السؤال الثالث
جاء في قانون الإيمان أن المسيح إله حق من إله حق. فإن كان إلهاً؟ فكيف قدر إبليس أن يرفعه إلى الجبل ويُريه ممالك الأرض؟ ويعده أن يعطيه إياها إذا سجد له. فكيف يجرب إبليس إلهاً هو المسيح؟ س. م. القاهرة
كان عليك يا صديقي أن تكمل ما قرأته من قانون الإيمان بالعبارات التالية: الذي لأجلنا نحن البشر ولأجل خلاصنا، نزل من السماء، وتجسد بالروح القدس من مريم العذراء، وصار إنساناً .
وعلى ذلك لا يكون السؤال كيف يجرب إبليس الله، بل كيف يجرب شخصاً كان إنساناً، وكان الله في ذات الوقت متجسداً فيه. فليست المشكلة هي ما قلته، فإن المسيحيين لم يقولوا إن المسيح تجرَّب كإله، إنما تجرب كإنسان، وصارع التجربة كما يصارعها أي إنسان. وليس خطية أن يتجرب الإنسان. وإنما الخطية أن يستسلم الإنسان للتجربة وينهزم أمامها. والمسيح دخل التجربة، بعد أن أخلى نفسه مختاراً من استخدام قوات اللاهوت، ترك لنا مثالاً للغلبة على تجارب الحياة. وقد قيل عنه في كتب الوحي: مُجَرَّبٌ فِي كُلِّ شَيْءٍ مِثْلُنَا، بِلَا خَطِيَّة... لِأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّباً يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ عبرانيين 4:15 و2:18. وفي هذه التجربة نرى نحن المسيحيين حلاً لمشكلة طالما تصدَّت للناس.،وهي أن السمو الروحي تعترضه تجارب شديدة. ولكن التجارب ليست دليلاً على أن الله قد تخلّى عن الإنسان. العكس هو الصحيح، فقد قال الرسول يعقوب: اِحْسِبُوهُ كُلَّ فَرَحٍ يَا إِخْوَتِي حِينَمَا تَقَعُونَ فِي تَجَارِبَ مُتَنَوِّعَةٍ، عَالِمِينَ أَنَّ امْتِحَانَ إِيمَانِكُمْ يُنْشِئُ صَبْراً. وَأَمَّا الصَّبْرُ فَلْيَكُنْ لَهُ عَمَلٌ تَامٌّ، لِكَيْ تَكُونُوا تَامِّينَ وَكَامِلِينَ غَيْرَ نَاقِصِينَ فِي شَيْءٍ يعقوب 1:2-4.
أما المشكلة الحقيقية فلم تبيّنها، وهي ليست مما يمكن حله تماماً طالما نحن على هذه الأرض، لأنها تنطوي على فهم اتحاد الشخصية في كائن هو إله وإنسان. وهنا اسمح لي أن ألفت انتباهك إلى ما يقوم به علماء النفس منذ مئات السنين من أبحاث لدرس طبيعة الشخصية البشرية، دون أن يعرفوا إلا اليسير. فكم بالحري لا نستطيع أن نفهم الشخصية الإلهية، إلا بقدر ما أعلنه لنا الله غير المحدود عن ذاته بمصطلحات الفكر البشري واللغة البشرية. كان رسول الجهاد العظيم بولس من أعظم مفكري عصره، وقد أوُحي إليه فكتب لنا أشياء مجيدة جداً عن الرب يسوع. ولكنه مع ذلك قال: الْآنَ أَعْرِفُ بَعْضَ الْمَعْرِفَةِ 1كورنثوس 13:12. وليس في وسعنا أن نحيط بطبيعة شخص اتحد فيه العنصر الإلهي والبشري. وقبلنا تأمل إشعياء النبي في شخصه، وإذ لم يستطع أن يحلل شخصيته قال: ويُدعى اسمه عجيباً .
وأنت نفسك يا صديقي الكريم، يجتمع فيك عنصر النفس العاقلة المفكرة وعنصر الجسد البشري، وهذا الاتحاد بين النفس والجسد ما زال سراً لا يعرف أحد كيف يبدأ ولا كيف يستمر ويعمل. ونحن ندرك أن هذا الاتحاد لم يحصل اعتباطاً، بل هو تناسق تام تتعاون فيه كل العناصر. وحياتك الجسدية لا تبطل ولا تنسخ باتحاد حياة الروح معها. فهل تستطيع أن تعطي بياناً وافياً عن سر هذا الاتحاد العجيب بين الجسد والروح في شخصك،
هكذا نحن الذين لم تتوفر لدينا إلا معرفة محدودة عن الله، أعلنها لنا بمصطلحات تدريها أفهامنا المحدودة! إننا لن نقدر طالما نحن على الأرض أن ندرك سرائر الله، ولكن تعزّينا كلمة قالها الرسول بولس مسوقاً بالروح القدس: لكِنْ حِينَئِذٍ سَأَعْرِفُ كَمَا عُرِفْتُ 1كورنثوس 13:12. وبانتظار ذلك نكتفي بما أفصحت عنه الكتب المقدسة التي بين أيدينا عن المسيح، الذي نرى فيه هذا الاتحاد بين العنصرين الإلهي والبشري، الاتحاد الذي يرينا المسيح إنساناً كاملاً وإلهاً كاملاً. فهو اتحاد لم تتعطل به إحدى الطبيعتين، ولم تُنقض أيّهُما.
فكإنسان وُلد تحت الناموس، وكطفل بشري نما، وكصبي بشري جلس عند قدمي المعلمين يسمعهم ويسألهم، وكإنسان جاز اختبار التجربة. ولكنه كإله انتهر عناصر الطبيعة، وأسكت البحر الهائج، وأقام الموتى، وغفر الخطايا، وطهر البرص، وأعطى كل الذين قبلوه سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه.
أنا لا أستغرب حيرتك أمام هذا الأمر، ولا أستنكر تساؤلك، كيف يكون المسيح إلهاً ويُجرَّب، ولكن قبل أن أختم جوابي هذا أرى لزاماً عليَّ أن أحيطك علماً بوظيفة ربنا يسوع الكهنوتية. فالكتاب المقدس يعلمنا أنه رئيس كهنة. وإنها لتعزية كبرى في وسط تجارب الطريق، أن نعلم أن لنا رئيس كهنة عظيماً رحيماً، نستطيع أن نلجأ إليه في وقت الضيق. وإنه لأمر مبارك أن نعلم أنه ليست هناك ذرة من الاختبارات التي نمرّ فيها تصغر أو تدقّ عن قوة ملاحظة رئيس كهنتنا العظيم. وليس هناك تجربة نخجل أن نتحدث عنها أمام الناس، لا يمكننا أن نهمس بها في أذن يسوع المبارك. لقد تجرَّب في كل شيء بلا خطية، وهذا أهّله أن يكون رئيس كهنة رحيماً، يتلقّى اعترافنا ويرسل إلينا عوناً من قدسه. لقد اجتاز - بالفعل - تجاربنا واختباراتنا، فهو إذن ليس فقط له عِلم إلهي بأحوالنا وضعفاتنا وحاجاتنا وأحزاننا، بل قد اختبر هذه الأحوال والحاجات والأحزان. إنه ملمٌّ بالمعنى الكامل لظروفنا، وبطريقة تفوق بما لا يُقاس اختبار أكبر القديسين نضوجاً، لأنه اختبرها دون أن يرتكب الخطية التي تبّلد مشاعرنا.
- عدد الزيارات: 8380