الله طرق إعلانه عن ذاته

نشر في الله طرق إعلانه عن ذاته.

خاتمة الكتاب

خاتمة الكتاب

وفي هذه الخاتمة نرى

1 - عقيدة التجسّد.
2 - الأدلة على صدقها.
3 - أهميتها وفوائدها.

الفصل الأول
عقيدة التجسّد

1 - وحدانية الله (أو اللاهوت) هي وحدانية جامعة مانعة، لأن هذه تتوافق مع كماله واستغنائه بذاته عن كل شيء في الوجود. وجامعية هذه الوحدانية هي أقانيم، والأقانيم هم الآب والابن والروح القدس .

2 - اتَّخذ أقنوم الابن أو الكلمة الذي يعلن الله أو اللاهوت منذ الأزل لنفسه من عذراء طاهرة جسداً خالياً من الخطيئة خلواً تاماً، ليعلن لنا الله الذي لا يمكننا إدراكه من تلقاء أنفسنا و ليقرّبنا إليه ويجعلنا في حالة التوافق معه.

3 - إنه بتجسّده لم يتقيد لاهوته بأي قيد من قيود الجسد المكانية أو غير المكانية، ولم يطرأ عليه تطور أو تغيّر على الإطلاق، بل ظلَّ هو اللاهوت المنزَّه عن الزمان والمكان، عن التأثر بأي عرض من الأعراض، لأنه منزَّه عن أن يتأثر بأي مؤثر.

الفصل الثاني
الأدلة على صدق عقيدة التجسُّد

أولاً - الأدلة العقلية على صدقها

1 - بما أن الله مع لانهائيته وتنزُّهه عن الحدود، هو ذو تعين خاص، وكان يظهر للأنبياء والقديسين في العهد القديم في حيز خاص، تارة في هيئة غير منظورة، وتارة في هيئة ملاك أو إنسان ليعرِّفهم ذاته ويبلِّغهم مقاصده بوسيلة مدركة لديهم، إذن فهو بالتجسّد لم ينتقل من لا تعيّن إلى تعيّن، لأنه متميّز بتعيّن أزلاً، ولم يتحيّز بمكان بعد أن كان غير متحيّز به، لأن اللاهوت لا يتحيّز بحيّز على الإطلاق، مهما بدا في حيّزٍ خاص.

2 - بما أن الله كان يعلم أزلاً أن الإنسان سيخطئ ويصير عاجزاً وقاصراً عن معرفته، وأن العلاج الوحيد للتسامي به فوق خطيئته وقصوره، هو ظهوره للإنسان بحالة مدركة لديه، ليعرفه الإنسان ويفيد منه، وبما أنه يحب الإنسان ويعطف عليه، وليس من شأن المحب أن يعتزل من يحبهم بل أن يظهر لهم ويمد يد المعونة إليهم، كان من البديهي أن يتجسّد الله حتى يقدر الإنسان إدراكه والإفادة منه. وتجسّده في هذه الحالة لا يكون حدثاً طارئاً جاز فيه في الزمان، بل يكون عملاً له أساس في ذاته أزلاً، كما أنه لا يكون متعارضاً مع ذاته أو ما بها من خصائص، بل يكون متوافقاً معها ومع خصائصها كل التوافق، لأن المحبّة تتجلى لمن تتجه إليهم، دون أن يطرأ عليها أو على صاحبها تغيير ما.

3 - بما أن المسيح وُلد من عذراء وعاش على الأرض حياة الكمال الذي ليس بعده كمال، وبعد موته قام من بين الأموات وصعد إلى السماء، مغايراً في ذلك جميع الناس والكائنات، إذن فمن المؤكد أنه لم يكن واحداً من الناس أو غيرهم من الكائنات، بل كان هو الله كما قال، لأن هذه الأعمال لا يمكن أن يقوم بها سواه.

4 - إن جميع الاعتراضات الفلسفية والعقلية، على اختلاف الأديان التي ينتمي إليها قائلوها، لا نصيب لها من الصواب على الإطلاق.

ثانياً - الأدلة الدينية والتاريخية على صدقها

1 - تنبأت التوراة التي كُتبت قبل الإنجيل بمئات السنين أن الله سيتجسد، وأن الإنجيل الذي أتى بعدها صادق على هذه التنبؤات وشهد بإتمامها في المسيح، وتدل جميع القرائن على أن نبوَّات التوراة وشهادة الإنجيل صادقة كل الصدق.

