الله طرق إعلانه عن ذاته

نشر في الله طرق إعلانه عن ذاته.

الفلاسفة وظهور الله في الجسد

الباب الخامس

الفلاسفة وظهور الله في الجسد

في هذا الباب نرى

1 - آراء الفلاسفة المنتمين إلى المسيحية اسماً.
2 - آراء الفلاسفة المسيحيين.

الفصل الأول
آراء الفلاسفة المنتمين إلى المسيحية اسماً

كان هؤلاء الفلاسفة ينتمون إلى المسيحية يوماً، غير أنهم فسّروا عقائدها تفسيراً أخرجها عن روح الكتاب المقدس، ولذلك نبذت الكنيسة آراءهم وأقصتهم عن دائرتها. وفيما يلي أهم آرائهم، وأسباب عدم صدقها:

1 - قال الأبيونيون في القرن الأول: وُلد المسيح ولادة طبيعية من يوسف ومريم وحجتهم في ذلك أنه ليس من المعقول أن يولد إنسان ذو جسد حقيقي، بغير هذه الولادة.

وكان غرض الأبيونيين مزج المسيحية باليهودية،ولذلك كانوا ينهون أتباعهم عن أكل لحوم بعض الحيوانات، ويأمرونهم بممارسة بعض الطقوس اليهودية، وقد اندثرت بدعتهم في القرن الرابع.

الرد: (أ) بما أن ولادة المسيح من العذراء ليست من الحقائق التي ذكرها الإنجيل فحسب، بل هي أيضاً من صميم النبوات التي أعلنها الوحي في التوراة، إذن فآراء الأبيونيين ليس لها نصيب من الصواب من الوجهة الدينية.

(ب) وبما أن المسيح عاش على الأرض حياة القداسة المطلقة، التي لا يستطيع أحد من البشر أن يحياها، كما استطاع أن يبعث في نفوس تابعيه حياة روحية سمت بهم فوق مستوى الميول والغرائز الطبيعية، الأمر الذي لا يستطيع القيام بمثله إنسان ما. وبما أنه بعد ما سلَّم نفسه للموت بإرادته، قام قيامة عجيبة صعد بعدها بجسده إلى السماء، مغايراً في ذلك ناموس الطبيعة العام الذي تخضع له البشرية بأسرها. إذن لا شك في أنه لم يكن إنساناً عادياً، بل كان فوق العادي بمقدار ما تحوي هذه الكلمة من سمو ورفعة، ليس لهما مثيل في البشرية، ولذلك فمن الواضح أن تكون ولادته فوق ناموس الطبيعة، أو كما ذكر الوحي أنها كانت من عذراء لم تعرف رجلاً.

وقد أشار إلى ذلك الاستاذ بروس فقال: إن الحياة الفريدة التي عاشها المسيح على الأرض، دليل قاطع على أنه وُلد من عذراء . وقال غيره: إن ولادة المسيح من عذراء هي بداءة طبيعية بالنسبة له، كما أن قيامته من بين الأموات، وصعوده إلى السماء، هما أيضاً خاتمة طبيعية بالنسبة له .

2 - قال الغنوسيون في القرن الثاني: الجسد الذي ظهر به المسيح في العالم، لم يكن جسداً حقيقياً، بل كان جسداً شكلياً أو بالحري أثيرياً، هبط به من السماء ومرَّ به في بطن العذراء مرور الهواء في الميزاب، ولذلك فإنه لم يأخذ جسداً منها وحجتهم في ذلك أن كل ذي جسد حقيقي يخطئ، والمسيح لم يخطئ على الإطلاق.

وكان غرضهم مزج المسيحية بالفلسفة اليونانية، واندثرت بدعتهم في القرن الخامس. ولكن حدث في القرن العشرين أن قام شهود يهوه وغيرهم بإخراجها من مقبرتها وإذاعتها بأساليب متنوعة.

وقد امتد البحث في طبيعة جسد المسيح إلى فلاسفة المسلمين أيضاً، فقال ابن العربي: إن جسد المسيح غير عنصري (أو بالحري غير مادي)، ولذلك لم يعتره فساد (فصوص الحكم ج2 ص 178).

