القرآن والكتاب المقدس

نشر في القرآن والكتاب المقدس.

مقدمة

لماذا نحتاج إلى كتاب لنردَّ على كتاب؟ ما هو ذلك الكتاب الذي نتحدث عنه رغم مرور أكثر من عشر سنوات على صدوره؟ وأي كتاب هذا الذي ينتزع طبيباً من ممارسة مهنته لمدة ثلاث سنوات يتفرَّغ أثناءها لكتابة رد عليه؟

إنه كتاب تجده تقريباً في كل مكتبة في المشرق والمغرب العربيين، كما تجده بيد أي شاب مصري في أمريكا، يستخدمه ليؤثر في الفتاة التي يريد أن يرتبط بها. وهو الكتاب الذي يلي كتب القرآن والحديث في جامع ريجنت بلندن. وهو يحتل مكانة كبيرة حتى أنه تُرجم من لغته الأصلية الفرنسية إلى الإنكليزية والعربية والإندونيسية والفارسية والصربكرواتية والتركية والأوردوية والكجوراتية والألمانية.

كانت أول مرة سمعت فيها عن هذا الكتاب (الذي كتبه طبيب فرنسي) من شاب تونسي قال لي: هل سمعت عن كتاب الدكتور موريس بوكاي: القرآن والتوراة والإنجيل والعِلم ؟ إنه يحوي الكثير عن الكتاب المقدس والقرآن. يقول إن القرآن خالٍ من الأخطاء العلمية .

وعندما فحصت كتاب دكتور بوكاي لنفسي وجدته يقول: بفضل الدراسة الواعية للنص العربي استطعتُ أن أحقّق قائمة أدركت بعد الانتهاء منها أن القرآن لا يحتوي على أية مقولة قابلة للنقد من وُجهة نظر العلم في العصر الحديث (ص 13). ووجدتُه يقول إن في الأناجيل أموراً متناقضة لا تتفق والعِلم.. الخيال والهوى في عملية تحريرها.. التعديلات غير الواعية التي أُدخلت عليها (ص 13). ويقول إن المتخصصين في دراسة الكتاب المقدس يتغافلون هذه، وإن ذكروها يحاولون أن يستروها ببهلوانيات جدلية (ص 14).

وواضح أن المسلمين يهتزّون طرباً بكتاب د. بوكاي لأنه، إن كان صحيحاً، يعزّز ثقتهم في القرآن، ويكون بمثابة شاهد ثانٍ على صحّته .. ولو أنه يُحزِن المسيحيين لأنه يغفل الأدلة القوية على صحة الكتاب المقدس. فهو لا يذكر مثلاً نبوات الكتاب التي تحقَّقت.

وينكر د. بوكاي أن الأناجيل من كتابة شهود عيان، وبكلمات قليلة يُسقِط ذكر نسخ الإنجيل القديمة، تاركاً قارئه يظن أنه لا يوجد ما يشهد لصحة نصوص الإنجيل الذي بين أيدينا اليوم. بل إنه يشبّه الإنجيل ب أغنية رولاند التي تجمع حقيقة صحيحة بضوء زائف . وتتناسب هذه الأفكار مع ما يدَّعيه معظم المسلمين من أن المسيحيين حرَّفوا إنجيلهم، وأنه لا يوجد شاهد صادق على ما قاله المسيح أو فعله.

ومع أن هذه التهمة مزعجة، إلا أني اعتدتُ عليها لكثرة ما سمعتُها من المسلمين الذين تحدَّثتُ معهم لسنوات طويلة في شمال أفريقيا، وظننت أنها ما عادت تزعجني. ولكني كنت مخطئاً، فقد زرت المتحف البريطاني بلندن عام 1983 لأرى واحدةً من أقدم مخطوطات الكتاب المقدس وهي السينائية التي ترجع إلى عام 350م. وما أن رأيتُها حتى خُيّل لي أني أسمع أصوات من قالوا لي مئات المرات: حرَّفتم كتابكم! صارخين بذلك في وجهي مجتمعين، فانفجرتُ باكياً. وإلى الآن وأنا أكتب هذه الكلمات تدمع عيناي! أردت أن أمد يدي من وراء الزجاج لألمس المخطوطة بيدي، كما تمنيت أن ألمس إخوتي الذين كتبوها منذ 1600 سنة، فقد شعرت بالوحدة معهم، رغم أنهم ماتوا منذ أمدٍ بعيد. لقد كان أمامي برهان ملموس على أن الإنجيل باقٍ كما هو بغير تغيير. وبالطبع لم يسمحوا لي أن ألمس المخطوطة، فاكتفيت بالتقاط صورة لها، تراها في موضع آخر من هذا الكتاب، وانصرفت.