2 - شهد القرآن (رغم اختلافه عن الكتاب المقدس في موضوعات كثيرة) أن المسيح هو كلمة الله ، وأنه وُلد من عذراء، وأنه عاش على الأرض دون أن يخطئ على الإطلاق، وأخيراً صعد بجسده حياً إلى السموات، الأمر الذي يدل على أنه (على الأقل) لم يكن إنساناً عادياً.

3 - إن كل الكتب الدينية والتاريخية، التي كُتبت في القرون الأولى، تشهد أن المسيحيين كانوا من أول نشأتهم يؤمنون أن المسيح هو الله، وهذا دليل على أن عقيدة التجسد أصلية في الكتاب المقدس.

4 - إن جميع الاعتراضات الدينية على اختلاف مذاهب قائليها، لا نصيب لها من الصواب إطلاقاً، ولذلك فالتجسد لا يتوافق مع ذات الله وصفاته فحسب، بل ولا اعتراض عليه أيضاً من أية ناحية من النواحي.

الفصل الثالث
أهمية عقيدة التجسّد وفوائدها

1 - بسقوطنا في الخطيئة انحرفنا عن الله وعجزنا عن الاقتراب منه، ولو تُركنا وشأننا، لقضينا حياتنا في هذا العالم وفي الأبدية أيضاً بعيداً عنه. والبعد عن الله هو للنفس جهنم بعينها. ولكن بتجسُّده هيأ لنا سبيل الاقتراب إليه والتمتع به. فضلاً عن ذلك فإنه بتجسّده قد أعلن لنا ذاته بكل وضوح وجلاء، فلم يعد الله الإله المجهول المحفوف بالغموض والإبهام، كما كنا نتصوره من قبل، بل الإله المفهوم لعقولنا والمعروف لقلوبنا، فازددنا بذلك يقيناً به وعلاقة معه.

2 - وبتجسّده عرفنا كذلك، أنه مع سموه وتنزّهه عن التأثر بأي مؤثر، ليس الإله المتعالي عنا الذي لا يعبأ بنا، بل الإله المحب لنا القريب منا، الذي يُسرّ بأن يتصل بنا ويشاركنا في كل ظروفنا، ولذلك لم تعد الصلاة لدينا مجرد واجب نؤديه لله كما يؤدي العبيد واجبهم نحو سيدهم الذي لا تربطهم به سوى رابطة العبودية، بل أصبحت علاقة المحبة الحقيقية، إذ اتضح لنا أنه يحبنا ويعطف علينا ويهتم بنا إلى درجة لا حد لها.

3 - وبتجسّده عرفنا فيه أيضاً ما هو الكمال، فارتقت مداركنا الروحية ارتقاءً ما كانت لتبلغه من تلقاء نفسها، فقد عرفنا مثلاً أن القداسة ليست فقط الامتناع عن عمل النجاسة، بل هي أيضاً عدم النظر إليها أو التفكير فيها أو التحدث عنها، كما أنها ليست فقط عملاً سلبياً، بل هي عمل إيجابي يُقصَد به التوافق مع الله في كماله وطهارته. وعرفنا كذلك أن نفوسنا ليست قليلة القدر كما كنا نظن من قبل، بل أنها أثمن من كنوز الأرض قاطبة، ولذلك فإننا بنعمة الله نسعى للسمو بها فوق الأرض وأهوائها، ونحفظها في حالة التوافق معه في أفكاره وصفاته.

4 - إننا بكل أعمالنا الصالحة لا نستطيع أن نكفّر عن خطايانا، لأن خطايانا هي تعدٍّ على حقوق الله، وحقوق الله لا حدَّ لها، كما أن ذاته لا حدَّ لها، بينما أعمالنا الصالحة مهما كثُرت وتنوّعت فهي محدودة، والأعمال المحدودة لا تستطيع أن تكون تكفيراً عن إساءة موجّهة إلى حقوق غير محدودة. ولا يستطيع الإنسان الخالي من الخطيئة (إذا فرضنا وجود مثله بيننا)، أو الملاك الذي لا عيب فيه، أن يقوم بهذه المهمة نيابة عنا، لأن كلاً منهما محدود، والمحدود لا يستطيع إدراك حقوق الله غير المحدودة، ومن ثمّ لا يستطيع أحدهما أن يكفر عن الإساءة التي وُجّهت إلى حقوقه بسبب خطايانا، ويكون الله وحده هو الذي يستطيع أن يكفِّر عنها، لأنه هو وحده الذي يعرف حقوقه غير المحدودة. وإذا كان الأمر كذلك، كان من البديهي أن يتفضل ويأخذ جسداً من جنسنا، لأن تكفيره عن خطايانا نيابة عنا، لا يتأتى إلا إذا تنازل وأخذ مثل هذا الجسد، لأن النائب يجب أن يكون واحداً من الذين ينوب عنهم، كما هو معلوم لدينا. هذا من جهة، ومن جهة أخرى لكي يقبل في الجسد المذكور نتائج خطايانا التي كان يجب علينا أن نقبلها نحن، حتى يكون تكفيره عنا تكفيراً حقيقياً أو قانونياً. (والتكفير، سواء في اللغة العربية، أو في غيرها من اللغات، هو قيام المسيء بالتعويض عن الإساءة التي حدثت منه، حتى ينال الصفح والغفران).