والأثير شيء يختلف عن المادة اختلافاً كلياً، يفترض علماء الطبيعة وجوده في الفضاء، ويُسندون إليه الفضل في نقل الرسائل اللاسلكية. وهذا الأثير كما يقولون لا يتأثر بالحرارة ولا يخضع لأي ناموس من نواميس المادة. أما علماء الأرواح فيقولون إنه أول طبقات العالم الروحي، وإنه قوام الروح للبشرية. وذهب فريق آخر إلى أنه من الجائز أن يكون أزلياً (الدين والعلم، للمشير أحمد عزت باشا ص 95)، وهكذا تتضارب الآراء فيه تضارباً عظيماً.

الرد: تدل حياة المسيح وأعماله وتصرفاته على أن جسده كان جسداً حقيقياً، ولذلك فرأي الغنوسيين ليس له نصيب من الصواب. أما السبب في عدم إتيانه أية خطية فيرجع إلى عاملين رئيسيين هما: (1) ولادته خلواً من الطبيعة الخاطئة التي ورثتها البشرية بالتناسل الطبيعي. و(2) كماله الذاتي الذي بسببه كانت روحه البشرية متوافقة مع لاهوته في كل الأعمال والتصرفات. أما الجسد من حيث هو جسد، فلا يميل إلى الخطيئة، إذ أنه مادة، والمادة لا تتجه من تلقاء ذاتها إلى الخير أو الشر.

3 - قال الباولسيون في القرن الثاني: نزل المسيح من السماء مباشرة بجسد حقيقي وحجتهم في ذلك مثل حجة الغنوسيين، أنه لم يخطئ على الإطلاق.

الرد: هذا الرأي لا يعتمد على نص ديني أو تاريخي، ولا يتفق مع حياة المسيح الواقعية التي عاشها على الأرض. فضلاً عن ذلك فإن الأجساد الحقيقية أو المادية ليس لها وجود في السماء، إذ أن السماء هي عالم الروح الذي لا أثر للمادة فيه على الإطلاق. أما السبب في عدم إتيانه خطيئة، فقد ذكرناه فيما سلف، ولذلك فرأي الباولسيين ليس له نصيب من الصواب كذلك.

4 - وقال أبوليناريوس في القرن الرابع: المسيح وإن كان قد وُلد من العذراء إلا أنه لم يتخذ جسده منها، بل أن جوهره الإلهي استحال إلى جسد في بطنها، ولذلك لم تكن له نفس بشرية، إذ أن لاهوته حل محل النفس فيه . وحجته في ذلك أن النفس تميل إلى الخطيئة، والمسيح لم يمل إليها إطلاقاً، بل عاش كل حياته بعيداً كل البعد عنها.

الرد: (أ) بنى أبوليناريوس رأيه هذا على التفسير اللفظي للآية والكلمة صار جسداً وقد أخطأ خطأ عظيماً، لأن هذه الآية لا تدل على أن اللاهوت تحوَّل إلى ناسوت، كما يتحول الأبيض إلى أسود أو الخشب إلى فحم، بل تدل على أن اللاهوت تجسّد أو ظهر في جسد، كما هو مكتوب: الله ظهر في الجسد (1تيموثاوس 3: 16) لأنه إن جاز أن يتحول الأبيض إلى أسود، والخشب إلى فحم تحت تأثير العوامل الطبيعية، لا يمكن أن يتحول اللاهوت إلى ناسوت، إذ أنه منزه عن الاستحالة والتغيير كل التنزيه.

والآية لا تقول: صار جسماً بل صار جسداً . والجسد يشمل الجسم والروح معاً، كما أنها لا تقول: صار إنساناً أي فرداً من الناس، بل صار جسداً أي طبيعة بشرية كاملة. وكلمة صار هذه تدل دلالة قاطعة على أن المسيح لم يتخذ هذه الطبيعة كرداء يظهر فيه فقط، بل تدل على أنه صار واحداً معها أيضاً، فاللوغوس أصبح يسوع المسيح، الله المتأنس. والصيرورة هنا لا تدل على تحوّل أو تغير في الله، بل تدل فقط على اتحاده بالطبيعة البشرية، ليقرنها به ويمجدها في ذاته.

(ب) فإذا أضفنا إلى ذلك أن المسيح كان يشعر بالتعب والألم والجوع والعطش، والشعور بهذه العوامل ليس من خصائص اللاهوت (لأن اللاهوت منزّه عن التأثر بأي مؤثر) بل هو من خصائص الجسد المرتبط بالنفس، أو بالحري من خصائص النفس المرتبطة بالجسد، اتضح لنا أن ناسوت المسيح كان يحوي نفساً مثل نفوسنا وروحاً مثل أرواحنا، لكنهما كانا خاليين من الخطيئة خلواً تاماً.

