صلب المسيح وموته في الإسلام - التأويل الطبيعي
(ب) التأويل الطبيعي
لكي نتخلّص من كل الإشكالات التي لا داعي لها، والتي خلقها العلماء المسلمون لدى تأويلهم لفظة متوفِّيك، من غير أننلجأ لأساليب السفسطة التي لا طائل منها. علينا أن ندرس معاني هذه اللفظة كما جاءت في القرآن.
لقد وردت لفظة 'متوفيك' ومشتقاتها خمساً وعشرين مرة في القرآن وكلها بمعنى الموت وقبض الروح، باستثناء موضعين فقط حيث دلت القرينة فيهما أن الوفاة هنا تحمل مجازاً معنى النوم. وهذان الموضعان هما أولاً: 'وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ' (سورة الأنعام 6: 60). وثانياً: 'اللهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا' (سورة الزمر 39: 42). (راجع الآيات التالية: البقرة 2: 234 و240، آل عمران 3: 55، النساء 4: 50، المائدة 5: 117، الأنعام 6: 61، الأعراف 7: 37 و125، الأنفال 8: 50، يونس 10: 46 و104، يوسف 12: 101، الرعد 13: 40، النحل 16: 28 و32 و70، الحج 22: 5، السجدة 32: 11، غافر 40: 67 و77، محمد 47: 27). ولكن عندما نتأمل في الآيتين المتعلّقتين بموت المسيح لا نجد أية قرينة يمكن أن تنمَّ عن أي معنى مجازي في لفظة متوفيك. هي لفظة صريحة تحمل في ذاتها معنى الموت، بغض النظر إن كان هذا الموت صلباً أو موتاً طبيعياً. هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يمكننا أن نستقرئ من دراستنا لآية: 'فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ' (سورة المائدة 5: 117) أن الرقابة على أتباع المسيح قد أصبحت في عهدة الله. وهذا إن دلَّ على شيء إنمايدل على أن المسيح قد مات ولم يعد له من سلطان على أتباعه طبقاً للنص القرآني. فمن وجهة نظر إسلامية إن كان المسيح لم يمت حقاً بل رُفع فإنه بحكم بقائه حياً ورفعه روحاً وجسداً، يظل قادراً على الرقابة والشهادة عليهم أو لهم. ولكن طبقاً للآية المذكورة أعلاه فإن المسيح قال: 'وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ' (سورة المائدة 5: 117) يشير بطريقة غير مباشرة إلى موته، وكأنما يقول: 'أما الآن بعد أن أمتَّني أو توفّيتني لم يعد لي عليهم رقابة، وكل شيء منوط بك لأنك أنت وحدك الحي القيوم'. ويمكن تطبيق القاعدة عينها على قوله: 'وَأَوْصَانِي بِالصَّلاَةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً' (سورة مريم 19: 31)، فمن حيث أن المسيح ما برح حياً بلحمه ودمه في السماء إذ رُفع كما هو، فهل ما زال يزكّي هناك، كفرض عليه، لأنه مأمور أن يفعل ذلك ما دام حياً؟[3]
وقد جاء الحديث الصحيح يشهد في أكثر من مكان واحد لهذه الحقيقة، فنقرأ في صحيح البخاري ج 1، رقم 3263 ما نصه:
'حدّثنا محمد بن سيرين... عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله: تحشرون حفاة، عراة، غرلاً، ثم قرأ: 'كما بدأنا أول خلق نُعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين'. فأول ما يكسى إبراهيم، ثم يؤخذ برجال من أصحابي ذات اليمين وذات الشمال. فأقول: أصحابي. فيقال: إنهم ما زالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم. فأقول كما قال العبد الصالح عيسى ابن مريم: 'وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ'[4] .
لقد اقتبس محمد نفس العبارة القرآنية التي ترددت على لسان المسيح في سورة المائدة 5: 117، ونحن نعلم أن محمداً قد مات ولم يدَّع أحد من المسلمين أنه قد رُفع. لهذا فحين استخدم محمد الآية القرآنية أعلاه فإنه أشار بلفظة 'توفيتني' إلى موته وليس إلى رفعه، ولا يجوز في هذه الحال أيضاً أن نتلاعب في تفسير هذه المصطلحات على حساب الحقيقة ولا سيما حين ينتفي وجود القرينة. فهذه اللفظة إذاً بمعناها الطبيعي أي الموت تنطبق على عيسى كما تنطبق على محمد. أما الفارق بين الاثنين في حدود حادثة الموت أن المسيح قام من بين الأموات في اليوم الثالث، وسيأتي ثانية لا ليموت - لأنه قد مات وقام - بل ليدين الأحياء والأموات حسب ما جاء في الإنجيل المقدس المعصوم، بينما محمد قد مات ولن يقوم إلا في يوم الدين.
بالإضافة إلى النصوص القرآنية التي وردت فيها لفظة الوفاة بمعناها العام المتداول بين العرب القدامى، فإننا نرى أن الأحاديث النبوية المتفق عليها تستخدم نفس هذا الاصطلاح بمعنى الموت. فقد جاء عن أنس أنه قال:
'قال رسول الله... لا يتمنّين أحدكم الموت لضرٍّ أصابه، فإن كان لا بدّ فاعلاً فليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفَّني إذا كانت الوفاة خيراً لي'[5] .
وكذلك ورد في حديث آخر:
'عن ابن عباس... أن علي بن أبي طالب... خرج من عند رسول الله... في وجعه الأخير الذي توفي فيه...'[6] .