ويتفق معنا القرآن في بعض آياته على أن الله هو الذي يكفر عن آثامنا، فقد جاء في آل عمران 193 هذا الدعاء: فاغفر لنا ذنوبنا وكفِّر عنا سيئاتنا . ولكن المفسرين يقولون إنه يقصد بالتكفير في هذه الآية المغفرة وحدها، بينما يقصد به في حالة الحنث باليمين (مثلاً) التعويض عنه بإطعام عشرة مساكين أو كسائهم أو صوم ثلاثة أيام. أما في الكتاب المقدس، فيُقصد بالتكفير،القيام بالتعويض اللازم عن الإساءة.

وقد يسأل سائل: لماذا لا يصفح الله عن خطايانا من مجرد رحمته، دون أن يقوم بمهمة التكفير عنها نيابة عنا، وليس هناك من يعارضه إذا صفح عنها دون القيام بهذه المهمة؟

وللرد على ذلك نقول: وإن كان ليس هناك من يعارض الله أو يناقشه الحساب، لكن هناك كمال صفاته الذي لا يتصرف إلا بمقتضاه. وإذا عرفنا ذلك اتضح لنا أنه مع رحمته التي لا حدّ لها، فإن من مستلزمات كماله ألاَّ يتساهل في شيء من مطالب عدالته، لأنه لو فعل ذلك لأصبحت عدالته أقل شأناً من رحمته. وبما أن عدالته لا تقل عن رحمته إطلاقاً، إذن فمن البديهي أن يقبل التكفير بنفسه عن خطايانا، لأن هذا يكون أكثر موافقة لكماله من الصفح عنا وتقريبنا إليه بوسيلة لا تتفق مع عدالته. فضلاً عن ذلك فإنه أيسر لعقولنا أن تؤمن بإله يحب خليقته ويضحي من أجلها، من أن تؤمن بإله غير كامل الصفات، أو إله ينحاز إلى صفة دون أخرى.

5 - أخيراً نقول إننا إذا تحوّلنا بأبصارنا عن ذواتنا، ونظرنا إلى الله في كماله المطلق، وما ينطوي عليه هذا الكمال من محبة لا حدّ لها، وجدنا أن التجسّد لم يكن مجرد عمل قام به الله لأجل فائدتنا فقط، بل كان أولاً وقبل كل شيء تصرفاً محبَّباً لذاته ومتوافقاً معها كل التوافق. لأن خطايانا لم تحرمنا نحن فقط من التمتع به، بل أنها حالت أيضاً دون مواصلة تمتعه هو أيضاً بنا، بوصفنا خليقته العزيزة لديه، ولذلك كان من البديهي ألا يقف صامتاً إزاء خطايانا، أو يتركنا وشأننا ننال عواقبها في أنفسنا، بل أن يظهر لنا ويخلصنا منها، ويأتي بنا إلى حالة التوافق والانسجام معه، حتى تتم أغراضه السامية من خلقه إيانا.

قد تبدو هذه الحقيقة غريبة أمام بعض القراء، لكن إذا سلّمنا بأن الله قد خلقنا على صورته كشبهه، وأنه نفخ فينا من روحه (تكوين 2: 7)، اتضح لنا أن هناك علاقة ( أو بتعبير أدق) وحدة، تربطنا به رباط الأغصان بكرمتها، أو رباط الأبناء بأبيهم، واتضح أيضاً لنا أنه يحبنا أكثر مما نحبه، ويُسرّ بنا أكثر مما نُسرّ به، ويهتم بأمورنا أكثر مما نهتم نحن بها، واتضح كذلك لنا أن خطايانا وتعدياتنا لا يمكن أن تقلل من محبته لنا، وإن جاز التعبير، تزيده عطفاً علينا واهتماماً بنا، وتدعوه للاقتراب منا والأخذ بناصرنا. ولذلك لا يكون في تجسّده إجحاف بسمو ذاته، بل إعلان لما فيها من محبة وعطف وحنان.