5 - قال نسطوريوس في القرن الخامس: لم يكن المسيح هو الله، بل كان إنساناً عادياً حلَّ فيه الله، دون أن يتحد به . وحجته في ذلك أن تجسّد الله يقتضي تعرضه للتغيُّر، وهو لا يتغيَّر. وليوضح وجهة نظره، كان يشبّه اللاهوت بالزيت، والناسوت بالماء. وقد جاراه الفريق المعارض له في التشبيه، فقال إن اتحاد اللاهوت بالناسوت يشبه اتحاد النار بالحديد - ولكن هذا التشبيه لا نصيب له من الصواب أيضاً. لأن النار باتحادها مع الحديد تمدده وتغير صلابته، كما تتأثر هي أيضاً بدرجة حرارته الأصلية. والحال أن اتحاد اللاهوت بالناسوت لم يترتب عليه حدوث أي تغير فيهما أو في أحدهما. والحق أنه من الجهل أن نشبّه اتحاد اللاهوت بالناسوت بشيء من الطبيعة لأنه اتحاد لا شبيه له، كما أن الله لا شبيه له.

الرد: (أ) بما أن تجسّد الله يتوافق مع ذاته وكماله، لأنه ذو تعيّن خاص ولأنه أيضاً يحب البشر ويعطف عليهم، وبما أنه بتجسّده لم يتقيد لاهوته أو ينحصر في حيّز ما، بل ظل كما هو منذ الأزل الذي لا بدء له، لأنه غير قابل للتأثر بأي مؤثر، إذن لا سبيل للظن بأنه بتجسّده تعرض لتغيُّر ما، كل ما في الأمر أنه أظهر ذاته وصفاته بوسيلة يستطيع البشر إدراكه بها. ولا مجال للاعتراض على ذلك، فالمحبة تظهر بمظاهر كثيرة لمن تتجه إليهم، دون أن يطرأ عليها أو على المتصف بها تغيير ما. فاذا أضفنا إلى هذه الحقيقة أن الله ذو تعيّن خاص منذ الأزل، وانه متجلٍّ وظاهر منذ الأزل أيضاً، وأنه بالتجسّد ظل محتفظاً بكل خصائصه، لا يبقى أمامنا شك في خطأ نسطوريوس.

(ب) بما أن حياة المسيح (كما مر بنا في الرد على الاعتراض الأول) لم يكن ولن يكون لها نظير من جهة الكمال، إذن ليس من المعقول أنه كان إنساناً عادياً حل فيه اللاهوت، كما حل روح الله ويحل في القديسين (لأن هؤلاء سقطوا ويسقطون في خطايا كثيرة). بل من المؤكد أن اللاهوت كان متحداً به، أو بتعبير غيره أنه كان الله متجسداً، لأن الكمال له وحده.

6 - وقال أوطيخوس في القرن الخامس: الطبيعة البشرية في المسيح تلاشت في الطبيعة الإلهية، ولذلك كانت للمسيح طبيعة واحدة هي الطبيعة الالهية وحجته في ذلك أن المسيح كان كاملاً كل الكمال.

الرد: أراد اوطيخوس أن يصحح خطأ نسطوريوس فوقع في خطأ آخر، لأن الأعمال الجسدية التي كان يقوم بها المسيح على الأرض، مثل الأكل والشرب والنوم، تدل بكل وضوح على أن طبيعته البشرية لم تتلاشَ، بل كانت موجودة بكل خصائصها، ولذلك فهذا الرأي لا نصيب له من الصواب كذلك.

إن البدع التي نادى بها الزنادقة عن شخصية المسيح جعلت المسيحيين الحقيقيين يدققون في اختيار الألفاظ الخاصة بها كل التدقيق، فقال الكاثوليك واليونان الأرثوذكس والبروتستانت إن للمسيح طبيعتين (وذلك للحذر من بدعة أوطيخوس). ولكنهم بالإضافة إلى ذلك قالوا: إن هاتين الطبيعتين لم تنفصلا ولن تنفصلا على الإطلاق، لأنهما طبيعتا أقنوم واحد، هو الابن المتجسد (وذلك للحذر من بدعة نسطوريوس). أما باقي الأرثوذكس فقالوا: إن للمسيح طبيعة واحدة (وذلك للحذر من بدعة نسطوريوس). ولكنهم بالإضافة إلى ذلك قالوا: إن المسيح كان قائماً بطبيعة إلهية وأخرى إنسانية، إنما بالاتحاد الذاتي دون اختلاط أو امتزاج أو استحالة، صارتا طبيعة واحدة لكائن واحد، هو (الابن، الاله المتأنس) (وذلك للحذر من بدعة أوطيخوس).