ونعثر في القرآن على ثلاث آيات يخاطب فيها الله محمداً بقوله لنتوفينَّك بمعنى لنميتنَّك. وقد وردت هذه اللفظة في سورة يونس 10: 46، وسورة الرعد 13: 40، وسورة غافر 40: 77. وبمقارنة هذه اللفظة مع متوفيك وتوفيتني في النصين المتعلقين بموت المسيح لا نجد بينهما أي فارق لغوي أو معنوي. ولدى مراجعة بعض كتب التفاسير الإسلامية المرموقة في معنى لنتوفينَّك لم أجد مفسراً واحداً يتوقف عندها ليدقق في مضمونها، لأن هؤلاء المفسرين قد اعتمدوا المعنى الطبيعي لهذه اللفظة وهو الموت. لهذا لم يجهدوا أنفسهم في تفسيرها كما جهدوا في تفسير النصين المختلف عليهما بشأن موت المسيح، لأن تفسير الآيات المختصة بموت محمد لا تشكل لهم حرجاً، بينما الإقرار بموت المسيح يخلق لهم مشكلات لا حصر لها، أهمها تعليل كيفية موته. وفي هذه الحالة لن يتوافر لهم أي مصدر يرجعون إليه سوى الإنجيل والوثائق التاريخية يستفتونها، وهي جميعها تؤيد بشواهدها المختلفة موت المسيح صلباً. فإن أخذوا بهذه الشواهد فإنهم ينقضون في لحظات كل ما اعتمدوه من منطق في الدفاع عن الإسلام ومهاجمة المسيحية. وهذا أمر لا يجرؤ مسلم على الإقدام عليه.
إن مثل هذه المواقف في تفسير الآيات القرآنية تُفقد الباحث الثقة في شروحات العلماء لما فيها من تناقض وسفسطة كلامية وبلبلة فكرية.
إذا فالمعنى المألوف لاصطلاح الوفاة في أغلبية النصوص القرآنية والأحاديث، إلا ما اقتضت به القرينة، هو الموت. ولا جدوى من السفسطة الكلامية التي من شأنها أن تولد بلبلة في عقول الناس وتنأى بهم عن الحقيقة. والواقع لو كان المقصود من لفظة 'متوفيك' هو إنهاء مدة إقامة المسيح على الأرض برفعه لما كان هناك حاجة إلى القول 'إني متوفيك' إذ يمكن أن ترد العبارة، بكل بساطة 'إني رافعك إليّ' من غير متوفيك.
ولكن قد يتساءل البعض ويقول:كيف يمكن أن توفق بين ما ذكرته آنفاً وبين الآية الواردة في سورة النساء 4: 157:
'وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً'.
لكي نجيب عن هذا السؤال لا بد أن نلقي بعض الأضواء على طائفة من الحقائق التي من شأنها أن تبدد بعض ما يكتنف هذه الآية من غموض ما برح مفسرو المسلمين يتخبطون في متاهاته. وأهم هذه الحقائق هي:
إن الآية تقول: 'َمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ...' وكل ذلك لا ينفي إطلاقاً موته ولو موتاً طبيعياً. قد تنفي موته قتلاً أو صلباً إن أخذناها على ظاهر النص. ولكنها لا تستبعد الموت الطبيعي. وأرى أن هذا الاعتبار يتفق تمام الاتفاق مع ما ألمحنا إليه سابقاً بما يختص بلفظة متوفيك، ولا سيما إذا تحررنا من سفسطات المفسرين الذين رأوا في وقوع الموت على عيسى تهديداً لكل ما أشاعوه من تفسيرات تهرباً من تاريخية موت المسيح. فموت المسيح معناه تفنيد الادعاء بموت مستقبلي عند رجوعه في آخر الزمان وبالتالي تثبت الآيات القرآنية صحة دعوى المسيحيين عن موت المسيح ، وهذا أمر يأباه المسلمون. ثم إن كان المسيح قد مات حقاً فلا يجوز حكماً أن يموت ثانية، لأن موت المسيح كان من أجل فداء الإنسان، وقد دفع الثمن غالياً مرة وإلى الأبد. وفي هذه الحالة لم يكن موت المسيح كموت أي إنسان عادي لارتباطه الوثيق بخلاص الجنس البشري وفقاً للخطة الإلهية المباركة.
ورد في رسائل إخوان الصفاء - وهي حركة دينية سياسية علمية ظهرت في العصر العباسي - ما نصه:
ولما أراد الله تعالى أن يتوفاه (المسيح) ويرفعه إليه، اجتمع معه حواريوه في بيت المقدس، في غرفة واحدة مع أصحابه وقال: إني ذاهب إلى أبي وأبيكم. وأنا أوصيكم بوصية قبل مفارقة لاهوتي. وآخذ عليكم عهداً وميثاقاً. فمن قبل وصيتي وأوفى بعهدي كان معي غداً ومن لم يقبل وصيتي فلست منه في شيء ولا هو مني في شيء.
... وخرج من الغد وظهر للناس، وجعل يدعوهم ويذكرهم ويعظهم، حتى أُخذ وحمل إلى ملك بني إسرائيل، فأمر بصلبه. فصُلب ناسوته، وسُمِّرت يداه على خشبتي الصليب، وبقي مصلوباً من صحوة النهار إلى العصر. وطلب الماء فسقي الخل، وطُعن بالحربة، ثم دُفن مكان الخشبة. ووُكِّل بالقبر أربعون نفراً. وهذا كله بحضرة أصحابه وحوارييه[7] .