وهذا الكتاب بين يديك الآن ليس مجرد رد على تقييم د. بوكاي لكلٍ من القرآن والكتاب المقدس. ولكنه أكثر من ذلك: إنه محاولة لدراسة المواجهة بين الإسلام والمسيحية على مستوى عميق، عقلياً وعاطفياً. فالمسلمون مثلاً يقولون إن محمداً سيكون شفيعهم، وهي فكرة عاطفية مريحة، لأنه لا يوجد من يريد أن يقف وحيداً في اليوم الأخير. ولكن هل هناك برهان قرآني على فكرة شفاعة محمد؟

يقول المسيحيون إن المسيح مات نيابةً عن ذنوب العالم كله، وإنه الآن حي ليشفع في كل الذين يضعون ثقتهم فيه كمخلّصٍ لهم. فهل يوجد برهان إنجيلي على صحّة قولهم هذا؟

ويدَّعي المسلمون أن الكتاب المقدس تحرَّف. فهل يوجد برهان من القرآن أو من الحديث أو من التاريخ على صدق هذه الادّعاء؟

وإن كان الكتاب المقدس والقرآن يتناقضان، فكيف يميز المرء الصحيح منهما؟ وكيف نؤمن بصحة نبوَّة نبي ما؟

وسأعرّفكم مَن أنا حتى أحاول دراسة هذه الأمور؟

أولاً: مهنتي الطب، وثانياً: تعلمتُ اللغة العربية في شمال أفريقيا، وثالثاً: أني درست القرآن والكتاب المقدس. ومع ذلك فإن بعض نقاط هذا البحث تخرج عن دائرة معلوماتي، لذلك لجأت إلى المتخصصين في ميادين كثيرة: بدءاً من عِلم الفلك إلى الجيولوجيا، وحتى عِلم الأجنَّة، لأتحاشى الأخطاء بقدر الإمكان. كما لجأت لعلماء اللغة العربية كما استشرت كثيرين من أصدقائي ليُقيّموا دراستي. ولكني أتحمَّل وحدي مسئولية ما كتبت.

افتراضات أساسية

تحدثت في الفصلين الأول والثاني عن افتراضات أساسية، وعن التحيُّز الطبيعي عند كل كاتب. وإني أفترض أساساً أن الكتاب المقدس وثيقة تاريخية صادقة، وأن بشارة الإنجيل المفرحة هي صحيحة. وفي بحث معاني القرآن والإنجيل حاولت أن أقبل المعاني الواضحة للنصوص، كما فهمها سامعوها عندما سمعوها أول مرة، وأن أتحاشى فرض معاني من عندي غير موجودة في النص. وللقارئ أن يقرر مقدار نجاحي في محاولتي هذه.

وقد قال لي صديق إن اختياري للتعبير افتراض أساسي ليس اختياراً موفَّقاً، خصوصاً في الفصول التي تحدَّثتُ فيها عن العلوم، واقترح أن أستخدم التعبير افتراض مسبَّق أو مسلَّمات . ولكني فضَّلت ما اخترت، لأنه يسير في خُطى فكر الفيلسوف البريطاني وليم أوف أوكام (عام 1300م) والذي قال: لا يجب أن نضاعف الافتراضات الأساسية عن الطبيعة الجوهرية للأشياء بدون سبب . وهو يعني أن نحذف كل افتراض زائد.

وفي كل مرة نفترض فيها افتراضاً أساسياً مهما كان صغيراً نكون قد بدأنا شيئاً جديداً، يكون علينا معه أن نفكر في شرح جديد ممكن. ونجد أنفسنا دوماً نفترض افتراضات جديدة لنجد حلاً للمشاكل، كما سنرى في الفصل الأول من جزء 3 من هذا الكتاب أن أصحاب نظرية النقد العالي افترضوا أن موسى لم يعرف الكتابة. وفي الفصل الثاني من جزء 1 يفترض د. بوكاي أن كلمة دخان في القرآن تشير إلى الغازات البدائية، بينما يفترض بعض العلماء المسيحيين أن كلمة ماء في التوراة يمكن أن تُستخدَم بذات المعنى. وفي الفصل الثاني من جزء 4 نرى الدكتور بوكاي يفترض عدة افتراضات أساسية في مناقشته للسماوات السبع. ولا خطأ في محاولته هذه ولا خطية، ولكن علينا أن نقلّل من هذا ما في وسعنا.

والآن تعالوا بنا نعيد دراسة كتاب القرآن والتوراة والإنجيل والعِلم .