشار الرسول إلى موت وقيامة كل جسد من أجساد القديسين، فقال ... يُزرع في فساد ويُقام في عدم فساد. يُزرع في هوان ويُقام في مجد. يُزرع في ضعف ويُقام في قوة. يُزرع جسماً حيوانياً ويُقام جسماً روحانياً... (1كورنثوس 15: 42-44).

22 - كل ما له بداية، له أيضاً نهاية. وبما أن اتخاذ الله جسداً له قد حدث في زمن خاص، إذن لا بد أن يتلاشى هذا الجسد في زمن خاص أيضاً .

الرد: إننا لا نستطيع التسليم بأن كل ما له بداية له أيضاً نهاية، لأن هناك شواذ لهذه القاعدة. فمثلاً النفس البشرية حادثة أو لها بداية، لكنها كما يتبين من كتب الدين والفلسفة أيضاً، خالدة ليست لها نهاية. كما أن الأجساد التي نلبسها الآن، وإن كانت تتحلل بالموت، إلا أنها ستُبعث من رفاتها يوماً ما. ولذلك لا مجال للظن بأن ناسوت المسيح قد تلاشى أو قد يتلاشى. وإذا أضفنا إلى ذلك أن بقاء ناسوت المسيح في الأبدية يتوقف عليه إدراكنا لله، اتضح لنا أن هذا الاعتراض لا مجال له اطلاقاً.

23 - إذا كان الله هو الذي تجسَّد، فلماذا يُنسب التجسُّد إلى أقنوم الابن وحده؟

الرد: إن الفاعل كما يقول رجال الفلسفة، قد يكون هو القابل وقد يكون أيضاً غير القابل (القابل هو الذي يقبل، وفي موضوعنا هذا هو الذي قبل التجسُّد ).

ولما كان اللاهوت هو الفاعل لإجراء التجسّد، وأقنوم الابن هو القابل له، لأنه بصفته الأقنومية هو الذي يعلن الله ويظهره، لذلك يكون هو وحده الذي تجسّد. وطبعاً لا يغرب عن بالنا أن قيام الابن بالتجسّد دون الأقنومين الآخَرين ليس معناه أنهما لا يستطيعان التجسّد، لأن الأقانيم واحد في الجوهر بكل خصائصه وصفاته، إنما لأن الابن ، للأسباب السابق ذكرها في الباب الأول، هو الذي تجسّد بصفته الأقنومية، لذلك يكون هو الذي تجسّد، فيُقال الابن قد تجسّد ، أو الله قد تجسّد لأن كل أقنوم هو الله بذاته، وكل عمل يعمله أي أقنوم، فالله هو الذي يعمله (انظر البابين الرابع والخامس من كتاب: الله - ذاته ونوع وحدانيته).

ومع ذلك فإن الأقنومين الآخَرين وإن كانا لم يتجسّدا، إلا أنهما لوحدتهما مع أقنوم الابن في اللاهوت، كانا عاملَيْن أيضاً في تجسّده. فالآب أرسل الابن إلى العالم (يوحنا 5: 37)، والروح القدس أيضاً أرسله (اشعياء 48: 16).

24 - إذا كان المسيح قائماً باللاهوت والناسوت معاً، أفلا يكون السجود له سجوداً للناسوت مع اللاهوت، وهذا هو الشِّرْك بعينه؟ .

الرد: المسيح باللاهوت والناسوت معاً هو شخص واحد: الله المتأنس وليس الإنسان الإلهي كما يقول بعض الهراطقة، ولذلك فإن السجود له لا يُعتبر شِرْكاً على الإطلاق، لأن ناسوته ليس شخصاً سواه. ولإيضاح هذه الحقيقة نقول: لو أن ملكاً نبيلاً في سبيل تقريب مواطنيه إليه ليمتّعهم بما لديه من خير، ارتدى لباساً مثل لباسهم وسكن بينهم واختلط بهم، وعاش معهم كواحد منهم، حتى أزال كل مانع يمنعهم عنه، فهل يغيّر ذلك شيئاً من كونه الملك المستحق للإكرام والاحترام؟ الجواب: طبعاً كلا. وإذا كان الأمر كذلك، فإن وجود إله في الجسد لا يمكن أن يقلل شيئاً من كونه ذات الله المستحق للعبادة والسجود.

وقد أظهر المسيح بيان هذه الحقيقة بكل وضوح وجلاء، فقد كان يتقبل السجود من الناس (متى 2: 11 و 14: 23 و 28: 17 ولوقا 24: 52) كأمر عادي يليق تقديمه إليه، كما كان يتقبل منهم الاعتراف بأنه الرب والإله (يوحنا 20: 28) دون أن يبدي أي تردد على الإطلاق. وطبعاً ما كان من الممكن أن يتقبل هذا أو ذاك، لو لم يكن هو الله، لأن الذي يتقبل من دونه سجوداً من الغير أو اعترافاً بأنه هو الله، لا يكون إلا معتوهاً أو متكبراً. والحال أن المسيح حكيم كل الحكمة، ومتواضع كل التواضع، كما يشهد أصدقاؤه وأعداؤه على السواء.

الصفحة
  • عدد الزيارات: 19488
إحصل على نسختك المجانية من الإنجيل المقدس يصل إلى عنوانك البريدي أو بواسطة صديق.
شاهد فيلم المسيح بلهجتك الخاصة متوفر بعدة لهجات من مختلف الدول العربية مثل اللهجة الجزائرية والتونسية والمصرية وغيرها.
إلى زوارنا في البلاد العربية بامكانكم الإتصال بأحد مرشدينا مباشرة من الساعة التاسعة صباحا حتى الثالثة مساء بتوقيت مصر.
سلسلة قصص درامية باللغة العربية عن أنبياء الله في العهد القديم تبدأ من قصة آدم وحواء حتى قصة الملك داود.