هذا الشاهد وإن ورد في وثيقة متأخرة قليلاً عن عصر محمد فإنه ينطوي على حقيقة هامة، وهي أن بعضاً من المفكرين المسلمين في ذلك العهد قد فهموا النصوص القرآنية فهماً مخالفاً للتأويلات الإسلامية التقليدية، واستطاعوا بتجرد موضوعي أن يتحرروا من طغيان المفسرين المشوّه.
ونجد في عبارة 'وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَاً' المبتورة تأكيداً غير مباشر على موت المسيح قتلاً أو صلباً، لأنها تتبع حكماً ما سبق من قوله: 'وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ'. فما هو مصدر هذا اليقين؟ لقد أثبتنا بالأدلة المفحمة أن المسيح قد مات مصلوباً، ولكن عملية الصلب هذه كانت المرحلة الأولى في درب الفداء. أما المرحلة الثانية فقد تكللت بالقيامة، أي إن مصدر اليقين هو القيامة التي أحبطت مؤامرات أعداء المسيح، فكان المسيح في قيامته وكأنه لم يُصلب أو يُقتل لأنه خرج من المعركة حياً ظافراً.
أما النفي هنا فليس نفياً للقتل أو الصلب، إنما هو نفي تحقيق هدف أعداء المسيح من صلبه. لقد ظنوا أنهم قد تخلصوا منه إلى الأبد، وإذا بالمسيحية تزدهر وتنمو حتى في الحقبةالتي عاش فيها أبطال المؤامرة. إن سهمهم قد ارتد عليهم فأصاب منهم مقتلاً.
أما عبارة 'شُبّهَ لَهُم' فلها، في نظري دلالات خطيرة تقتضي أن نتوقف عندها ونتأملها بموضوعية إذا أردنا حقاً أن ندرك مراميها في إطار عصرها الفكري والديني. ويدعونا المنطق السليم أن نعالج هذه القضية على مستويين هما: المستوى القرآني والمستوى التفسيري.
عندما وردت هذه الآية كان الغرض منها،كما يبدو، الكشف عن مؤامرة اليهود وإظهار عجزهم أمام الإرادة الإلهية التي شاءت غير ما شاءوا. ودليلنا على ذلك نص قرآني آخر في سورة آل عمران 3: 54 جاء فيه 'وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ' في سياق الحديث عن اليهود ومواقفهم من المسيح. وقد وقعت هذه الآية مباشرة قبل قوله: 'إِذْ قَالَ اللهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ...' (سورة آل عمران 3: 55) فجاءت 'إذ' هنا أداة صلة بين آيتين تنطويان على صراع غير متكافئ بين إرادة الله وإرادة أعداء المسيح، أي أعداء الله. يقول الأستاذ حداد في كتابه القيّم 'القرآن والمسيحية':
فصراحة النص وقرائنه تجعله شهادة رسمية لسلطة مسيحية بأن اليهود مكروا بالمسيح فقتلوه وصلبوه فكان مكر الله بهم خيراً من مكرهم، إذ بعث عيسى حياً بعد قتله وصلبه (ص 45).
لقد مكر اليهود وخططوا لإهلاك المسيح، ونجحت خطتهم إلى حين. ولكن مكر الله كان خيراً من مكرهم إذ قام المسيح حياً في اليوم الثالث، ثم بعد أربعين يوماً ارتفع إلى السماء. إذاً لم يكن مكر الله باليهود برفعه وإنقاذه من أيديهم، لأن مثل هذا التأويل يتناقض مع الحقائق التاريخية المختلفة والحجج المنطقية والبينات القرآنية التي استقينا منها أدلتنا، إنما كان ببعثه حياً. هكذا مكر الله بهم وأحبط خطتهم بعد أن ظنوا - وهذا هو المعنى الحقيقي لشُبِّه لهم - أنهم بقتل المسيح وصلبه قد تخلصوا منه نهائياً. لم تكن قيامة المسيح انتصاراً على خطة اليهود فقط بل كانت انتصاراً على الموت أيضاً.
ويشير أبو موسى الحريري في كتابه 'قس ونبي' إلى عقائد بعض الفرق الأبيونية الهرطوقية التي ادعت:
أن المسيح يتحول برضاه من صورة إلى صورة، فقد ألقى في صلبه شبهه على سمعان، وصُلب سمعان بدلاً عنه، فيما هو ارتفع إلىالسماء حياً إلى الذي أرسله، ماكراً بجميع الذين مكروا للقبض عليه. لأنه كان غير منظور للجميع (ص 129).
وهكذا يتبين لنا أن قيامة المسيح من بين الأموات في اليوم الثالث حسب ما أشار هو به عن نفسه ووفقاً لما جاء في النبوّات كانت الإحباط الحقيقي لمؤامرات اليهود وخططهم.
غير أن عبارة 'شُبِّه لهم' بمعنى ظنّوا أو خيِّل إليهم، تحولت عند المفسرين المسلمين إلى 'شُبِّه له' وركزوا أشد التركيز على شخصية الشبيه. وهنا الفارق الكبير بين النص القرآني وتأويلات المفسرين. ولم يجد المفسرون المسلمون مصدراً يستلهمون منه تأويلاتهم التي تتفق مع عقيدتهم بشأن المسيح وصلبه إلا ما وصل إليهم من مفاهيم هراطقة الدوكيتيين والأبيونيين والغنوسيين كما رواها لهم أصحابها ممن أسلموا أو مما سمعوه من مفكريهم مباشرة، لأنه لم يكن لديهم أي شاهد تاريخي أو أثري أو ديني سواهم يعتمدون عليه في تأويل هذه الآيات. ولسنا ندَّعي هذا اعتباطاً فلدينا من المصادر الإسلامية ما يغنينا عن أي استقراء.
ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك ما رواه وهب بن منبه (646-733 م) الذي اشتهر بمعرفته أخبار أهل الكتاب وعدُّ من التابعين. ولكن يبدو أن معارفه لم تتعدَّ أخبار مؤلفات الفرق الهرطوقية المسيحية، والكتب الأبوكريفية والتلمود، وأن معارفه في الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد كانت معرفة سطحية. فقد اعتمد في رواياته على أخبار هذه الفرق التي هي مزيج من النص الكتابي وتأويلات مفسريهم الغنوسيين والدوكيتيين والأبيونيين. هذا الراوية أخذ عنه مؤرخو العرب كثيراً 'من أحاديث الأنبياء والعباد وأحاديث بني إسرائيل'. ومن جملة ما نقل عنه الثعلبي قصة الظلمة التي أحاقت بالأرض عند صلب المسيح قال وهب:
فأخذوه واستوثقوا منه، وربطوه بالحبل، وجعلوا يقودونه ويقولون: أنت كنت تحيي الموتى، وتبرئ الأكمه والأبرص أفلا تفك نفسك من هذا الحبل؟ ويبصقون عليه، ويلقون الشوك عليه. ثم إنهم نصبوا له خشبة ليصلبوه عليها، فلما أتوا به إلى الخشبة أظلمت الأرض وأرسل الله الملائكة فحالوا بينهم وبين عيسى وألقي شبه عيسى على الذي دلهم عليه واسمه يهوذا فصلبوه مكانه وهم يظنون أنه عيسى، وتوفَّى الله عيسى ثلاث ساعات ثم رفعه إلى السماء، فذلك قوله تعالى: 'إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا...' . فلما صُلب الذي هو شبه عيسى جاءت مريم أم عيسى وامرأة كان عيسى دعا لها وأبرأها من الجنون تبكيان عند المصلوب، فأتاهما عيسى وقال: على من تبكيان؟ فقالتا: عليك. فقال: إن الله تعالى رفعني فلم يصبني إلا خير وإن هذا الشخص شُبّه لهم8 .
وفي صفحة 360 نجد مقتطفات بتصرف من خطاب المسيح إلى حواريّيه في الليلة التي أسلم فيها.
وكان وهب هذا يقول: 'لقد رأيت إثنين وتسعين كتاباً كلها من السماء: إثنان وسبعون منها في الكنائس وفي أيدي الناس، وعشرون لا يعلمها إلا القليل'9 . لا شك أن الإثنين وسبعين كتاباً التي أشار إليها وهب هي أسفار العهدين القديم والجديد الستة والستون كما نعرفها اليوم. بالإضافة إلى كتب الأبوكريفا التي اعتمدتها بعض الطوائف. أما العشرون كتاباً الآخرون فهي بلا ريب كتب غنوسية اقتصر شيوعها بين الفرق الغنوسية والأبيونية وأصحاب البدع. أما كونها كلها من السماء فهذا أمر فيه نظر لأن وهب كما يبدو، كان لا يميّز بين ما هو موحى به من الحق الإلهي والمؤلفات الهرطوقية.
وأورد الطبري في تفسيره على لسان وهب قصَّة مماثلة مع اختلاف يسير في النص إذ ادّعى أن عيسى بقي هناك سبع ساعات قبل مجيء أمه ورفيقتها.
ويقول ابن الأثير في تاريخه الكامل: ورفع الله المسيح إليه بعد أن توفاه ثلاث ساعات، وقيل سبع ساعات، ثم أحياه ورفعه ثم قال له: انزل إلى مريم، فإنه لم يبك عليك أحد بكاءها ولم يحزن أحد حزنها. نزل عليها بعد سبعة أيام، فاشتعل الجبل حين هبط نوراً، وهي عند المصلوب تبكي ومعها امرأة كان أبرأها من الجنون. فقال: ما شأنكما تبكيان؟ قالتا: عليك! قال: إن الله رفعني إليه ولم يصبني إلا خير، وإن هذا شبه لهم، وأمرها فجمعت له الحواريين فبعثهم في الأرض رسلاً عن الله وأمرهم أن يبلغوا عنه ما أمره الله به. ثم رفعه الله إليه وكساه الريش وألبسه النور وقطع عنه لذة المطعم والمشرب. وطار مع الملائكة فهو معهم فصار إنسياً ملكياً، سماوياً، أرضياً10 .
فعلى الرغم مما في هذه القصة من تخليط وتشويه، فإنها تكشف بصورة قاطعة عن مدى تأثر الرواة المسلمين بالمذهب الأبيوني، ولا سيما بما يتعلق بحالة المسيح بعد موته وطبيعته التي صار عليها بعد صعوده. والغريب في الأمر هو تقبل الرواة المسلمين وجود طبيعتين للمسيح. إنسية - ملكية أو سماوية - أرضية، ومع ذلك يستنكرون قول المسيحيين بلاهوت المسيح وناسوته.
