القرآن والكتاب المقدس

نشر في القرآن والكتاب المقدس.

افتراضات أساسية تميَّز بها كتاب الدكتور بوكاي

قال د. بوكاي إنه توخَّى الموضوعية المطلقة في ما كتب، وإنه بدون أي فكر مسبَّق فحص الوحي القرآني، وأعاد الفحص نفسه على التوراة والإنجيل بذات الروح الموضوعية، وإنه بدأ من الحقائق وليس من المفاهيم الغيبية، وافترض أن المرء يمكن أن يكون استنتاجياً يأخذ المعرفة من الحق، وليس استقرائياً يرى ما يريده في النص (ص 13).

ولكن ما يقوله د. بوكاي يناقض مكتشَفات القرن العشرين في العلوم الإجتماعية، فلا يوجد ما يُقال عنه وذلك بدون أي فكر مسبَّق وبموضوعية تامة . ويوضح توماس كون في كتابه تركيب الثورات العلمية (9) أن تفسير الحقائق العلمية يتوقف على بِنية المفسّر الغيبية، وقال إن فلاسفة العلم برهنوا مراراً أنك يمكن أن تحصل على نظريتين علميتين مختلفتين مبنيتين على ذات المعلومات! وفي عام 1905 اقتبس جيمس أور كتابات اللاهوتي الألماني بيدرمان الذي قال إن الواجب هو دراسة النصوص بدون أفكار وافتراضات مسبَّقة، ولكن الواقع أن كل طالب يجيء إلى المباحث التاريخية بنوعٍ من التعريفات التي تعيّن الحدود، يراها الطالب افتراضات عقائدية مسبَّقة (10).

وعندما يقول د. بوكاي إنه موضوعي فإنه يتجاهل افتراضاته المسبَّقة. ولذلك سنُوضح أربعةً من افتراضاته المسبقة، وهي:

1 - العلم هو مقياس كل شيء.

2 - يجب أن يتكلم الكتاب المقدس لغة القرن العشرين.

3 - للقرآن أن يتكلم لغة عصره.

4 - افتراضات أخرى عن الكتاب المقدس.

1 - العلم هو مقياس كل شيء:

يفترض د. بوكاي أن التوافق بين العلم والدين هو المقياس الأول الذي يحدد صحة النصوص الدينية. وفي هذا الافتراض بعض الحق. ولكن ما هو مستوى التوافق المطلوب؟ وما هو مستوى الصحَّة العلمية اللازمة؟ كلنا يعلم أن الصحّة العلمية نالها تغيير كثير، ود. بوكاي يعترف بهذا ويقول:

إننا عندما نتحدث هنا عن حقائق العلم فإننا نعني بها كل ما قد ثبت منها بشكل نهائي. وهذا الاعتبار يقضي باستبعاد كل نظريات الشرح والتبرير التي قد تفيد في عصرٍ ما لشرح ظاهرة، ولكنها قد تُلغَى بعد ذلك تاركةً المكان لنظريات أخرى أكثر ملاءمة للتطور العلمي. وإن ما أعنيه هنا هو تلك الأمور التي لا يمكن الرجوع عنها، والتي ثبتت بشكل كافٍ بحيث يمكن استخدامها بدون خوف الوقوع في مخاطرة الخطأ، حتى وإن يكن العلم قد أتى فيها بمعطيات غير كاملة تماماً (ص 12).

وتعريف د. بوكاي للعلوم مقبول للمناقشة، ولكنه يعطيك الانطباع أن العلم محدود بالفيزياء الفلكية وعِلم الأجنَّة والمائيات. ولكن عندما نتأمل جذر كلمة عِلم (هو أمر يحب د. بوكاي عمله) نرى أنها تشمل كل ما نعلمه من معرفة، من علم الآثار والتاريخ والجيولوجيا، كما أن هناك معلومات دينية عن النبوات وتحقيقها. ويقول د. بوكاي:

هذه المواجهة مع العلم لا تتناول أية قضية دينية بالمعنى الحقيقي للكلمة (ص 12).

ونحن نختلف معه في هذا، فإن هدف كل كتابة وقراءة في أي كتاب هو البحث عن الحقائق الدينية. وأهم سؤال ديني هو: هل هناك إله؟ ثم كيف أعرفه وأنشئ علاقة معه؟ . وسنجد كتباً في علم الأحياء أو الكيمياء صحيحة علمياً، ولكنها لا تذكر اسم الله أبداً. وفي بعض الأحيان تتعارض المعارف العلمية والدينية، وكمثال لذلك ما بحثه د. بوكاي عن النجوم والكواكب والشهب الثاقبة التي تنقضّ فتثقب ما تنزل عليه، فقد اقتبس من سورة الصافات 37:6 (وهي من العصر المكي الأول) إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةِ الكَوَاكِبِ . ولا مشكلة في هذا، ولكن قراءتنا للآيات التالية ترينا مشكلة دينية. تقول الآيات 7-10 من سورة الصافات وَحِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ لاَ يَسَّمَّعُونَ إِلَى المَلَإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ دُحُوراً وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ .

وهنا نرى الشهب الساقطة (وهي مادية) في مواجهة مع أشخاص روحيين، فالله يضرب الشيطان بالشهاب الثاقب. الله روح، والشيطان روح، والله الروح يضرب الشياطين الروحية بنيازك مادية. (سنناقش هذا بتفصيل في جزء 4 فصل 2). ثم يقول د. بوكاي: ولكن المعنى يصبح مبهماً عندما يشرك القرآن اعتبارات ذات طابع روحي صرف بمفاهيم مادية يسيرة على فهمنا، وقد استنرنا اليوم بالعلم الحديث (ص 182). ثم يقول: كل هذه التأملات تبدو خارج موضوع هذه الدراسة (ص 183).