وقد نشأ من هذا الاختلاف (إن جاز أن يُسمى اختلافاً) أن الفريق الأول قال: للمسيح مشيئتان متوافقتان كل التوافق وأن الفريق الثاني قال: له مشيئة واحدة، لأنه لا خلاف بين لاهوته وناسوته .

والحق أن أقوال الفريقين متشابهة، بل تكاد تكون واحدة في معناها، فكلٌّ منهما يرفض بدعتي أوطيخوس ونسطوريوس، والفرق الوحيد بينهما (إن جاز أن يُسمَّى فرقاً) هو أن الفريق الأول بدأ بالحذر من بدعة أوطيخوس، وانتهى بالحذر من بدعة نسطوريوس، أما الفريق الثاني فبدأ بالحذر من بدعة نسطوريوس، وانتهى بالحذر من بدعة أوطيخوس.

7 - وقال إيلاريوس في القرن الخامس: إن آلام الصلب وغيرها من الآلام التي وقعت على المسيح، وقعت على اللاهوت والناسوت معاً . وحجته في ذلك أن اللاهوت كان متحداً بالناسوت اتحاداً كاملاً.

الرد: مرَّ بنا أنه باتحاد اللاهوت بالناسوت لم يفقد أحدهما شيئاً من خصائصه، لأنه ليست في أحدهما قابلية للاختلاط أو الامتزاج بالآخر، إذ أن الأول غير محدود ومنزه عن التأثر بالأعراض، والثاني محدود ومعرض للتأثر بها. ولذلك فإن اللاهوت ظل هو اللاهوت بكل خصائصه، والناسوت ظل هو الناسوت بكل خصائصه. وبما أن الأمر كذلك فمن البديهي أن تكون آلام الصلب وغيرها من الآلام قد وقعت على الناسوت وحده، لأنه هو المحدود والمعرض للتأثر بالأعراض.

ومع ذلك نقول إنه نظراً لاتحاد اللاهوت بالناسوت، فإن جميع الاضطهادات التي وُجهت إلى المسيح عندما كان على الأرض، تُحسب أنها موجَّهة إلى الله نفسه، لأن المسيح ليس إنساناً متألهاً أو إلهياً، بل هو الله متأنساً أو ظاهراً في الجسد.

8 - وقال بعض فلاسفة الأرمن في القرن السادس: إن جسم المسيح قديم وحجتهم في ذلك أن المسيح قديم أو أزلي.

النقد: بما أن المادة ليست أزلية بل حادثة، إذن فليس من المعقول أن جسم المسيح كان أزلياً. ومع ذلك نقول إنه نظراً لأن المسيح كان على علم تام بكل شيء أزلاً، بوصفه أقنوم الابن الأزلي فإنه ولا شك كان يعلم منذ الأزل أنه سيتخذ جسداً في يوم من الأيام، كما كان يعلم أنه سيقدم نفسه في هذا الجسد كفارة عن الناس.

الفصل الثاني
آراء الفلاسفة المسيحيين

أما الفلاسفة المسيحيون، وهناك عدد كبير منهم، فقد أجمعوا على أن أقنوم الابن اتحد بناسوت حقيقي اتحاداً تاماً. ومما يجعل لآرائهم قيمة في نظر العلماء ورجال الدين معاً، أن هؤلاء الفلاسفة، فضلاً عن أنهم كانوا من القديسين المشهود لهم بالحياة الروحية السامية، قد كانوا أيضاً من الخاصة الذين نبغوا في العلوم والفلسفة والأدب والطب، وتقلدوا أرقى الوظائف العلمية والاجتماعية والدينية في أيامهم. ويعوزنا الوقت إذا حاولنا تسجيل آرائهم جميعاً، ولذلك نكتفي بما يأتي:

1 - قال القديس بطرس الأول في القرن الرابع: أقنوم الكلمة، الواحد مع أقنومَيْ الآب والروح القدس في اللاهوت، قد تجسد ليعلن لنا اللاهوت، الذي لا نستطيع من تلقاء أنفسنا أن ندركه أو نراه .