ولكن مما يدعو حقاً إلى الدهشة أننا لا نعثر على أي حديث نبوي صحيح يؤكد فيه على موضوع الشبيه إيضاحاً لما جاء في النص القرآني، علماً أن مشكلة الصليب هي من أبرز نقاط الخلاف بين المسيحية والإسلام. فكل ما تواتر إلينا من أخبار هي من مزاعم المفسرين والرواة الذين أولعوا بالغريب والمثير التي لو أمكن تحري مصادرها كلها لوجدنا أصولها في أساطير الأولين، والمؤلفات التي كانت شائعة في العصر. ولعل خير ما جاء في هذا الصدد كتاب 'مصادر الإسلام' لمؤلفه 'سنكلير تسدل' الذي استطاع أن يتتبع معظم قصص المفسرين والرواة المتعلقة بالأخبار الكتابية إلى مظانّها الأولية. فلماذا أغفل الحديث النبوي تفسير هذه الآيات المبهمة؟ مع العلم أن كتب السير والأحاديث قد أوردت لنا مجموعة كبيرة من التفاسير والشروحات لآيات أكثر وضوحاً ألقاها محمد على أصحابه.
فماذا نستخلص من هذه البيّنات؟
أولاً: إن تأثير هرطقات الفِرق الدينية المسيحية التي كانت مزدهرة في عصر ظهور الإسلام كان عميقاً على مواقف المفسرين الذين تلقوا أخبارهم بما يختص بالعقائد اليهودية والمسيحية من رواة أو علماء اقتصرت معارفهم على علوم تلك الفرق وبدعهم. ومن الجلي أن وهب هذا كان مطلعاً على مبادئ الدوكيتيين والأبيونيين والغنوسيين.
ثانياً: إن بعض هؤلاء الرواة كانوا قد أسلموا كمثل وهب بن منبه، فحملوا معهم بذور عقائدهم الأولى وحاولوا أن يوفقوا بينها وبين تعاليم الإسلام. والواقع أن ما رواه وهب كان أقرب شيء إلى معتقدات المسيحيين. ولعله سعى من وراء ذلك أن يقوم بعملية توفيقية واعية مقصودة للتقريب بين وجهتي نظر متباينتين11 .
ثالثاً: نجد في رواية وهب دليلاً تاريخياً على صحة ما نقله إلينا الإنجيل من قصة الظلمة مما يخالف ما جاء عن حادث الرفع المباشر الذي ورد ذكره في القرآن. وأرى لزاماً عليّ أن أشير هنا إلى حديث نبوي متفق عليه جاء فيه:
وعن أبي عبد الرحمن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: كأني أنظر إلى رسول الله... يحكي نبياً من الأنبياء، صلوات الله وسلامه عليهم، ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه، يقول: 'اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون'12 .
فمن هو النبي الذي ردد هذه الكلمات؟ وفي أي مناسبة؟ إن الباحث في الكتاب المقدس بأكمله لا يعثر على مثل هذا النبي في العهد القديم، وإنما يجد تقريراً ضافياً عما تعرض له المسيح من إهانة وآلام ثم تعليق على خشبة الصليب، وهناك في لحظاته الأخيرة قال:
'يَا أَبَتَاهُ، اغْفِرْ لَهُمْ، لأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ مَاذَا يَفْعَلُونَ' (لوقا 23: 34).
هذا هو النص الكامل لدعاء المسيح على الصليب في لحظة هي من أشد لحظات الألم التي يتعذر على العقل البشري أن يتصورها. والحق يُقال أن ما أورده الحديث هو دليل آخر وإن كان غير مباشر، على صدق الكتاب المقدس. وهذا الحديث بالذات يتنافى مع ادعاء الرفع المباشر الذي يخلو كلياً من أي ذكر لآلام المسيح، إن في القرآن أو في تأويلات المفسرين.
أما الآيتان 15 و33 الواردتان في سورة مريم في السلام على يحيى وعيسى في يوم مولدهما وموتهما وبعثهما فهما، في رأيي برهان آخر على موت المسيح لسببين أساسيين هما:
أولاً: إن جميع المفسرين المسلمين يُجمعون علىأن يحيى قد مات وأن آية 'وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيّاً' التي قيلت فيه مماثلة في صياغتها اللغوية للآية التي نطق بها عيسى عن نفسه: 'سَلاَمٌ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ ويَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً' (سورة مريم 19: 15 و33). فلماذا إذاً لا يطبق المفسرون المسلمون على عيسى نفس التأويل الذي طبقوه على يحيى؟ لماذا يتلاعبون بتفسير الآيتين وفقاً للأهواء والنوايا المغرضة؟ لماذا يقولون في شرح الآية الأولى إنها تشير حقاً إلى موت يحيى ويزعمون أن لفظة 'أموت' في الآية الثانية تعني الموت المستقبلي في آخر الزمان؟
ثانياً: إن الوثائق التاريخية، والبينات القرآنية، والقرائن المنطقية التي اعتمدناها واستقرأناها من بطون الكتب، والمراجع الموثوق بها، تثبت أن لفظة 'أموت' الواردة في الآية أعلاه كانت تلمح إلى موت المسيح القريب وليس إلى ما سيحدث في آخر الزمان. أضف إلى ذلك أن ابن عباس المعروف بترجمان القرآن وسواه من المفسرين الذين كانوا أقرب منا إلى اللغة قد فهموا أن الإشارات المختلفة المبثوثة بين آيات القرآن عن وفاة المسيح توعز إلى موته القريب بغض النظر إن كانت الوفاة ثلاث ساعات أو سبع ساعات.
