الكتاب المقدس لم يُنسَخ ولا يمكن أن يُنسخ - العهد الجديد ليس محصوراً بين أمة ولا في إقليم دون آخر
فترى من هنا أن العهد الجديد ليس محصوراً بين أمة ولا في إقليم دون آخر، بل هو متسع لقبول من يؤمن بالمسيح من أية أمة وبلاد على وجه الأرض بحيث تمنح له حصته من بركات الله ومزايا الإيمان.
قد رأينا كفاية لعدم لزوم تخصيص مكان للعبادة أو تقديم الذبائح كما كان الحال في شيلوه وهيكل سليمان، ولكن الله خصص شخصاً حياً هيكلاً روحياً ليس بنياناً من طوب وطين، وفيه وحده
تقبل العبادة وتقدم الذبائح الروحية التي أشرنا إليها آنفاً، وهذا الشخص هو يسوع المسيح، فعلى المسيحي الحقيقي أن يقدم نفسه لله ذبيحة حية مقدسة لا في مكان مخصص بل في شخص المسيح لكي يحوز باستحقاقه القبول والرضا عند الله. نرى مما تقدم أن شريعة الذبائح المفروضة في التوراة تمت في العهد الجديد، وارتفعت إلى اعتبار أكرم ومعنى أسمى وتم ذلك في الساعة التي استغنى فيها الحال عن حرفية هذه الشريعة ووضحت روحانيتها.
ثم فُرض في التوراة ثلاثة أعياد لليهود، وأُمر ذكورهم أن يصعدوا في كل عيد إلى المكان الذي اختاره الرب ليظهروا أمامه - خروج 23 :14 و17 وتثنية 16 :16. غير أن اليهود على مرّ السنين والأزمان غالوا في الاعتبار الخارجي لهذه الأعياد وتجاوزوا الحد وظنوا أنهم بذلك يحرزون رضا الله والتقرُّب إليه وإن كانوا يهملون التقوى الحقيقية فلهم في حفظ هذه الأعياد ما يكفر ذنوبهم. فغضب الله عليهم وكره أعيادهم وأرسل إليهم أنبياءه ببلاغ مخصوص في هذا المعنى. ومن ذلك قوله "رُؤُوسُ شُهُورِكُمْ وَأَعْيَادُكُمْ بَغَضَتْهَا نَفْسِي. صَارَتْ عَلَيَّ ثِقْلاً. مَلِلْتُ حِمْلَهَا. فَحِينَ تَبْسُطُونَ أَيْدِيكُمْ أَسْتُرُ عَيْنَيَّ عَنْكُمْ، وَإِنْ كَثَّرْتُمُ الصلَاةَ لَا أَسْمَعُ. أَيْدِيكُمْ مَلْآنَةٌ دَماً اِغْتَسِلُوا تَنَقُّوا اعْزِلُوا شَرَّ أَفْعَالِكُمْ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيَّ. كُفُّوا عَنْ فِعْلِ الشَّرِّ. تَعَلَّمُوا فِعْلَ الْخَيْرِ الخ" -إشعياء 1 :14-17 وعاموس 5 :21. من هنا نرى أنه لا يحوز القبول لدى الله إلا للذين يتقدمون إليه بالروح والحق. وهذا ممكن في العهد الجديد بالإيمان الحي بكفارة المسيح. ويدل على ذلك قوله "وَأَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً أَجْنَبِيِّينَ وَأَعْدَاءً فِي الْفِكْرِ، فِي الْأَعْمَالِ الشِّرِّيرَةِ قَدْ صَالَحَكُمُ -المسيح- الْآنَ فِي جِسْمِ بَشَرِيَّتِهِ بِالمَوْتِ لِيُحْضِرَكُمْ قِدِّيسِينَ وَبِلَا لوْمٍ وَلَا شَكْوَى أَمَامَهُ" -كولوسي 1 :22. وقوله "فَإِذْ لَنَا أَيُّهَا الْإِخْوَةُ ثِقَةٌ بِالدُّخُولِ إِلَى الْأَقْدَاسِ بِدَمِ يَسُوعَ، طَرِيقاً كَرَّسَهُ لَنَا حَدِيثاً حَيّاً، بِالحِجَابِ، أَيْ جَسَدِهِ، وَكَاهِنٌ عَظِيمٌ عَلَى بَيْتِ اللهِ لِنَتَقَدَّمْ بِقَلْبٍ صَادِقٍ فِي يَقِينِ الْإِيمَانِ مَرْشُوشَةً قُلُوبُنَا مِنْ ضَمِيرٍ شِرِّيرٍ، وَمُغْتَسِلَةً أَجْسَادُنَا بِمَاءٍ نَقِيٍّ" -عبرانيين 10 :19-22.