2 - وقال القديس الكسندر الأول في القرن الرابع: المسيح، الذي هو صورة الله منذ الأزل، اتحد بناسوت في يوم من الأيام، ليعلن لنا الله، ويجعلنا في حالة التوافق معه .

3 - وقال القديس أثناسيوس الرسولي في القرن الرابع: المسيح هو ابن الله وابن الإنسان معاً، وليست له طبيعتان (أو شخصيتان، كما يقول غيره)، نسجد لإحداهما ولا نسجد للأخرى، بل نسجد له سجوداً كاملاً (أي غير مقتضب)، لأنه له المجد شخص واحد . وقال أيضاً: ابن الله هو بعينه ابن الإنسان، وابن الإنسان هو بعينه ابن الله .

4 - وقال القديس غريغوريوس النزيزي في القرن الرابع: الله الذي لا جسد له، ظهر في جسد، لنراه ونعرفه، وتكون لنا علاقة حقيقية معه .

5 - وقال العلامة أوريجانوس: إن المسيح هو مظهر العقل الخالد. وأن ظهوره في المسيح حادث طبيعي من الحوادث التي يتجلى بها الله .

6 - وقال القديس يوحنا فم الذهب في القرن الرابع: اللاهوت والناسوت اتحدا معاً اتحاداً تاماً في المسيح، حتى أنك تستطيع أن تقول عنه إن هذا الإنسان هو الله .

7 - وقال القديس باسيليوس الكبير في القرن الرابع: إن لاهوت المسيح لم يفارق ناسوته لحظة واحدة، أو طرفة عين .

8 - وقال القديس تيموثاوس في القرن الرابع: المسيح من حيث أقنوميته هو واحد مع الآب والروح القدس في اللاهوت، ومن حيث الناسوت هو مساوٍ لنا في كل شيء ما عدا الخطية .

تعليق: ليس المسيح مساوياً للآب والروح القدس في اللاهوت، بل هو واحد معهما فيه، لأن اللاهوت واحد ووحيد، لا شريك له أو نظير. ولكنه ليس واحداً معنا في الناسوت، بل هو مساوٍ لنا فيه، لأن الناسوت يشترك فيه البشر قاطبة - هذا مع مراعاة أن ناسوته لم يكن مثل ناسوتنا في كل شيء، إذ كان خالياً من الخطيئة خلواً تاماً، الأمر الذي لا يتوافر لأحد منا على الإطلاق.

9 - وقال القديس كيرلس الكبير في القرن الخامس: أقنوم الكلمة لا يُدعى المسيح بالانفصال عن الناسوت، والناسوت المولود من العذراء لا يُدعى المسيح بالانفصال عن أقنوم الكلمة، لأنهما متحدان معاً اتحاداً تاماً . وقال أيضاً: ربنا يسوع المسيح هو أقنوم واحد، لأن ناسوته متحد مع لاهوته باتحاد إلهي لا مجال فيه للتفكك أو الانفصال على الاطلاق .

10 - وقال القديس ديسقوروس الأول في القرن الخامس: اتحاد اللاهوت بالناسوت في المسيح، لم يكن بامتزاج أو اختلاط، لأن كلاً منهما غير قابل للامتزاج أو الاختلاط بالآخر، بل كان بوسيلة إلهية تفوق العقل والادراك .

11 - وقال العلامة ترتوليان الشهير: هل التجسد غير لائق بكمال الله؟ الجواب طبعاً لا، بل هو لائق بكماله كل اللياقة، لأن من مستلزمات هذا الكمال، العطف على الناس وإنقاذهم من خطاياهم وتقريبهم إلى الله، ليعرفوه ويفيدوا منه . والتجسد هو الوسيلة الوحيدة لتحقيق هذه الأغراض.

12 - وقال القديس أبيفانيوس في القرن السادس: الرب نفسه أخذ ناسوتاً خالياً من الخطيئة، وظهر به في العالم بيننا، ثم احتمل في هذا الناسوت آلامنا وأوجاعنا عوضاً عنا. لكن اللاهوت مع اتحاده بالناسوت لم يقع عليه شيء من هذه الآلام أو الأوجاع، لأنه غير قابل للتأثر بأي عرض من الأعراض .

13 - وقال العلامة ساويرس بن المقفع في القرن العاشر: أقنوم الكلمة تجسد وتأنس، دون أن يطرأ عليه تغيير ما .