قال الدكتور محمود شلتوت شيخ الأزهر الأسبق:
إن عبارة توفَّيتني... تحمل في ذاتها معنى الموت العادي. وليس هناك من سبيل لتأويل 'الموت' بأنه سيقع بعد رجوع (المسيح) من السماء، على فرض أنه الآن حي في السماء، لأن الآية تحدد بكل وضوح علاقة عيسى بقومه في زمانه وليس بعلاقته بأهل زمان رجوعه... فإن كل ما تعنيه الآيات التي تشير إلى هذا الموضوع هو أن الله قد وعد المسيح أنه سيتمم له حياته وأنه سيرفعه إليه13 .
وفي هذا الصدد يقول G. Parrinder 'إن قواعد الآية 33 القرآنية من سورة مريم لا تتضمن المعنى المستقبلي الذي يوحي بالموت بعد المجيء الثاني. إن المعنى البسيط، كما يبدو، هو الموت الجسدي في نهاية حياته الإنسانية الأرضية يومئذ'14 .
وينبر أحد الكتاب المحدثين على أن الله يخاطب في سورة آل عمران 3: 55 المسيح بما معناه 'حقاً أنا الذي أدعوك للموت' أو 'إنه أنا الذي أميتك'15 .
ويشير Neal Robinson في كتابه Christ in Islam and Christianity إلى أن:
الثلاث آيات المتعلقة بمحمد والآيتين المتعلقتين بالمسيح (وهي الآيات التي وردت فيها ألفاظ: متوفيك وتوفيتني ولنتوفينَّك) هي وحدها الآيات التي ورد فيها الفعل مبنياً للمعلوم والله هو الفاعل، وأحد أنبيائه هو المفعول به، وأكثر من هذا فإن في هاتين المجموعتين من الآيات تأكيداً متماثلاً على أن الله هو الشهيد على أعمال الناس وأن الناس إليه يرجعون في يوم الدين16 .
والسؤال المطروح أمامنا هو: شُبِّه لمن؟
لا شك أن المقصود في النص القرآني بكلمة 'لهم' هم اليهود والرومان الذين أقدموا على صلب المسيح. ولكن ماذا عن حواريي المسيح وأمه وأتباعه؟ فهل شُبه لهم أيضاً؟ إن القرآن يسكت عن ذكرهم إذ من الجلي أنهم لم يكونوا من الذين 'شُبِّه لهم'. بمعنى آخر إن الحواريين الذين كانوا موجودين هناك لم يقعوا في فخ 'شُبِّه لهم' بل أدركوا أن المصلوب هو المسيح بالذات وليس سواه. ولعل أكبر دليل على ذلك أن الحواريين ورسائلهم المكتوبة بوحي من الروح القدس، محورها صلب المسيح وقيامته. هذا مع العلم أنه لم يوجد أي دليل وثائقي أو تاريخي يمكن الاعتماد عليه يثبت أن اليهود والرومان كانوا في شك من حقيقة المصلوب. فيهوذا قد انتحر وعثروا على جثته ودفنوها في حقل الفخاري، والظلمة خيمت بعد أن استودع المسيح روحه على الصليب بين يدي الآب السماوي وليس قبل أن يُصلب كما يزعم بعض الرواة المسلمين، ومريم أم المسيح وبعض حوارييه وأتباعه كانوا حاضرين عند صلبه، وجثمان المسيح طُيِّب وكُفِّن بأيدي مَن يعرفونه حق المعرفة، وكذلك الجنود الرومان الذين أشرفوا على صلب المسيح، واقتسموا ثيابه، وطعنوه بالحربة. هؤلاء لم تخالجهم أية ريبة في حقيقة المصلوب، بل إن قائد المئة والحراس الذين كانوا معه إذ شاهدوا الظلمة ثم الزلزلة اعتراهم رعب شديد، وقالوا: 'حقاً كان هذا ابن الله'. وأكثر من ذلك فإن القبر الفارغ أكبر برهان على حقيقة شخصية المصلوب. فلو كان المصلوب غير المسيح أكان بوسعه أن يقوم من الأموات ثم يظهر للحواريين وأتباعه لمدة أربعين يوماً؟
والحق يُقال، إن كل ما لدينا من وثائق معتمدة تدحض بقوة كل زعم أن المصلوب كان الشَّبيه، فأيُّ عذر بعد للمتشككين والرافضين؟
أما النص الأخير من آية 157 من سورة النساء:
'وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً'.
فيشوبها كثير من الغموض إن أخذناها على ظاهر النص لأنها في الواقع لا تتفق مع السياق العام للحادث. فقد بينا أعلاه أن حواريي المسيح لم يقعوا في فخ الشبه، وأنه لا يوجد أي برهان على أن الرومان واليهود كانوا في شك منه. إذاً من هم الذين اختلط عليهم الأمر؟
نجيب بكل بساطة، إنها الفرق المسيحية المختلفة التي كانت منتشرة في شبه الجزيرة العربية عند ظهور الإسلام. صحيح أن القرآن كان يتكلم عن صلب المسيح ولكنه في سياق ذلك كان يعكس حركات التيارات الدينية والاتجاهات اللاهوتية التي كانت سائدة في زمانه. فالدوكيتيون والأبيونيون وسواهم من الفرق الهرطوقية من أصحاب الشبيه كانوا على خلاف مستمر مع المسيحية الكتابية التي تنادي بحقيقة صلب المسيح ولا تؤمن بخرافة الشبيه التي تخالف تعليم الكتاب المقدس17 .