وفُرض في التوراة الختان وجُعل علامة للعهد المأخوذ بين الله وهو الطرف الأول وبين إبراهيم ونسله وهو الطرف الثاني، ولكنه مشروط على الذين يتَّسمون بهذه العلامة أن يؤمنوا بوعد الله - أنه يتناسل من إبراهيم وإسحاق ويعقوب نسل تتبارك به جميع قبائل الأرض - تكوين 27 :10-14 و18 :18 و22 :18
و26 :4. وكرر الله شريعة الختان على يد موسى النبي - لاويين 12 :3 - على أن الغاية المقصودة منه هي تمييز اليهود عن الأمم، ولم يكن تحقيقها في ذلك الوقت لأن كثيراً من الأمم كانوا مختتنين، فلا بد أن يكون القصد منه والحالة هذه أن يتعلم اليهود أن يختنوا قلوبهم من الشهوات الحيوانية. والتوراة نفسها تؤيد هذا التأويل ومن ذلك قوله "فَاخْتِنُوا غُرْلَةَ قُلُوبِكُمْ" - تثنية 10 :16. وفي مواضع أخرى يفسر ختن القلب بالحب الخالص لله حيث يقول "وَيَخْتِنُ الرَّبُّ إِلهُكَ قَلْبَكَ وَقَلْبَ نَسْلِكَ لِكَيْ تُحِبَّ الرَّبَّ إِلهَكَ مِنْ كُلِّ قَلْبِكَ وَمِنْ كُلِّ نَفْسِكَ لِتَحْيَا" - تثنية 30 :6. وكذلك أسفار العهد الجديد تنسج على هذا المنوال - رومية 2 :25 و28 و29.
ولما أكمل العهد القديم بالعهد الجديد عيَّن الله لهذا علامةً بدل الختان وهي فريضة المعمودية ويوسم بها من يؤمن بالمسيح من أية أمة كانت على وجه الأرض -بشارة متى 28 :19- وهذه العلامة الجديدة مناسبة للرجال والنساء والكبار والصغار، وأنها كالختان تعلّم نقاوة القلب. وحلَّ العماد محل الختان للتمييز بين المؤمنين بالمسيح وبين اليهود والأمم الذين يمارس كثير منهم الختان. وأما ما يشير إليه الختان وهو طهارة القلب والنية فتشير إليه المعمودية من باب أولى - كولوسي 3 :5-17.
وفي العهد القديم فرائض أخرى كثيرة ضربنا عنها صفحاً مكتفين بالذي عددناه والمراد منها توجيه القلب إلى حقائق روحية واستيعابها، ومتى أدركناها لم تبق حاجة إلى ممارسة فرائضها المنظورة، بل تكون مضرَّة إذ يُخشى على الذين يستعملونها أن يتمسكوا بالعرض دون الجوهر كما فعل اليهود الذين تمسكوا بطقوس ورسوم تشير إلى المسيح ورفضوا المسيح نفسه وظنوا أنهم ناجحون بفضل هذا التمسك الباطل.
- عدد الزيارات: 13871