14 - وقال توما الأكويني في القرن الثامن ما ملخصه: الكلمة الأزلي هو الذي خلقنا، ومن خَلَقنا لا يقسو علينا بل يحبنا ويعطف علينا. وبما أننا بسقوطنا في الخطيئة قد انفصلنا عنه وعجزنا عن العودة إليه، كان من البديهي أن يظهر هو بيننا ليأخذ بأيدينا ويقربنا إليه. وقيامه بهذا العمل يتطلب اتخاذه جسداً مثل أجسادنا لأننا لا نستطيع الاتصال به مباشرة .

15 - وقال يحيى بن عدي تلميذ الفارابي في القرن العاشر: إذا كان الباري علّة وجود خلائقه، فليس إذن من شأنه أن يفسدها أو يهجرها. وإذا كان الأمر كذلك فلا يمكن أن يقف منها موقف المعادي لها أو المبتعد عنها، بل موقف المحب لها أو القريب منها، الذي لا يستنكف من أن يوجد معها في موضع واحد. والتجسد هو اتحاد الباري بالطبيعة البشرية، ووجوده معها في موضع واحد .

16 - وقال كانت في القرن الثامن عشر: لقد قرَّب المسيح بين مملكة الله ومملكة الإنسان . وطبعاً ما كان من الممكن أن يقوم بهذه المهمة، لولا أنه هو الله متأنساً، لأنه لو كان إنساناً إلهياً فقط، (كما يقول بعض الهراطقة) لما استطاع أن يقوم بذلك، لأن الإنسان لقصوره الذاتي لا يستطيع أن يقرِّب بين الله والناس، ولكن الله لكماله الذي لا حدَّ له يستطيع أن يقرِّب بين ذاته وبينهم.

17 - وقال شلينج، في القرن التاسع عشر: المرحلة الأخيرة، هي مرحلة الحكمة الالهية التي بدأت بالمسيحية، إذ أصبح الله موضوعياً لأول مرة في التاريخ، بأن تجسّد في المسيح . وقال أيضاً: وأخيراً جاءت المسيحية، وهي الديانة التي نزل بها الوحي، والتي تناقض عبادة الطبيعة وعبادة الإنسانية كلتيهما. والمسيحية هي اتحاد الواحد (الله) والكثير (الناس)، وهي تناسق الجلال والجمال والقوة، وهي التوافق بين الضرورة والحرية. وحقاً لقد بلغت المسيحية بتعليمها أسمى فكرة عن الله، لأنها تعلن أن الله تجسّد في الإنسان يسوع المسيح. ولأن فيها ذلك السر العجيب الذي يلائم بين النهائي واللانهائي، أي بين الإنسان وخالقه، وبذلك تمّ التوفيق بين الضدين في شخص المسيح .

ويقصد شلينج بالمرحلة الأخيرة المرحلة الأخيرة في معاملة الله للبشر. والمرحلة الأولى هي مرحلة الضمير (وتبتدىء من خروج آدم من الجنة إلى ما قبل نزول الناموس، أو الشريعة الموسوية) والثانية هي مرحلة الناموس (وتبتدئ من نزول الناموس إلى بدء المسيحية). والثالثة هي مرحلة النعمة، او الرحمة والمحبة للذين لا يستحقون رحمة أو محبة (وتبتدىء من ظهور المسيحية وتمتد إلى نهاية الدهر الحاضر). فالله في بدء علاقته مع البشر تركهم لضمائرهم ليفعلوا الخير ويتجنَّبوا الشر من تلقاء أنفسهم. ولما لم يُصغوا لضمائرهم ويطيعوها أعطاهم الناموس بناءً على رغبتهم (خروج 19: 7، 17) لكي لا تغيب عن أذهانهم حدود الخير أو الشر. لكنهم عجزوا كما عجز ويعجز غيرهم، عن العمل بهذا الناموس من تلقاء أنفسهم، لأن البشر جميعاً عاجزون بطبيعتهم عن إرضاء الله وحفظ وصاياه. ولذلك أتاهم في المسيح بالنعمة، مانحاً الغفران الشامل لكل من يؤمن منهم إيماناً حقيقياً، وعاملاً فيه بالروح القدس ليرتقي فوق قصوره الذاتي، ويحيا مع الله حياة التوافق والانسجام. وقد سُميت مرحلة النعمة هذه ب- المرحلة الأخيرة لأن من لا يفيد من معاملة الله فيها لا يفيد من أية معاملة أخرى. والحق أن هذه المراحل الثلاث تتفق مع وسائل التربية الصحيحة كل الاتفاق، فالمربي الحكيم يترك التلميذ في أول الأمر لضميره ليقوم بالواجب عليه من تلقاء نفسه. فإذا لم يقم به أرشده إلى الصواب ونهاه عن الخطأ، وأظهر له فائدة الأول وضرر الثاني. فإذا وجد بعد ذلك أن التلميذ قد عجز عن السير في طريق الصواب من تلقاء ذاته غضَّ النظر عن ضعفه وعجزه، وشمله بالعطف والشفقة، وآزره بنفسه على السير في هذا الطريق. فإذا لم يفد التلميذ بعد ذلك من هذه المعاملة، فطبعاً لن يفيد من غيرها على الإطلاق.