ومن الواضح أيضاً أن القرآن قد اتخذ موقفاً مؤيداً لعقائد الفرق الهرطوقية فانضم إليهم في صراعهم ضد المسيحية الكتابية. وأُرجِّح أن السبب الرئيسي في ذلك هو اقتصار اطلاع محمد على تعاليم هذه الفرق دون سواها، والتي تركت أثراً بليغاً في اتجاهه الديني. أضف إلى ذلك أن بعضاً من أتباع هذه الفرق قد انضموا إلى دعوته لأنها لم تتناف، في معظمها، مع ما كان يدعو إليه. وعلى ضوء هذا الترجيح يمكننا تعليل مواقف القرآن المتناقضة من المسيحيين، فالذين كان يطريهم هم فرق الشَّبيه من النصارى، أما الذين هاجمهم فهم أهل الإنجيل الذين آمنوا بموت المسيح وصلبه. ولعل قصة حواره مع مسيحيّي نجران وخلافه معهم حول لاهوت المسيح دليل ساطع على هذه الحقيقة.
ومن المعروف أن أهل الكتاب كانوا يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام18 . أما موقف محمد من ذلك فغير واضح تماماً. فتارة نراه يبيح للمسلمين الأخذ عن أهل الكتاب. وطوراً نراه يحظر عليهم19 . بيد أن محمداً نفسه كان أحياناً يعقد حلقات حوار دينية مع أهل الكتاب من يهود ونصارى، بل كان يزور الكنيس اليهودي في يثرب20 . وتخبرنا كتب السيرة الإسلامية أن محمداً كان على صلة وثيقة بأحد أبرز الشخصيات المسيحية في مكة هو ورقة بن نوفل21 . كان ورقة ابن عم خديجة أُولى زوجات النبي. ويبدو أن علاقة محمد بورقة تعود إلى عهد مبكر جداً من حياة الدعوة الإسلامية22 ، كما أن ورقة بصفته الدينية والاجتماعية قام بعقد مراسيم زواج محمد بخديجة23 . وكان محمد آنئذ في الخامسة والعشرين من عمره. وعندما عاد محمد من غار حراء وروى لزوجته خديجة رؤياه أسرعت به إلى ابن عمها ورقة تسترشد برأيه خشية أن يكون قد أصاب زوجها مكروه. ولا شك أن محمداً الذي رفض أن يعبد آلهة مكة قد وجد في ورقة بن نوفل خير مرشد ديني يأنس إليه ويأخذ برأيه، وهو الخبير الضليع بشؤون الدين وأسفار أهل الكتاب. لقد عاصر محمد ورقة ما لا يقل عن ثماني عشرة سنة، خمس عشرة منها قبل الدعوة، وثلاث بعد الدعوة. وفي غضون هذه الفترة كما يبدو، لم يكف محمد عن البحث والتأمل. ويلوح لي أن ورقة بما تمتَّع به من معرفة باللغة العبرانية ونزعته التوحيدية كان المصدر الرئيسي في تغذية ذهن محمد بمفاهيمه الدينية. إن المصادر الإسلامية نفسها تؤكد لنا أن ورقة كرئيس للجالية المسيحية في مكة قد انهمك في ترجمة إنجيل العبرانيين الأبيوني إلى اللغة العربية24 . بالإضافة إلى ذلك فإن بعض الدارسين يعتقدون أن ورقة كان في الواقع أسقف مكة وينتمي إلى المذهب الأبيوني25 . فإن صح هذا الكلام - وليس هناك ما يدعو إلى الشك فيه - فإن اتجاهات ورقة اللاهوتية قد تركت أثراً بليغاً على مفاهيم محمد بشأن المسيح، والصليب والتجسد26 .
ومن صحابة محمد من اليهود والنصارى الذين أسلموا لسبب أو لآخر: عبد الله بن سلام، وتميم الداري، وعبد الله بن صوريا وبلال الفارسي الذي قيل عنه إنه اعتنق المسيحية قبل إسلامه. فضلاً عمن كان في أهل الرسول من نساء وجوار ينتمين إلى أهل الكتاب. هؤلاء ولا ريب، قد نقلوا إلى الرسول كثيراً من أخبار أهل الكتاب وأنبيائهم كما كانت شائعة في الأوساط الشعبية.
ثم كان هناك جمهرة من الصحابة الذين أخذوا عن أهل الكتاب واشتهروا برواية أخبارهم من غير أن يميزوا بين ما هو مقتبس حقاً من الكتاب المقدس أو ما نسج من أخيلة المحدثين الذين أولعوا بالقصص الشعبية والهراطقة. من هؤلاء الصحابة عبد الله بن العباس ترجمان القرآن، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو هريرة.
وتوحي بعض الروايات المتوافرة لدينا أن محمداً، لم يحظر في كثير من الأحيان، على أتباعه دراسة أو مطالعة التوراة أو الإنجيل. غير أن هذه الروايات لم تفصللنا أي جزء من التوراة أو أي إنجيل من الأناجيل أذن لهم بقراءته،وما هي الدواعي لذلك. وهناك روايات أخرى تنفي أن الرسول قد سمح للمسلمين أن يقرأوا أي كتاب ديني باستثناء القرآن27 .
أورد البخاري في صحيحه بسند عبد الله بن سلام أن النبي قال: 'بلِّغوا عني ولو آية واحدة وحدِّثوا عن بني إسرائيل ولا حرج ومن كذب عليّ متعمِّداً فليتبوَّأ مقعده من النار'28 .
وأشار الحافظ الذهبي إلى حديث جاء فيه أن عبد الله بن سلام قدم على النبي وقال له: ·إني قرأت القرآن والتوراة فقال له: اقرأ هذه ليلة وهذه ليلة29 .