ولا شك أن سورة الصافات 6-10 تواجهنا بصعوبة، لا يكفي أن يُقال معها يصبح المعنى مبهماً أو خارج موضوع هذه الدراسة . فإن كتاباً يحمل عنوان القرآن والتوراة والإنجيل والعِلم كان يجب أن يتعامل مع هذه الصعوبة ويوضحها.

ولهذا السبب لا أقول إن كتابي هذا يتوقف عند الشئون العلمية، أما الأمور الروحية فتخرج عن نطاقه. فكتابي يعالج العلوم، كما يعالج المشاكل الأساسية التي تواجه المسيحيين والمسلمين في نقاشهم معاً. سأناقش: ما الذي يقوله القرآن عن الكتاب المقدس؟ هل حقاً تحرّف الكتاب؟ كيف يعرف المسلم أن القرآن لم يتحرف؟ ما هي مكانة الحديث؟ ماذا يقول القرآن والكتاب المقدس عن الشفاعة؟ كيف نميّز النبي الصادق؟

د. بوكاي لا يقيس القرآن والكتاب المقدس بالمقياس ذاته

2 - يفترض د. بوكاي ضرورة أن يتكلم الكتاب المقدس لغة القرن العشرين:

يحكم د. بوكاي على الكتاب المقدس بمقاييس القرن العشرين، فيقرأه كوثيقة علمية. فإذا ظهر له أن فقرة تحتوي على معلومات غير مقبولة علمياً يقول إنها ليست وحياً! وكل ما يبدو له في الكتاب المقدس غير معقول أو غير محتمل يكون برهاناً على خطأ الكتاب. وهو يدَّعي أنه ما لم يتفق الكتاب المقدس مع العلم الحديث فإنه لا يكون كلام الله، ولا حتى وثيقة تاريخية صحيحة. وهو لا يقبل تفسيراً يصحح رؤيته الشخصية. وكل محاولة للتوضيح هي ذلك الذي أخفاه هؤلاء المعلّقون تحت بهلوانيات جدلية حاذقة غارقة في الرومانسية المديحية (ص 285).

ويطلقون على طريقة د. بوكاي هذه في التقييم اسم أسلوب الهجوم لأنك ترى فيها التحيُّز ضد كل وثيقة، مع بذل الجهد ليجعل كل ما يعنّ له يبدو خطأً .

3 - للقرآن أن يتكلم بلغة عصره:

يقول د. بوكاي إن العلم الحديث هام جداً، وهو المقياس المضبوط الذي يشهد لصحَّة القرآن. ويبدو أن د. بوكاي يقيس الكتاب المقدس والقرآن بذات المقياس، لكن ببعض التفريق:

فبعد اقتباس الآيات 27-33 من سورة النازعات يقول: إن وصف نِعم الله الدنيوية على الناس، ذلك الذي يعبّر عنه القرآن، في لغة تناسب مزارعاً أو بدوياً من شبه الجزيرة العربية، مسبوق بدعوة للتأمل في خلق السماء (ص 162).

إذاً لم يعُد نقص الدِّقة العلمية عيباً كما يدَّعي د. بوكاي على الكتاب المقدس! لقد اعتبر كلمات سورة النازعات امتيازاً ممنوحاً لأهل قريش البدو أو المزارعين الذين عاشوا قبل عصر العلم الحديث، فكلمهم القرآن بلغة تناسبهم! وهذا ما نسمّيه أسلوب التوفيق بين العلم والكتب المقدسة.

وبناءً على هذا الافتراض يقول د. بوكاي إنه لا توجد صعوبات في القرآن، مع أنه يقول إن تفسير كل كلمة لكل من تلك الآيات أمر عسير (ص 221). وقد سبق أن قال إن الشهب الثاقبة مبهمة، ولكن لا توجد فيها صعوبات ولا ترجيحات ولا احتمالات .

وفي صفحة 146 من كتابه يقول د. بوكاي:

من هنا ندرك كيف أن مفسّري القرآن (بما في ذلك مفسرو عصر الحضارة الإسلامية العظيم) قد أخطأوا حتماً وطيلة قرون في تفسير بعض الآيات التي لم يكن باستطاعتهم أن يفطنوا إلى معناها الدقيق. إن ترجمة هذه الآيات وتفسيرها بشكل صحيح لم يكن ممكناً إلا بعد ذلك العصر بكثير، أي في عصر قريب منا. ذلك يتضمن أن المعارف اللغوية المتبحرة لا تكفي وحدها لفهم هذه الآيات القرآنية، بل يجب بالإضافة إليها امتلاك معارف علمية شديدة التنوّع.. ذلك يعني أن إنسان القرون السالفة لم يكن باستطاعته إلا أن يتبيّن في هذا الجزء من الآيات معنى ظاهراً قاده في بعض الأحوال إلى استخراج نتائج غير صحيحة، وذلك بسبب عدم كفاية معرفته في العصر المعني به .

ولكي يتحاشى د. بوكاي هذه التفاصيل الدقيقة حاول أن يخترع معاني جديدة للكلمات العربية لتتفق مع العلم الحديث. وقد فرح كثيرون من دارسي العلوم المسلمين بجهود د. بوكاي، غير أن افتراضه أن المفسرين المسلمين القدامي المتبحّرين في اللغة العربية ونحوها ومعانيها كانوا أقل قدرة على فهم القرآن من المحدثين (خصوصاً الأوربيين) يبدو فخراً فارغاً. فقد نزل القرآن بلسان عربي مبين ليفهمه القريشيون. ونعتقد أن د. بوكاي أوجد لنفسه تفسيره الخاص!