18 - وقال يوحنا داربي: لا نفرِّق في أذهاننا بين اللاهوت والناسوت، وحتى إن فرّقنا بينهما لفظياً، فإنه لا يغيب عن أذهاننا أن الذي جمع في نفسه بين اللاهوت والناسوت هو شخص واحد. فنحن نقول أحياناً إن المسيح هو الله، وأحياناً أخرى إنه إنسان، والحال أنه هو الاثنان معاً. فالكتاب قد قال عنه: لأن فيه سُرَّ أن يحل كل الملء أي أن كلّ ملء اللاهوت كان في المسيح. ولذلك أنشد قائلاً: يا له من حب يجلُّ عن التعبير، ويسمو فوق حدود التفكير، ذاك الذي أعلنتَهُ لنا يا مخلصنا العزيز القدير... ففيك نرى الله والإنسان متحدين في فرد واحد اتحاداً ليس له نظير .

19 - وقال الاستاذ نورمن أندرسون في القرن العشرين ما ملخّصه: إن كائناً علوياً مثل الله، يدرك ما يحسُّ به البشر من حاجة إليه، لا يمكن أن يوجد في معزل عنهم، بل أن يتجلى ويظهر لهم. وكيف يقوم بهذه المهمة؟ الجواب: إن أول ما يتبادر إلى الذهن، هو أن يختار أشخاصاً لهم بصائر روحية مجلوَّة، يودعهم على قدر استعدادهم أفكاره ومقاصده ليبلّغوها إلى غيرهم من البشر. ولكن هذه الوسيلة وإن كانت نافعة، إلا أنها تقصر دون إشباع نفوس البشر، لأن هذه لا تحتاج إلى مجرد معرفة عن أفكار الله ومقاصده، بل تحتاج إلى الاتصال به شخصياً، لأن في الاتصال به راحة لها وحلاً لكل مشكلاتها، ولذلك كان من البديهي ألا يقف عند حد إعلان أفكاره ومقاصده للناس، بواسطة الرسل والأنبياء، بل أن يتفضّل ويظهر بذاته لهم، في هيئة يستطيعون معها الاتصال به والافادة منه. وهذه الهيئة لا تكون شيئاً سوى الهيئة البشرية .

20 - وقال الاستاذ سمسون في القرن العشرين: إن أبرز صفات المحبة هي الخدمة والكرم والتضحية، فإذا كان الله محبة (كما أعلن الكتاب) كان من البديهي أن يخدمنا ويضحي من أجلنا ويمنحنا كل ما نحن في حاجة إليه، ولذلك كان من المتوقع جداً أن يتجسّد، لأن التجسّد هو الوسيلة الوحيدة التي نستطيع بها الاقتراب منه والتمتع به، وبكل ما لديه من خير .

21 - وقال الأستاذ طمسون في القرن العشرين: إن تجسّد الله هو الوسيلة الوحيدة التي تهيء للإنسان سبيل الاتصال به، وفي هذا الاتصال يبلغ الإنسان ذروة المجد والجمال . وقال كذلك: إن أعظم إعلان قدَّمه الله للبشر هو كلمته متجسداً أو متأنساً، ولذلك لسنا بعد في حاجة إلى وحي يعلن لنا شيئاً عن الله، لأننا في هذا الكلمة المتأنس قد عرفنا كل ما يمكن معرفته عنه .