ونعثر في صحيح مسلم على رواية طريفة متَّفق عليها عن طريق فاطمة بنت قيس أنها قالت إن رسول الله قال بعد أن جمع الناس:
... إني والله ما جمعتكم لرغبة ولا لرهبة، ولكن جمعتكم لأن تميم الداري كان رجلاً نصرانياً، فجاء وبايع وأسلم وحدثني حديثاً وافق الذي كنت أحدثكم عن مسيح الدجال30 .
أما الحديث الذي أشار إليه محمد فهو عن الدابة الجساسة وهي، في رأيي، قصة من خرافات الأولين. وفحوى هذا الحديث كما رواه النبي أن تميماً الداري حدثه أنه ركب في سفينة بحرية مع ثلاثين رجلاً من قبيلتي لخم وجذام. وبعد أن مضى عليهم شهر في البحر هبت عاصفة هوجاء ألجأتهم إلى جزيرة حيث لقيتهم دابة كثيفة الشعر بحيث لم يتبينوا 'ما قُبُلُهُ من دُبُرِه'. وعندما سألوها عن نفسها أخبرتهم أنها الجساسة، وطلبت إليهم أن ينطلقوا إلى رجل في الدير.
'قال: لما سمَّت لنا رجلاً فَرَقنا (خفنا) منها أن تكون شيطانة، قال: فانطلقنا سراعاً حتى دخلنا الدير فإذا فيه أعظم إنسان رأيناه قط خلقاً وأشده وثاقاً، مجموعة يداه إلى عنقه ما بين ركبتيه إلى كعبيه بالحديد...'.
ويدور حوار طويل بين هؤلاء البحارة والرجل المصفد بالأغلال يكتشفون فيه أنه هو الأعور الدجال أي المسيح الكذاب.
والواقع إنني أربأ بمحمد أن تكون هذه القصة قد صدرت عنه حقاً، لاعتقادي أنها أقرب ما يكون إلى قصص السندباد البحري منها إلى الحديث الصحيح. ولعل تميماً الداري هذا قد وصلته قصة الوحش الطالع من البحر الواردة في سفر الرؤيا، أصحاح 13، مشوهة فرواها كما أوحت له مخيلته.
ولكن إن صح هذا الحديث فإنه يكشف أولاً عن اهتمام محمد البالغ في الحصول على تأييد أهل الكتاب لصدق دعوته. وهذا أمر ضروري تتطلبه الظروف الدينية والاجتماعية التي أحاطت بالنبي لإثبات ما يدّعيه من نبوّة ولإضفاء صفة الشرعية عليها. وثانياً، إن شطراً كبيراً من الأحاديث المرويّة تنم عن التأثير العميق الذي تركته القصص الشعبية والأساطير في تأويل الآيات القرآنية وتفسيرها. إن الدراسات المقارنة في الأديان وآدابها تبين بوضوح مدى تأثر القرآن بالكتب الأبوكريفية والأساطير اليهودية - المسيحية. فلا عجب إذاً أن يكون التّشويه قد طرأ على قصة الصلب كما أوردتها كتب التفاسير لأنها اعتمدت هذه الخرافات المنكرة31 .
ولكن قبل أن نستوفي البحث في هذا الفصل الأخير أود أن أعلق على آيتين قرآنيتين أعتقد أنهما تلقيان مزيداً من الوضوح على لفظة متوفيك: أما هاتان الآيتان فهما:
'مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ...' (سورة المائدة 5: 75).
'وَمَا مُحَمَّدٌ إِلا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ...' (سورة آل عمران 3: 144).
إذا أمعنا النظر في هاتين الآيتين علىأساس علاقتهما بمصير الأنبياء السابقين نجد أن هناك عاملاً مشتركاً بينهم جميعاً: أنهم كلهم ماتوا. وطبقاً للقرآن، فإن المسيح ومحمداً كانا عرضة للموت. فهما لا يختلفان عن بقية الأنبياء والرسل الذين مضوا من قبلهما. ومن العسير على الباحث الافتراض أن القرآن الذي يجمع بين المسيح وسواه من الأنبياء السابقين أن يستثنيه من الموت. فكما أن عيسى ابن مريم ليس سوى رسول خلت من قبله الرسل يماثلهم في كل شيء، فلماذا لا يماثلهم في الموت أيضاً؟ ومن الواضح أن سياق البحث يتمحور حول الماضي ولا يدور حول حدث مستقبلي، بل إن وجه الشبه يعتمد الماضي وحده. إن المتأمل في هاتين الآيتين لا يجد أي فارق لغوي بينهما. إنهما تشيران إلى المعنى نفسه. وكما مات محمد فإن المسيح مات من قبله أيضاً. وعندما حاول العلماء المسلمون كالجلالين والبيضاوي والرازي تأويل معنى هاتين الآيتين حرصوا جداً على تفادي الإشارة إلى موت الأنبياء القدامى في معرض مقارنة المسيح بهم. صحيح أن القرآن كان يؤنب النصارى الذين ألَّهوا المسيح ومريم، ولكنه في سياق المقارنة بينهما وبين بقية الأنبياء كان يسعى إلى التأكيد على بشريتهما من كل ناحية، وأنهما عرضة للموت. وهذا واضح أيضاً في حالة محمد. إن الدارس للآية 144 من سورة آل عمران يدرك بوضوح أنها تشير إلى معركة أُحد التي كاد النبي أن يُقتل فيها. فمن أغراض هذه الآية إذاً هو الإشارة إلى حقيقة الموت، أي العامل المشترك بين الأنبياء جميعاً بل البشر كلهم.
- عدد الزيارات: 33362