22 - وقال الدكتور ولسن في القرن العشرين: المسيحية التي أسسها المسيح تختلف عن كل دين من الأديان، للأسباب الآتية: (أ) الدين يطلب أولاً من الإنسان أن يسعى ليعرف الله، أما المسيحية فتعلنه له من أول الأمر بوضوح وجلاء. (ب) الدين يطلب أولاً من الإنسان أن يسعى ليُرضي الله. أما المسيحية فتنبئه من أول الأمر أن الله يُسرّ بالإنسان، لأنه خلقه على صورته كشبهه. (ج) الدين يظهر نقائص الإنسان وعيوبه، فيحيا الإنسان لذلك حياة الحزن والخوف، أما المسيحية فتغطي عيوب الإنسان ونقائصه، فيحيا حياة الفرح والاطمئنان. (د) الدين يطلب من الإنسان أن يجاهد بنفسه في سبيل تنفيذ وصايا الله، ولذلك لا يستطيع واحد من البشر أن يقوم بتنفيذها، لأنهم جميعاً عاجزون بطبيعتهم عن التوافق مع الله، أما المسيحية فتنبئه أن الله يعطي حياة روحية لكل من يؤمن إيماناً حقيقياً،و بهذه الحياة يستطيع تنفيذ تلك الوصايا، على أكمل وجه. (و) الدين هو فلسفة الحياة، أما المسيحية فهي الحياة نفسها، لأن المسيح محا الخطيئة التي تفصل الإنسان عن الله، ووضع يد الإنسان في يد الله، ويد الله في يد الإنسان، وهذه هي الحياة بعينها . ولا يستطيع القيام بذلك إلا من كان هو الله متجسداً.

23 - قال الدكتور الكسندر فندلي: إذا أردنا أن نفهم معنى القول إن الله تجسّد أو أن المسيح هو الله يجب أن نضع أولاً أمامنا أن الله محبة . فهو لا يتصف فقط بالمحبة، بل أن كيانه (إن جاز هذا التعبير) هو محبة. والمحبة لا يمكن أن تختفي، بل لا بد أن تتجلى وتظهر. ولذلك إذا رجعنا بأبصارنا إلى الوراء، رأينا أن المحبة في الله أول ما ظهرت بالنسبة لنا، في خلقه للعالم المتناسق الجميل، بما فيه من جماد ونبات وحيوان، ثم ظهرت بعد ذلك في خلقه للإنسان على صورته كشبهه، ليكون في حالة السمو والتوافق معه. ولذلك كان من البديهي أنه المحبة نفسها يأخذ جسداً ويظهر فيه للإنسان، بعدما فسدت طبيعته وعجز عن الدنو منه، ليستطيع الإنسان أن يتصل به ويعود إلى الحالة السامية التي كان قد خُلق عليها من قبل. ولا سبيل إلى الظن أن تجسّد الله يعرضه للتغير أو التطور، لأن الزمن لا ينفصل عن الأزلية، بل هو متصل بها كل الاتصال: فالمحبة التي كانت في ذات الله أزلاً، والتي كانت متبادلة بينه وبينها حينذاك، لم يكن من الممكن أن تتوارى، عندما دعت ظروف الإنسان إلى ظهورها، بل أن تظهر وتظهر بكمالها. ولذلك لا عجب إذا رأينا المسيح (الذي هو الله متجسداً) لم يكن محباً فقط، بل كان هو المحبة بعينها، فقد كان يشع محبة لا حد لها، ليس نحو الذين أكرموه وأحبوه فقط، بل ونحو الذين أبغضوه وأساءوا إليه أيضاً، دون أن تكون له غاية، سوى تطهير الجميع من خطاياهم، والارتقاء بهم إلى جو القداسة والطهارة ليستطيعوا التوافق مع الله والتمتع به .

والحق أن المحبة هي الكمال بعينه، لأنه إذا خلت صفة صالحة من المحبة فقدت جمالها بل وقيمتها أيضاً. فالقوة إذا خلت من المحبة كانت بطشاً، والعظمة إذا خلت من المحبة كانت كبرياء، والعزيمة إذا خلت من المحبة كانت استبداداً، والعدالة إذا خلت من المحبة كانت قسوة وجفاء. كما أن الرحمة إذا خلت من المحبة كانت تساهلاً، والكرم إذا خلا من المحبة كان تبذيراً، والوداعة إذا خلت من المحبة كانت مذلة وخنوعاً، وهكذا الله كامل في عدالته ورحمته، كامل في عظمته ووداعته، ولا حد لكماله في أية ناحية من النواحي.